المواطَنة والسلم الأهلي في القدس

غلاف المواطنة والسلم الاهلي في القدس الشرقية

عرض/ محمود الفطافطة

إن عملية تعزيز المواطنة والسلم الأهلي لا تتطلب سباقا في المبادرات بقدر ما تحتاج إلى تجسيد متطلباتها في أرض الواقع. فالخطوة المفتاحية تتمثل في تعزيز المشاركة وقيمها على كافة المستويات، على أن يترافق ذلك مع تطوير أجندة بحثية وسياساتية، وبرامج عمل، للنهوض بالمواطنة والسلم الأهلي بوصفهما رافعتين للتحرر الوطني من الاحتلال من جهة، وللنجاح في بناء الدولة المستقلة كدولة مواطنة يسودها السلم الأهلي المعزز لقيم المواطنة.

ولتبيان مفهوم ودلالات وتطبيقات وأبعاد المواطنة ارتباطا بالسلم الأهلي تنطلق دراسة الباحث وليد سالم نحو تقصي العلاقة بين مكونين، هما: المواطنة والسلم الأهلي بأوجهه المختلفة سياسيا وقانونيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، في واقع القدس الشرقية تحت الاحتلال الإسرائيلي، المترافق مع استعمار استيطاني ينتهج أساليب الاقتلاع والإحلال والتهميش والتغييب.

‪المؤلف: وليد سالم‬ الناشر: مؤسسة ACT للدراسات والوسائل البديلة لحل النزاعات، القدسالطبعة: الأولى، 2018
‪المؤلف: وليد سالم‬ الناشر: مؤسسة ACT للدراسات والوسائل البديلة لحل النزاعات، القدسالطبعة: الأولى، 2018

في المحور الأول من الدراسة يعالج الكاتب تحت عنوان "إطار نظري.. المواطنة والسلم الأهلي" المواطنة وتعريفاتها العديدة، مركزا على تعريف متداول لها، وهو أنها "علاقة قانونية من الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطن والدولة". ويشير إلى أن المواطنة تشمل ثلاثة أوجه، الأول: علاقة قانونية من الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطن والدولة والمجتمع والوطن. الثاني: علاقة عضوية من الحقوق والواجبات المتبادلة بين المواطن والمجتمع. الثالث: علاقة انتماء بين المواطن والوطن.

ويميز المؤلف بهذا الإطار مفهوم المواطنة عن الإقامة، إذ يوضح أن المقيم يتمتع بحق الاقامة لأمدٍ محدد يطول أو يقصر حسب القوانين المختلفة للدول، وهذا الحق قابل للسحب والإلغاء. أما المواطنة فهي عقد اجتماعي دائم لا تستطيع الدولة إلغاءه بقرارٍ منها إلا في حال تم خرق حقوق الإنسان والقواعد الدستورية، كما أنه حق لا يزول بمغادرة المواطن لبلده، حيث يحق له العودة للبلد كما أفادت المادة (13) فقرة (2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

كذلك، فإن الدراسة تعرج على العلاقة بين المواطنة والجنسية، حيث تذكر أن الدراسات القانونية تشير إلى ثلاث طرائق لاكتساب الجنسية: الأولى حسب مكان الولادة، والثانية حسب النسب والنسل، والثالثة حسب الهجرة والتجنس. وقد اعتمدت إسرائيل طريقة رابعة غير متعارف عليها تقضي بمنح المواطنة والجنسية لليهود بمجرد "عودتهم" إلى إسرائيل، وذلك وفق "قانون العودة لإسرائيل لعام 1950" والذي تبعه "قانون الدخول إلى إسرائيل لعام 1952" منظما لدخول "الأجانب" إليها. وهي قوانين عنصرية تمنح الجنسية استنادا للدين، بينما تحجبها عن السكان الأصليين الباقيين في وطنهم بعد قتل وتشريد القسم الأكبر منهم.

انفصلت المواطنة الفلسطينية عن المواطنة السورية، وتأكد ذلك في ميثاق 1922

مشاركة ومسؤولية
وفي محور "مفهوم وتطبيقات السلم الأهلي وعلاقته بالمواطنة" يوضح الكاتب أن السلم الأهلي في أي مجتمع يترتب عن وجود المواطنة بشكل يقارب التلقائية. ويبين أن الحاجة تظهر إلى السلم الأهلي باتجاهين، الأول: من أجل الدعوة والعمل لتصريف النزاعات بين الانقسامات بشكل سلمي، وهنا يأتي إصدار وتعميم وثائق مثل مواثيق الشرف، والعهود لعدم الاقتتال والاحتكام للعنف في حل المنازعات. أما الاتجاه الثاني فيسعى لأن يكون تكريس السلم الأهلي مدخلا للانتقال من مجتمع الانقسامات ما قبل المواطنية إلى مجتمع المواطنية. 

وبانتقال إلى "المواطنة في فلسطين" فإن المؤلف يشير إلى أن ارتباط المواطنة بفلسطين قد بدأ عام 1919 مع عقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس، حيث انفصلت المواطنة الفلسطينية عن السورية، وتأكد ذلك في ميثاق 1922 الذي أكد المشاركون فيه على "نعاهد الله والتاريخ والأمة على مواصلة السعي في سبيل استقلال بلادنا وتحقيق الوحدة العربية بالذرائع المشروعة، وإننا لا نرضى بالوطن القومي والهجرة اليهودية".

ويتابع المؤلف: بعد عام 1967، طبقت دولة الاحتلال أوضاعا متباينة لحقوق الإقامة بين الضفة والقطاع والقدس. ففي الضفة اعتبرت دولة الاحتلال الفلسطينيين أنهم "مواطنون أردنيون مقيمون في أرض مدارة من إسرائيل ولم تقل محتلة منها". أما فلسطينيو القدس، فقد اعتبرت أنهم "مواطنون أردنيون يقيمون في أرض إسرائيل". وبخصوص قطاع غزة، فقد تم اعتبار سكانه أنهم "مقيمون غير محددي الهوية" في أرض مدارة من إسرائيل.

وبعد نشوء السلطة الفلسطينية عام 1994 توحد الوضع بين الضفة وغزة من خلال جواز السفر الفلسطيني الذي مثل خطوة إلى الأمام، وذلك رغم أن صدوره لكل شخص يتطلب موافقة إسرائيل. بينما بقيت مواطنة المقدسيين شائكة سياسيا، وإن كانت فلسطينيتها محسومة تاريخيا، وبقيت مواطنة لاجئي 1948 ونازحي 1967 بدون حل سياسي حتى اليوم.

المواطنة الفلسطينية قائمة تاريخيا وتبدد المجتمع لا يلغيها

تابوت المواطنة
في تطرقه إلى "المواطنة والسلم الأهلي في فلسطين" يرى المؤلف أن المواطنة الفلسطينية قائمة تاريخيا وأن تبدد المجتمع لا يلغيها، وهي تعاني اليوم من واقع عدم القدرة على إعادة التجسد على الأرض. وفي هذا الشأن، يستعرض تأثيرات الانقسام على المواطنة والسلم الأهلي، حيث يوجزها في:

 أولا: نشأ منظوران للمواطنة أحدهما وطني والثاني إسلامي، وكأنه لا جسر بينهما.

ثانيا: انشطار في المواطنة، وارتكاس بالعودة للتقوقع ضمن الارتباطات الفئوية والزبائنية على حساب الرابط الوطني والمواطني العام.

ثالثا: ترتب على ذلك تراجع وانعدام تبادلية التسامح وقبول الآخر لصالح تعزز التعصب.

رابعا: انتعاش التنظيمات الجهادية وأفكارها المتطرفة سيما في القطاع.

خامسا: نشوء سرديتان فلسطينيتان متناقضتان حول تفسير ما جرى، أهو انقلاب أم حركة تصحيح؟ وينسحب ذلك على كيفية التعليم حول طبيعة الهوية الفلسطينية والمواطنة من المنظورين الإسلامي والوطني، مما حول التعليم من رافعة لتعزيز السلم الأهلي إلى باعث للتناحر والاقتتال.

سادسا: رجوع الأفراد إلى البنى العضوية الأولية من عائلة وعشيرة، مما أضعف بدوره البنية الجمعية المواطنية.

سابعا: تعززت عسكرة المجتمع، وساد منطق أن القوة وحدها هي ما يمكنها استعادة الحقوق.

جرى خلق مواطنة إسرائيلية لقاطنيها في المدينة، حلت محل الفلسطينية

مواطنة مغيبة
في محور "المواطنة في القدس الشرقية" تؤكد الدراسة أن المواطنة الفلسطينية المثبتة تاريخيا للمقدسيين قد أصبحت مواطنة مغيبة من قبل الاحتلال الذي قام بفرض عدة إجراءات فيما يتعلق بمواطنة المقدسيين، منها: فصل المواطنة عن الأرض/الإقليم، وذلك عبر ضم الأرض إلى دولة الاحتلال، ونزع حقوق المواطن في ملكيتها وحيازتها، كما نزع الاحتلال المواطنة الفلسطينية ذاتها، وذلك من خلال اعتبار أن فلسطينيي القدس "مواطنون أردنيين مقيمون دائمون في إسرائيل" علاوة على إخضاع أرض القدس إلى عملية تهويد عبر البناء المكثف للمستوطنات.

كما جرى خلق مواطنة إسرائيلية لقاطنيها في المدينة، حلت محل المواطنة الفلسطينية التي تم تغييبها، ومنحها في المقابل صفة الإقامة المؤقتة القابلة للانتزاع لأسبابٍ مختلفة.

ويجمل الكاتب خمسة إجراءات معقدة شائكة خضع لها المقدسيون:

أولا: الترحيل من المدينة بطرق شتى: منها سحب الهويات وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وفرض حياة اقتصادية صعبة، وغير ذلك.

ثانيا: عزل من يتبقى من المدينة المقدسة في أحياء متناثرة منفصلة عن بعضها البعض من خلال إقامة المستوطنات.

ثالثا: التلاعب بحدود المدينة البلدية عبر إخراج مواقع فلسطينية منها، وإدخال مواقع إسرائيلية إليها.

رابعا: فصل المقدسيين عن فلسطينيي الضفة والقطاع.

خامسا: منع نشوء أي مظاهر لحياة فلسطينية مستقلة في المدينة، مترابطا مع حالة تهميش وإفقار وتدمير لكل مقومات الحياة في المجمعات المحلية المقدسية.

وفي حديثه عن "إسقاطات واقع المواطنة المقدسية على السلم الأهلي في المدينة" يشير الكتاب إلى أنه ظهرت بالقدس مشكلات في السلم الأهلي بين المقدسيين وبين السلطة الفلسطينية نتجت عن تأجيل اتفاقية أوسلو لموضوع القدس إلى مفاوضات المرحلة النهائية، كما تعمقت هذه المشكلات بعد نقل المركز القيادي الفلسطيني نقلا كاملا من القدس إلى رام الله بعد وفاة فيصل الحسيني وإغلاق بيت الشرق عام 2001.

ويرى المؤلف أنه توجد حالة غير سوية مهددة للسلم الأهلي بين الطرفين يمكن أن تنشأ عنها توترات في أي وقت. كما أن هذه الحالة زعزعت -في المقابل- وحدة المجتمع المقدسي الداخلي بين مؤيد للسلطة ومعارض لها.

هذه الحالة وغيرها قد تسبب تهديدات للسلم الأهلي سيما وأنها تؤجج الاحتقان الداخلي تجاه دور السلطة الوطنية في حماية مؤسسات القدس، وتزيد حالة الاحتقان تعقيدا بعجز السلطة عن توفير موازنات كافية لدعم أصحاب البيوت المهددة بالهدم، وتعويض ومساعدة من تهدم منازلهم، ولدعم حماية العقارات من المصادرة ـ كما أن جزءا من الاحتقان موجه ضد العرب لعجزهم عن الإيفاء بوعود التمويل التي تطرح للقدس في القمم العربية.

لا يمكن الفصل بين المواطنة والسلم الأهلي، فهما موضوعان متداخلان

توصيات
على المستوى القانوني، توصي الدراسة بدراسة قانونية شاملة ومعمقة حول سبل وآليات العمل لسريان القانون الفلسطيني على القدس الشرقية ومواطنيها في ضوء قرار الأمم المتحدة لعام 2012 والقاضي بالاعتراف بفلسطين كدولة.

أما سياسيا، فيطالب بتعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار على مختلف المستويات، وتعزيز الكفاح ضد الاحتلال. وعلى الجانب الاجتماعي، تؤكد وجوب صون حقوق المواطن وواجباته المجتمعية بالمشاركة في التنمية المحلية، ونبذ الفردية وتعزيز العمل الجماعي والمشاركة الفعالة في قضايا الشأن العام.

اقتصاديا، يؤكد الكتاب ضرورة إسهام القطاع الوطني بالمشاركة والتضامن من خلال برامج المسؤولية الاجتماعية.

وعلى المستوى الفكري والثقافي، يوجب اقتراح مبادرات طلابية تتعلق بالوساطة المدرسية والجامعية وإكساب الأطفال والشباب مهارات حل وتصريف الخلافات قبل تفاقمها.

أما إعلاميا، فيراه المؤلف أهم الروافع لتعزيز قيم المواطنة والسلم الأهلي، ويكون ذلك بالترويج للمواطنة وحقوقها وواجباتها والسلم الأهلي، وتطوير برامج بهذا الشأن.

وبهذا، يخلص الكتاب إلى أنه لا يمكن الفصل بين المواطنة والسلم الأهلي، ويؤكد أنهما موضوعان متداخلان، ولا انفصام بينهما سواء في العمل من أجل التحرر الوطني، أو من أجل البناء الوطني في مواجهة المشروع الاستيطاني.

المصدر : الجزيرة