التعليم في القدس.. تحديات وثبات

اكاكتظاك الطلاب في ساحة مدرسة دار الأيتام الإسلامية في باب السلسلة في القدس القديمة

في القدس كل شيء يبدو مختلفا، حتى بزوغ الفجر فهو مختلف، فبدلا من الأمل والحياة يأتي الفجر حاملا معه سطورا من تشتت ومعاناة تعيشه الأسرة المقدسية بشكل يومي منذ بدء الاحتلال لمدينة القدس، فما إن تعلن مآذن الحي نداء الفجر الروحاني حتى تستعد أم محمد لمعركة خروج فلذات الأكباد للمدارس، ولكن عليها قبل ذلك مراجعة القائمة الطويلة ذات الأسماء الستة لتحديد المرجعية التي تشرف على مدارس أبنائها.

ففي القدس تقسم المدارس إلى مرجعيتين رئيسيتين فلسطينية وإسرائيلية: الأولى تشرف عليها وزارة التربية والتعليم الفلسطينية وتشكل ما نسبته حوالي 47% من قطاع التعليم، وتشمل مدارس الأوقاف العامة بنسبة 14%، والمدارس الأهلية والخاصة بنسبة 31%، ومدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بنسبة 2%. أما المرجعية الثانية فتشرف عليها وزارة التربية والتعليم وبلدية القدس الإسرائيلية وتشكل ما نسبته 53% من مجمل قطاع التعليم في القدس.

مدارس ومرجعيات
يدرس أحمد في القدس في مدارس الأوقاف التي تلتزم بالتقويم الفلسطيني، وعليه فقد فتحت مدرسته أبوابها كمدارس فلسطين جميعها، ولكن عليه أن ينطلق مبكرا جدا قبل الطلبة الآخرين؛ لأن مدرسته في القدس، وهو يسكن خارج جدار الفصل العنصري الذي شيدته سلطات الاحتلال لعزل القدس عن امتدادها الوطني الفلسطيني، وعزلت خلفه حوالي ثلث السكان المقدسيين، وعليه أن يعبر حاجز قلنديا الذي يتمترس عليه جنود الاحتلال بما يحمل ذلك من معاناة وخطورة.

لذلك على أم محمد أن تتأكد أيضا من حمل أحمد لشهادة ميلاده في حقيبته التي هي أهم من الشطيرة وعبوة الماء لأنها الوثيقة التي تسمح له بالمرور نحو القدس؛ فهي  تثبت أنه مقدسي وما زال عمره لا يسمح له بحمل الهوية الإسرائيلية الزرقاء التي فرضتها سلطة الاحتلال في عام 1967، وتعطي المقدسيين صفة المقيمين في مدينة القدس لا حق المواطنة الذي يتمتع به أصحاب الأرض الأصليين.

أما عبد الله فلا داعي لإيقاظه؛ لأنه يدرس في مدرسة خاصة تعطل في يوم يختلف عن الآخرين، وفقا لسياسة وأجندة المدرسة الخاصة؛ فبعض المدارس تعطل يوم الخميس وبعضها تكون عطلتها يوم الأحد من كل أسبوع.

وما زال أمام عمر أسبوعان من العطلة؛ لأن مدرسته تتبع لوزارة المعارف الإسرائيلية التي تتبع التقويم الإسرائيلي وليس الفلسطيني.

وبالنظر إلى طفلتها جنى، يعيقها نقص الغرف الصفية في القدس، لذلك ما زال البحث عن مدرسة لها جاريا، فالمدارس الخاصة مرتفعة الأقساط، وفي ظل وجود أكثر من 78% من المقدسيين تحت خط الفقر فإنه يتعذر على الأسرة تسجيل الأبناء فيها أو تسجيل أكثر من طفل.

وبما أنه يوم السبت فسيبقى محمد نائما؛ لأنه رغم أنه لم يتجاوز السابعة عشرة، فإنه ينطلق يوميا إلى أحد المحالّ الإسرائيلية للعمل فاقدا حقه في التعليم والجلوس على مقاعد الدراسة التي تسرب منها مجبرا لعدم توفر غرف صفية كافية في المدارس الحكومية وللحصول على عمل لدعم أسرته ماديا.

تسرب الأطفال
ومع محمد كثير من الأطفال، حيث تشكل نسب تسرب الطلبة في القدس النسبة العليا وتبلغ 14% في الصف التاسع الأساسي (جيل 14 سنة) و16% في الصف العاشر (جيل 15 سنة)  و26% في الصف الحادي عشر 26% (جيل 16) و33%-50% (جيل 17-18).

وعند مرور أم محمد أمام  سرير علي ابن الثلاثة عشر ربيعا، تهز أرجاء المنزل تنهيدة أم مقهورة وحائرة؛ لأن عليًّا ممنوع من الذهاب إلى المدرسة بأمر من مخابرات الاحتلال، فهو يخضع لقرار جائر من محكمة الاحتلال بالبقاء قيد ما يسمى الحبس المنزلي والإقامة الجبرية في المنزل إلى حين بلوغه السن القانونية لمحاكمته على وطنيته وتحت ذريعة إلقائه حجرا نحو مجنزرات الاحتلال.

كذلك على الأم أن تتأكد من أن كل واحد من أطفالها يحمل الكتاب المدرسي المقرر له وفقا للمرجعية التعليمية التي تتبع لها مدرسته، ففي مدارس الأوقاف ومعظم المدارس الخاصة يدرس الطلبة المنهاج الفلسطيني الأصيل الذي تصدره وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية.

أما في المدارس التي تتبع للتعليم الإسرائيلي وبلدية الاحتلال بالقدس فيدرس الطلبة الكتاب الفلسطيني المحرف الذي تعاد طباعته من قبل سلطة التعليم الإسرائيلية في مطابع البلدية، ويخضع للحذف والتشويه من قبل بلدية الاحتلال، حيث يُحذف شعار السلطة الوطنية الفلسطينية والعلم الفلسطيني ودروس وأبيات شعرية وفقرات وكلمات وأسئلة وآيات قرآنية ورموز وطنية، وكل ما يتحدث عن القضية الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني وحق العودة، والمستعمرات وهجرة المستوطنين الإسرائيليين لفلسطين والحواجز والانتفاضة والقرى المدمرة واعتبار الصهيونية حركة سياسية عنصرية، والنضال، وتنمية روح المقاومة والجهاد وتمجيد الاستشهاد وأخذ الأسرى والتمسك بالأرض وفدية الوطن والحس الوطني والانتماء والتراث الحضاري وانتحال الأزياء الفلسطينية وإحراق المسجد الأقصى والقائد صلاح الدين الأيوبي وغيرها من المحذوفات التي تمس الهوية الوطنية الفلسطينية.

تحريف وحذف
فعلى سبيل المثال لا الحصر جرى في  ص 53 الوحدة الرابعة من كتاب: التاريخ للصف التاسع الأساسي حذف الدرس الأول جميعه الذي يتحدث عن "القضية الفلسطينية"، ومن كتاب اللغة العربية للصف الثالث الأساسي ص 20 حذفت صورة الجندي الفلسطيني والعلم الفلسطيني من التعبير الشفوي.

ومادة التربية الإسلامية أيضا لم تسلم من الحذف، ففي صفحة 22 من كتاب التربية الإسلامية للصف السادس الأساسي حذفت الفقرة الرابعة والآية القرآنية التي تذكر "الجهاد في سبيل الله لرفع راية الإسلام ومنع الظلم والفساد في الأرض" وهي قوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون". الحجرات 15.

ومن كتاب التربية الوطنية  للصف الأول الأساسي حذف النشيد الوطني الفلسطيني كاملا، وغيرها كثير من المحذوفات التي استهدفت مواد اللغة العربية والتاريخ والتربية الإسلامية والتربية الوطنية.

وفي سياق آخر بلغ عدد المدارس التي تتبع لسلطة التعليم الإسرائيلية 14 مدرسة، يدرس فيها حوالي 5 آلاف طالب وطالبة من الصف الأول الأساسي وحتى الثاني عشر.

وهذا العام المنهاج الإسرائيلي الذي تعده سلطة التعليم الإسرائيلية للطلبة المقدسيين يخدم ويعزز الرواية الإسرائيلية ويبنى على مادتين محوريتين: "الحياة معا في إسرائيل" و"أن نكون مواطنين في إسرائيل"، فتكون في هذا الكتاب "القدس عاصمة إسرائيل" والنشيد الوطني هو النشيد الإسرائيلي "هتكفاه" والقومية هي اليهودية وعلم الدولة هو العلم الإسرائيلي وشعارها هو الشمعدان الإسرائيلي.

تمويل مشروط
وقد كشفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في 29 يناير/كانون الثاني 2016 عن خطة "تقوم على أساس زيادة الدعم المالي للمدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي أو لديها صفوف تدرس المنهاج الإسرائيلي، وحث المدارس العربية عبر الحوافز المادية على الانتقال من المنهاج الفلسطيني إلى المنهاج الإسرائيلي، وهذا يشمل زيادة الساعات التعليمية للمدارس المتلقية للتعليم الإسرائيلي، إضافة إلى طرح خطة تعليمية واسعة تشمل المرحلة الأساسية وصولا إلى المرحلة الثانوية.
كذلك تربط سلطة التعليم الإسرائيلية عملية ترميم المدارس بتدريس المنهاج الإسرائيلي بدلا من الفلسطيني مما يشكل انتهاكا واضحا لحقوق الأطفال بتلقي التعليم في مدارس صحية وآمنة.

 كما ذكرت هآرتس أنه سيجري تحويل ميزانية خاصة تقدر بأكثر من 20 مليون شيكل (ما يُعادل 5 ملايين و209 آلاف دولار أميركي) لترميم المدارس في القدس الشرقية. وأفادت الصحيفة العبرية أن الأموال ستُحوّل للمدارس التي توافق على تفعيل المنهاج التعليمي الإسرائيلي فقط مما يعني حرمان المدارس التي لا تتبع النظام التعليمي الإسرائيلي من التمويل والترميم.

إن المشهد التعليمي في القدس لا يختلف عن مشهد الحياة اليومية للمقدسيين في كافة القطاعات الحياتية التي تعاني تحديات كبيرة يفرضها الاحتلال على المقدسيين وتتزايد يوما بعد يوم، فإسرائيل ومنذ احتلالها للقدس عام 1967 تعمل ضمن خطة ممنهجة وإستراتيجية لضرب قطاع التعليم، وربطه بجهاز التعليم الإسرائيلي من النواحي الإدارية والإشرافية والتعليمية بهدف فرض سيطرتها على الأرض والإنسان الفلسطيني، وتعمل على طمسٍ كامل لمعالم الثقافة الوطنية وضرب عروبة القدس وأسرلتها ومحو الهوية الثقافية للمدينة وتزوير التاريخ، ونزع وعي الطلبة من خلال التدخل في المناهج الفلسطينية وتحريفها، بما يتماشى مع سياسة الاحتلال الهادفة لتكريس عزل المدينة عن واقعها ومحيطها الفلسطيني وذلك من خلال سلسلة من القرارات والإجراءات التي بدأتها بإلغاء المنهاج الأردني، وإغلاق مكتب التربية والتعليم وقانون الإشراف على المدارس الخاصة، ومحاولة فرض المنهاج الإسرائيلي الذي كان يدرس في مناطق الـ48، إلا أن صمود المقدسيين ووعيهم الرافض للمنهاج الإسرائيلي في حينه والإضراب الذي أعلنوه وامتناعهم عن إرسال أبنائهم للمدارس الإسرائيلية أجبر حكومة الاحتلال على التراجع عن قرارها، والعودة لتطبيق المنهاج الأردني على مراحل: الثانوي عام 73،  الإعدادي عام 78، الابتدائي عام 81، ولكن مع حذف أو تغيير كل ما يدل على فلسطين تاريخيًّا واستخدام التسميات الإسرائيلية للأماكن وتكريس الفكر الصهيوني واللغة العبرية.

معركة صمود
أخيرًا، فإن معركة التعليم الفلسطيني في القدس هي تحدي الصمود والبقاء، وهي ليست معركة المقدسيين وحدهم بل هي معركة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية وكل الدول والشعوب الرافعة لشعارات حقوق الإنسان والقانون الدولي التي عليها أن تقدم جميع أشكال الدعم للمقدسيين في نضالهم وتعزيز صمودهم وحماية موروثهم الديني والحضاري والثقافي والتعليمي.

 

كما على الأمتين العربية والإسلامية أن تتحملا مسؤولياتهما تجاه القدس باعتبارها أرضًا محتلة باعتراف القرار الدولي 2253- 2254  الصادر عن الجمعية العمومية بتاريخ 14 يوليو/تموز 1967، والقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 الذي  أعلن رفض الجمعية العامة لضم الأراضي بالقوة، وشدد على ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من الأقاليم المحتلة منذ عام 1967م، والقرارين 476 و478 الصادرين عن مجلس الأمن بتاريخ 30 يونيو/حزيران 1980 و20 أغسطس/آب 1980 الرافضة للقانون الإسرائيلي المعلن في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1980 المسمى (قانون الأساس)، القاضي بإعلان القدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل، ومطالبة إسرائيل بالتراجع عن هذه الخطوة أيضا باعتبارها مخالفة للقوانين والمعاهدات الدولية (المادة 50 من اتفاقية جنيف الرابعة والمادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) التي تكفل جميعها حق الشعوب تحت الاحتلال في الحصول على التعليم الذي يتماشى مع معتقداتهم وحماية ثقافتهم وتراثهم من التغيير أو التشويه، إضافة إلى أن هذه الخطوة تعتبر خرقًا لقوانين المطبوعات وحقوق حفظ الملكية الفكرية.

المصدر : الجزيرة