الخلاف حول إخراج القيمة في زكاة الفطر والزكوات

أطفال فلسطينيون ينتظرون الحصول على الطعام في مطبخ خيري (رويترز)

سئل الشيخ ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى – عمن يُجيز إخراج زكاة الفطر نقدًا؛ اتباعًا لمذهب أبي حنيفة النعمان- رضي الله عنه- فأجاب: "نقول لهؤلاء: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول؛ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر). المشكلة مع هؤلاء الناس أنهم لا يعرفون قيمة الكتاب والسنة، أو أقل ما يقال: لا يعرفون قدر الكتاب والسنة كما يعرفون قدر الأئمة"؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل. ثم قرر الألباني أن زكاة الفِطر إنما فُرضت "طُعمة للمساكين" أي لإطعامهم؛ بخلاف الزكاة العامة التي شُرعت للتوسعة على الفقراء، وأن الحديث عيّن أصناف الطعام التي يجب إخراج صدقة الفطر منها لا غير.

يعكس جواب الألباني – رحمه الله تعالى – نمطًا من أنماط التفكير من خارج صنعة الفقه، بل والمعادي لها أحيانًا؛ بحجة "اتباع النص". وهذا النمط أرساه طائفة، ولا يزال حيًّا لدى شرائح من الناس، وإنما ذكرنا الألباني استهلالًا ولأثره البارز في اللامذهبية المعاصرة التي تنتسب إلى العمل بالحديث لا غير.

وغرضُنا من إعادة فتح النقاش حول هذه المسألة ليس تناول الأشخاص، بل بيان سعة مدارك النظر الفقهي المذهبي الذي سعى اللامذهبيون عبر العقود الماضية إلى تضييق هذا النظر وحشره في منظوراتهم القاصرة.

وتوسيع مدارك المتفقهة من أمثالي يقوم على ثلاث مسائل:

  • الأولى: رعاية الخلاف الفقهي؛ فمن زاد علمه اتسع صدره واتسعت مداركه، وتَعَقل لكل حكم أو وجه مدركًا؛ خصوصًا أن الخلافات الفقهية، عامةً، والخلاف في مسألة إخراج القيَم في الزكاة، خاصةً، مسألةٌ قديمة ترجع إلى العصر الأول.
  • الثانية: أن ثمة مسلكَين في التفقه: مسلكًا يغلّب جانب التعبد، ومسلكًا يغلّب جانب التعليل، حيث يكون فيه للعقل مَسرَح، ويُعبّر عن هذين المسلكين برعاية اللفظ ورعاية المعنى. وهذان المسلكان موجودان في المذاهب الفقهية في مسائل متناثرة، فتجد مذهبًا يغلّب جانب اللفظ في مسألة، ثم تجده يغلّب جانب المعنى في مسألة أخرى، وهو هو، ولذلك يُحجّر واسعًا بعض المقاصديين من المعاصرين ممن يتورطون في تعميمات على هذا المذهب أو ذاك أو ممن يتوهمون أن رعاية المعنى كانت غائبة في هذا المذهب أو ذاك، ولكن المذاهب جرت وفق منظورات تركيبية تحتاج إلى تبصر ومعايشة للإمساك بمداركها.
  • الثالثة: أن إخراج القيمة يتنازعه نظران: نظرٌ يَطْرُد باب الزكوات في إجازة دفع القيمة أو عدمها، ونظرٌ يفرّق بين زكاة الفطر المفروضة على الأبدان، والزكوات الأخرى المفروضة على الأموال.
  • فالنظر الأول يرى أن باب الزكاة واحد وما يَصْدق على فرع يجب طَرْده في باقي الفروع لتحقيق الاتساق.
  • والنظر الثاني يفرّق بناء على رعاية موضوع الزكاة: الأبدان أو الأموال؟ ومن الطريف أن نجد هذين النظرين في المذهب الواحد، كما في مذهب أحمد مثلًا؛ ففيه روايتان: التفريق بين الزكاة، وزكاة الفطر، والتسوية بينهما؛ لأنهما بابٌ واحد. ومن لم يُحط بهذا علمًا ضاق نظره وضيّق على الناس في الجدل؛ فتكلف في محاججة خصومه؛ رغم أن طرد مسائل الباب والجريان فيها على اتساق – إباحةً ومنعًا – له وجهه، والتفريق له وجهه أيضًا.

    قال عطاء بن أبي رباح: "كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم"، أي عنها

وقد جرى على القول بإخراج القيمة في الزكاة: أبو حنيفة، وهو قولٌ للشافعي، ورواية عن أحمد، واختلفت الرواية عن مالك فأجازه مرة ومنعه أخرى، وهو مذهب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وابن وهب وابن دينار. ورُوي ذلك أيضًا عن بعض الصحابة والتابعين، كما سنوضح لاحقًا. وبه قال جماعة من فقهاء المذاهب، وهو مذهب البخاري. وجوّزه للحاجة الإمام الجويني الشافعي، والإمام ابن تيمية الحنبلي، وقال: إنه المنصوص عن أحمد. ثم إن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أن الواجب في زكاة عروض التجارة هو إخراج القيمة.

وهذا الرأي يقوم -عند التدقيق- على حجج نصية وأخرى عقلية، بخلاف ما أشاع أصحاب النمط الفكري المشار إليه في مطلع هذا المقال؛ لأنهم أرادوا أن يوهموا الناس بأن المسألة ترجع إلى الجهل بقيمة الكتاب والحديث، ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الاستدلالات قديمة ومسطورة في كتب المذاهب، وليس فقط في كتب الحنفية، كما نجد – مثلًا – عند الإمام أحمد القدوري الحنفي (ت. 428هـ) الذي خصص نحو عشر صفحات لبيان حجج الحنفية والجواب عن أدلة خصومهم، وكما نجد عند الإمام الماوردي الشافعي (ت. 450هـ) الذي أفاض في بيان أدلة الحنفية، وكما نجد أيضًا عند الإمام القرطبي في تفسيره، وغيرهم.

ويستند هذا الرأي إلى نصوص القرآن والحديث وعمل السلف والتعليل الفقهي، وبيان ذلك في أربعة أمور:

  • الأول: العموم الوارد في القرآن، فالله – تعالى- قال: (خذ مِن أَمْوالِهِمْ صَدَقة) [التوبة: 103] ولم يَخُصّ شيئًا من شيء فثبت العموم.
  • الثاني: حديث أن مُعَاذًا قال لأهل اليمن: ايِتُونِي بِخَمِيسٍ أو لَبِيسٍ (أي ثوب من قماش) آخذه منكم مكان الذُّرَةِ والشَّعِيرِ في الصدقة فإنه أيسر عليكم وأَنْفَعُ للمهاجرين بالمدينة. وثبت في صحيح البخاري من حديث أنس عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "من بَلَغَتْ عنده صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ [من الإبل] وليست عنده [جَذَعَةٌ]، وعنده حِقَّةٌ فإنه تُؤْخَذُ منه وما اسْتَيْسَرْنَا من شاتين أو عشرين درهمًا". وغير ذلك من الأحاديث التي أوردها بعض الفقهاء في كتبهم ولم أستقصها هنا.
  • الثالث: عمل السلف؛ فقد ثبت دفع القيمة في الزكاة من فعل السلف- رضي الله عنهم- وهو قول عمر، وابنه عبدالله، وابن مسعود، وابن عباس، ومعاذ، وطاووس، وعطاء، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وآخرين من جلة السلف الصالح.

وقد قال عطاء بن أبي رباح: "كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم"، أي عنها. وقد حكى لنا أبو إسحاق السَّبيعي – وهو من التابعين – ما جرى عليه العمل في زمنه، فقال -رحمه الله-: "أدركتهم وهم يُعطون في صدقة رمضان [أي الفطر] الدراهم بقيمة الطعام".

وقد نُقل عن ابن عباس أنه قال: "من جاء ببُر [أي قمح] قُبل منه، ومن جاء بسَويق قُبل منه، ومن جاء بدقيق قُبل منه"، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: "من كان من أهل الديون فعليه نصف درهم صدقة الفطر". وقد روى طاووس أن معاذًا كان يأخذ العروض بالثمن في الزكاة ويجعلها في صنف واحد.

الرابع: تحري مقصود الشارع، أي البحث عن علة الحكم، وهي معنى معقول قَصَد إليه الشارع من وراء الحكم، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم" (أي يوم الفطر)، وهذا يفيد عموم ما يقع به الاستغناء؛ لأنه أراد أن يُغْنَوْا بما يسد حاجتهم؛ ففُهم من هذا أن المقصود الإرفاق بالمساكين، وهذا المقصد قد يتحقق بالعين وقد يتحقق بالقيمة؛ فأيُّ شيء سَدَّ حاجتهم جاز.

ولكن كيف نفهم تعيين أصناف مخصوصة في الحديث الوارد في هذا الباب؟ الجواب أنه وارد في حق قوم لم يكونوا من أصحاب الأموال، وإنما كان مالهم التمر، وقوتهم الحنطة والشعير، ولذلك ذكر – صلى الله عليه وسلم- الأسهلَ عليهم. وجريان العمل بدفع القيمة من السلف الصالح يدل على أنهم فهموا هذا المعنى.

تَحَصَّل من هذا كله، أن النقاش حول إخراج القيم في الزكوات ليس إعمال رأي في مقابلة النص (أو العمل بـ "حكم النص" في مقابل "النص") كما أوهم بعضهم، بل هو نقاش حول تأويل النصوص وتعيين مقصود الشارع هنا.

فالأدلة النصية السابقة مدعومة بعمل السلف، عززت أن هذا عمل بالنص أيضًا، وأن الفقهاء افترقوا في تأويل النصوص على مذهبين: مذهب يرى أن الزكاة هنا عبادة وحق لله – تعالى- ولذلك يجب أن يُغَلّب فيها المعنى التعبدي والوقوف عند النص، والنص بالنسبة له هو تلك الأصناف المنصوصة.

ومذهب آخر رأى أن الزكاة عبادة من جهة، ولكنها تتعلق بالمال وحقوق المساكين من جهة أخرى، وأن النص وارد على معنى إغناء الفقير؛ لقوله – صلى الله عليه وسلم – "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم"، والإغناء يحصل بتلك الأصناف كما يحصل بالقيمة أيضًا، بل بالقيمة يكون أتمَّ وأوفرَ؛ لأنها أقرب إلى دفع الحاجة؛ فالنص – عنده – معلل بالإغناء.

وبهذا كان هذا المذهب الأخير عملًا بالنص أيضًا لا بحكم النص. ومع ذلك، فإن أئمة الشافعية – مثلًا – الذين قالوا: "لا مدخل للأبدال في الزكوات في أصل المذهب"، أي يوقَف فيها – من حيث الأصل – عند ما ورد به النص، قالوا أيضًا: "إذا مست حاجةٌ ظاهرةٌ إلى إخراج البدل، حكمنا بجوازه؛ فإن الأصل الذي به استقلال الزكوات: سدُّ الحاجات. فإن كان تَعبّدٌ وراء حصول ذلك، فهو متبع، ولكن لا يَبعد سقوط ذلك التعبد لحاجة"، كما قال الإمام الجويني.

يتضح من خلال هذا النقاش حجم الاختزالات التي عانيناها – ولا نزال – من نمط التفكير الذي افتتحنا به هذا المقال؛ بسبب ترك التفقه على طريقة الفقهاء، وعدم تحري مدارك الأحكام المودعة في بطون كتب كل مذهب من مذاهب الأئمة الفقهاء، رضي الله عنهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.