قادة حماس.. بين بذل المهج وحملات التشهير!
كانت وجوه المعزّين في مجلس عزاء القائد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس في أبنائه وأحفاده الشهداء، تعبر عن مشاعر متضاربة بين منبهر بصبر القائد ورباطة جأشه، وهو يودّع أفلاذ كبده دفعة واحدة في يوم عيد، وبين حزين متأثر بحجم المصاب الجلل لا يستطيع من وقع هوله النظر في عيني أبي العبد، الصابر المحتسب؛ خوف نكْء الجراح.
كنت من الصنف الأخير، غير أني حاولت الهرب من تلك المشاعر الحزينة والمناظر الدامعة التي لا تليق بالرجال في مشهد كهذا، إلى عقد مقارنة بين الحقائق الثابتة في سِيَرِ أبي العبد وإخوانه – من قادة المكتب السياسي المحيطين به في العزاء، وهي سير كلها جهاد وتعب وتضحية بالأنفس والأموال وبذل المهج- وبين حملات التشهير والأكاذيب وصور الافتراء والزيف التي يحاول إعلام التصهين العربي والغربي ترسيخها عن هؤلاء القادة في الأذهان؛ حسدًا وبغضًا ونفاقًا.
قلب الحقائق
لم يعد خافيًا على أحد خطورة الإعلام على تصورات البشر؛ لقدرة سدنته على قلب الحقائق، فالضخّ الإعلامي الكاذب استطاع أن يوهم الغوغاء في العالم العربي أن الأحرار الذين أفنوا أعمارهم؛ دفاعًا عن كرامة الأديان والأوطان، هم سبب خرابها، فحسب إعلام الإفك أن تونس فقدت ريادتها؛ بسبب الشيخ راشد الغنوشي، ومنصف المرزوقي، وليس نتيجة للاستبداد والتوحّش العلماني، وهكذا دواليك.
يصوّر إعلام الإفك الهمجية الصهيونية والإبادات الجماعية في غزة بصورة البريء المدافع عن نفسه، وأن إسرائيل – رغم قتلها آلاف الرضع والأطفال والنساء والشيوخ وتدمير البيوت والمنازل- حمامة سلام وواحة للإنسانية والديمقراطية والتنوير الغربي في الشرق المظلم المتوحّش، وهو الذي يصور الفلسطيني المشرّد والأفغاني المظلوم المدافعين عن العرض والأرض بصورة الإرهابي القاتل والمعتدي الظالم.
هذا الإعلام نفسه الممول عربيًا، والمخطط له غربيًا، هو الذي يشنّ حملات أكاذيب لتشويه إسماعيل هنية وقادة حماس؛ فخلال الأشهر الستة الماضية، يصاحب القصفَ المستمر على غزة قصفٌ من نوع آخر يستهدف العقل العربي؛ لترسيخ صور كاذبة وأخبار زائفة عن قادة حماس.
فقادة حماس حسب هذه الحملات الإعلامية المنظمة والمتواصلة مجرَّد طلاب دنيا، وسكّان فنادق همُّهم جمع الأموال، وديدنهم كنز القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وحظ أبي العبد شخصيًا من تلك الحملات، أنه ملَّك أبناءَه شركات تجارية عابرة للقارات، وأنه أسكنهم فنادق فخمة، بعيدًا عن عذابات أهل غزة، وأن الرجل – الذي يقود أنبل حركة تحرر وأنصعها مبادئ – متفرّغ خلال الحرب وفي شهر رمضان للزواج بالعشرينيات.
يُسقط إعلاميو الإفك، ما عرفوا عن أولياء نعمتهم من الفساد والثراء والجبن وحبّ الدنيا والتهتك، على قادة حماس، ولو كانوا حقًا يقيمون وزنًا للمبادئ والقيم، لاعترفوا ببطولات القسام وقادة المقاومة الذين يسكنون الأنفاق منذ عقود، ولدافعوا في إعلامهم عن السجناء الذين يقضون أعمارهم وراء القضبان؛ دفاعًا عن المقدّسات، لكنهم آلات كذب، قال لهم سادتهم: اكذبوا فكذبوا، وشوّهوا وأروا الشيطان من أنفسهم كل شرّ.
قادة ذات الشوكة
حين يزيح المرء من أمام عينيه أكاذيب حملات إعلام الإفك، ويتأمل بصدق سيَر قادة حماس الذين كانوا في مجلس عزاء هنية ممن رأيت -وهم نموذج يمثل الحركة والشعب الفلسطيني كله في التضحية والثبات-، سيرى قادة اختار الله لهم طريق ذات الشوكة، فكتبوا تاريخ جهادهم المجيد بدماء قانية ومهج غالية، دفعوها من أنفسهم وأعمارهم، وفلذات أكبادهم، وتلك "سمة أصيلة رافقت مسيرة حماس وهي علامة خير وصدق لديها"، كما يقول القائد والأسير المحرَّر حسام بدران في تأريخه لأبطال "كتيبة الشمال: السبّاقون إلى الجنة"- ص 69 – الذي كتبه في زنازين الاحتلال؛ وفاء للشهداء والقادة في شمال الضفة الغربية.
وحسام بدران نفسه من القادة الحاضرين للعزاء، وسيرته كلها جهاد وتضحية ومحاولات اغتيال وأسْر وإبعاد، "فقد عانى بدران خلال مسيرته النضالية؛ حيث تعرَّض للاعتقال خمس مرات، وكان اعتقاله الأول عام 1990، ثمَّ توالت اعتقالاته حتى قضى في الأسر أربعة عشر عامًا، وقد تعرّض لمحاولة اغتيال أثناء اعتقاله الأخير في منطقة النصارية في الأغوار في الضفة الغربية في الثامن عشر من أبريل/ نيسان عام 2002، وخضع للتحقيق لمدة أربعة أشهر، وحكم عليه بالسجن مدة ثمانية عشر عامًا، ومنع الاحتلال زوجته من زيارته طيلة فترة اعتقاله، وأفرج عنه من سجون الاحتلال في إطار صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، وأُبعد إلى سوريا، ثم انتقل للعيش في قطر"، وفقًا لما هو معروف ومنشور في ترجمته في "سلسلة النخبة الفلسطينية المعاصرة" التي يصدرها مركز رؤية للتنمية السياسية.
والقائد أبو الوليد خالد مشعل سلف هنية والجالس عن يمينه في العزاء يعيش منذ عام 1997 بعمر إضافي بعد محاولة اغتياله على يد الموساد الإسرائيلي، وهو نازح عن بلدته سلواد منذ 1967، ثم اضطر للنزوح إلى الكويت، وتعرّض للاعتقال في عمّان 1999 بعد إغلاق مكتب حماس فيها، وأُبعد إلى قطر، واستقر في دمشق قبل أن يغادرها إلى الدوحة مجددًا، و"فرضت الولايات المتحدة الأميركية تجميدًا لأمواله ومعاملاته"، فمشعل "رجل ميت يمشي"، وقصة اغتياله وحياته الجهادية ملحمة وثقها صحفي غربي في كتاب مترجم، وفي برامج وثائقية، لكن إعلام الإفك قد يرى كل ذلك مفبركًا، لأن الممولين يريدون إخفاء كل مكرمة إسلامية.
وعن يمين مشعل، كان يجلس الدكتور خليل الحية، وهو رجل في سيرته الذاتية من التضحيات "عدة محاولات اغتيال نتج عنها استشهاد 19 شخصًا من أسرته؛ منها محاولة اغتياله عام 2007، والتي أدت إلى استشهاد سبعة من أفراد أسرته، كما اغتال الاحتلال نجله القسامي حمزة عام 2008، وأصاب زوجته إصابة بليغة أثناء حرب عام 2014، كما استشهد نجله أسامة وزوجة نجله وثلاثة من أبنائهما في حرب عام 2014″، ومكث هو في سجون الاحتلال أكثر من ثلاثة أعوام مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
وعن يسار هنية كان يجلس القائد الصموت والمقدام الحَيي موسى أبو مرزوق، أحد الذين أعادوا البناء التنظيمي للإسلاميين في مصر والشام بعد الضربات الأمنيّة التي لاحقتهم في منذ نهاية الأربعينيات وحتى بداية السبعينيات، وفي "مشوار حياته" الذي صدر في مجلدين فخمين من التضحيات، كثيرٌ منه نزوحٌ من قريته يبنا، ومعاناةٌ من الاحتلال الإسرائيلي الأول لقطاع غزة عام 1956، والثاني 1967، وإبعادان من الأردن، واعتقال في أميركا، وتجميد للأموال ووصم بالإرهاب.
هذه نماذج بسيطة من تضحيات وبلاءات الأسماء المشهورة في المكتب السياسي لحماس وغيرهم كثير ممن قضوا أعمارهم في السجون والمنافي يجاهدون المحتل ويستحلون في سبيل الله كل مرارة، ويقدمون المهج والأبناء مثل الدكتور أبي خالد الزهار وغيره ممن لا يضرهم من خذلهم ولا من شوه صورتهم إعلاميًا من ذوي القربى، فقد نذروا أنفسهم للجهاد واصطفاهم الله فحققوا الشعار الجميل: "إنا نقدم قبل الجند قادتنا".
صبر أهل غزة
أما إسماعيل هنية فقد جمع في جهاده بين الاعتقالات المتكررة والإبعاد إلى مرج الزهور مع قادة الحركة 1992، ومحاولات الاغتيال المتعددة من الاحتلال والسلطة، وتدمير منزله عام 2014، واستشهد في الحرب الحالية قبل عيد الفطر نحو ستين من عائلته، ومع ذلك بقي إعلام الإفك يضخّ سمومه كذبًا وافتراء وتشويهًا لسيرة ناصعة صاغها هدي القرآن، وهذبتها أنفاس الشيخ ياسين، وزكتها مقامات الجهاد في أرض الرباط والمسرى.
بدعاء مؤمن وتصميم مجاهد موقن بأن ما عند الله خير للشهداء، تلقى هنية خبر استشهاد أبنائه وأحفاده في موقف ابتلاء لا يثبت فيه إلا المصطفَون الأخيار، فكان هنية بثباته ورضاه يمثل الهدي النبوي ويقين الصحابة وصبر الأبرار فحقق بذلك إمامة دينية تقاصرت دونها الأعناق، كما روى ابن القيم أنه سمع شيخه ابن تيمية يقول: "بالصَّبر واليقين تُنال الإمامة في الدِّين، ثمَّ تلا قوله تعالى: {وَجَعلنَا منهم أئمّةً يَهْدُون بأمْرنَا لما صَبرُوا وَكَانوا بآياتنَا يُوقنون}".
صبْر هنية وعموم أهل غزة على الأهوال والمحن والموت المستشري، يستغربه كثير من الناس مؤمنهم وفاجرهم، وكان سببًا لهداية آخرين؛ لأنه من آيات الله الدالة على عظمته ورحمته ولطفه بعباده، ومن لطف الله أن يلهم عباده الصبر وقت المصائب، وأن يهيِّئهم لاستقبال المحن بالرضا، وقد ذكر ابن القيم أن شيخه قال له أيضًا: "العوارض والمِحَن هي كالحرِّ والبرد، فإذا علم العبد أنّه لابدَّ منهما لم يغضَبْ لورودهما، ولم يغتمَّ لذلك ولم يحزن له".
لم يهن هنية ولم يحزن لما أصابه في سبيل الله، ويقول لسان حاله لمن يستغرب ذلك الصبر والرضا ما قال حُطيط الذي أمر الحجاج بن يوسف بالمعروف ونهاه عن المنكر، فغضب وأمر جلّاديه بكسر رجله وقطع أوصاله وهو حي، فصبر حطيط ولم يشكُ ولم يجزع، فاستغرب بعض جلساء الحجاج من صبره، فقال له حطيط بشموخ المؤمن: "أو ما علمت أن الله – عز وجل – يفرغ الصبر إفراغًا، فأمر به فأدرج في عباء وضرب بالخشب حتى قتل" كما في أنساب الأشراف للبلاذري، والصواب والثواب لابن أبي الدنيا.
في أخبار حُطيط وصبره أن بعض أعوان الحجاج قال لما رأى صبره: "فرحمتُه، فدنوت منه فقلت: هل لك من حاجة؟ قال: «لا، إلا أن لساني قد يبس فما أستطيع أن أذكر الله"، أما أبواق إعلام التصهين العربي فإن قلوبهم لا تعرف الرحمة ونفوسهم لا تدري ما الإنسانية فقد جعلوا من خبر استشهاد أبناء هنية سبيلًا لمزيد من التشويه والتشفّي ومضاعفة الأكاذيب، وبذلك نفهم هدي النبي- صلى الله عليه وسلم- في التعامل الحاسم مع الإعلاميين الهجَّائين حين فتح الله له مكّة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.