هزيمة الغرب.. فرصة إعادة بناء فضاء عمومي عربي إسلامي

متظاهرون يحملون علمًا كبيرًا على شكل بطيخ في محطة شارع فليندرز في ملبورن، أستراليا من أجل فلسطين "
متظاهرون يحملون علمًا كبيرًا على شكل بطيخ في محطة شارع فليندرز في ملبورن، أستراليا من أجل فلسطين "غيتي"

ظهرت مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد كتابات أوروبية كثيرة اتخذت من سؤال الهُوية موضوعًا لها، حتى باتت هذه الكتابات أقرب إلى التعبير عن أزمة دفينة منها إلى أن تكون مجرد موضوع بحث عابر.

كان من بين أهم الكتب التي استوقفتني – شخصيًا في هذا الباب – كتابان: الأول لـ «نويد كرماني» (Navid Kermani)، وقد جاء تحت عنوان: «من يكون هذا النّحن؟» (Wer ist Wir?)؛ والثاني لـ «دافيد بريشت» (David Precht) تحت عنوان: «من أنا، وفي حال الإثبات فإلى أي حد؟» (Wer bin ich – und wenn ja wie viele?).

يلاحظ القارئ أن الكتابين يتميزان بغرابة عنوانَيهما في المقام الأول، فضلًا عن أن العنوانَين يأتيان في صيغة الاستفهام، تأكيدًا على أن الهُوية الأوروبية، قد أصبحت محل تساؤُل قبل أن تكون محط إجماع.

فبالرغم من الاختلاف في أسلوب الكتابة وطبيعة المقاربة، يفتح الكتابان باب التأمل في الهُوية الأوروبية بوصفها موضوع استشراف مستقبلي، وبوصفها شيئًا قيد التشكّل، عوضَ أن تكون شيئًا متحققًا كاملًا ومنجزًا.

مع مرور الزمن أصبح عجز أوروبا عن تحقيق هُوية متجانسة منشودة، أوضح من أن يخفى. فقد جاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثابةَ إقرار مبين بإفلاس مشروع ترميم الهُوية الأوروبية المتآكلة.

ويبلغ هذا التآكل اليوم منتهاه ليفضي إلى ما يسميه «إيمانويل طود» (Emmanuel Todd ): «هزيمة الغرب» ( La Défaite de l’Occident ).

هزيمة النخب البروتستانية الأميركية والغرب

يرى «طود» في كتابه عن الهزيمة أن الغرب، تحت إمرة النخب البروتستانتية الأميركية بوجه الخصوص، قد استنفد رصيده الأخلاقي فتحول إلى مجتمعات لا تنضبط إلا بضوابط مصلحة مادية هوجاء، تمليها دوائر المال والأعمال. ويرى أن عجز أوروبا عن الاستقلال عن الولايات المتحدة الأميركية يدخلها في حروب عبثية لا معنى لها.

لعلّ من هذه الحروب العبثية – التي ليس لأوروبا فيها ناقة ولا جمل – حربَ الإبادة التي تدور رحاها اليوم في غزة، وقبلها حرب أوكرانيا التي كان للحلف الأطلسي – تحت إمرة الولايات المتحدة دائمًا – دور كبير في اندلاعها.

إن هذه الحروب جاءت لتؤكد ثابتًا مركوزًا في تاريخ الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث إنها تصرّ في كل مرة يكون في مقدورها وضع الندى في موضع السيف على أن تضع السيف في موضع الندى، مفوِّتةً بذلك على نفسها وعلى غيرها، فرصةَ المساهمة في إحلال نظام عالمي يكفل السلام، وتشيع معه قيم العدل والحرية والوضوح الأخلاقي.

رغم الاختلاف في أسلوب الكتابة وطبيعة المقاربة، يفتح الكتابان باب التأمل في الهُوية الأوروبية بوصفها موضوع استشراف مستقبلي، وبوصفها شيئًا قيد التشكّل، عوضَ أن تكون شيئًا متحققًا كاملًا ومنجزًا

نشير هنا إلى ما ورد في كتاب أمين معلوف: «متاهة الضالين» Le Labyrinthe des égarés) – والإشارة لا تعني التماهي مع مواقف الكاتب كلها – من حديث عن الرئيس الأميركي «وودرو ويلسون» وتنكّره الصارخ للمبادئ التي ظل يبشر بها، مثل مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.

يوضح معلوف كيف أن هذه المبادئ كانت مجرد شعارات وألفاظ فارغة لم توضع لإفادة المعاني الحقيقية التي تعلَّق بها. فتحرير الشعوب عند «ويلسون» مبدأ لا يتسع لجميع الشعوب، كما ثبت في سياق ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ بقدر ما يضيق لينسحب على شعوب أوروبا الشرقية فقط، هذه الشعوب التي وجب تخليصها من قبضة روسيا آنذاك.

يمكننا القول إن وضع الشعوب المستجيرة بالولايات المتحدة لتحقيق استقلالها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان أشبه بوضع المستجير من الرمضاء بالنار.

فكيف يسعى لتحرير الشعوب في الخارج من لم يتخلّص من المَيْز العنصري في الداخل؟. لقد كان تورُّط «ويلسون» في دعم هذا المَيْز أظهر من أن يخفى في السياق الأميركي، حتى إن بعض المراكز والجامعات الأميركية التي سُميت باسمه اختارت لنفسها اليوم أسماء أخرى، وفي هذا إدانة صريحة لمواقف الرجل العنصرية.

لم تتخلص الولايات المتحدة إلى اليوم من آفة العنصرية في الداخل، حتى بعد وصول «باراك أوباما» إلى الحكم، وهذا ما ينتج عنه انفجار متكرر للأوضاع، وينذر بتوتر عِرقي لا ينتهي.

ولأميركا، في التاريخ، من عجائب الغموض الأخلاقي وإظهار الصلاح موطن الفساد، حين يتعلق الأمر بالمَيْز العنصري، ما لا يتّسع المقام لذكره، وما يُذكِّرنا بما يحدث على مرأى ومسمع العالمين اليوم من تلاعب بالقانون الدولي، وقفز على مبادئ العقل الفطري؛ خدمة لأغراض واضحة الفساد.

يذكرنا «معلوف»، في معرض حديثه عن رسوخ المَيز العنصري في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، بحالة من حالات التوسل بالقانون لإخفاء حقيقة هذا المَيز، وهي حالة تبعث على الضحك من شدة تنطّعها في الخلط والإصرار على المضي في التستر على الفساد المبين.

فمثلًا في محاولة لمنع الزنوج من تسجيل أنفسهم للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، قررت الكثير من الولايات فرض رسوم على كل من أراد وضع اسمه على لائحة التصويت، أو مطالبتهم بإثبات القدرة على القراءة والفهم؛ وكي يتم التأكّد من أن هذه الإجراءات لا تخصّ سوى الزنوج، وليس البيض ممن كانوا فقراء وأُميين، تم إضافة مادة تنص على أن القوانين الجديدة لا تُطبَّق على من كان آباؤه وأجداده يتمتعون بحق التصويت.

نجد لهذا الضرب من التدليس قرائن لا حصر لها في سجلّ تعامل الولايات المتحدة الأميركية مع قضايا العالم، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني. إن حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل في حق هذا الشعب تتم بمباركة الولايات المتحدة الأميركية بالدرجة الأولى.

فعوض العمل على بلوغ حل عادل ومنصف ونهائي للقضية الفلسطينية، تتمادى أميركا، في موقف يشبه موقفها من قضية الميز العنصري عبر التاريخ، في إيجاد صيغ قانونية وشرعية لقضية لا أخلاقية في الأساس، هذا في وقت كان يسعها أن تتقمص دور القوي المتخلق فتحسم في إنهاء الصراع.

إن العجز عن إيقاف الإبادة في غزة- إذ يكرّس الشعور بنهاية سردية الوحدة العربية وسردية الأمة الإسلامية سياسيًا وعسكريًا، ويفاقم الشعور بالغبن والمذلة والهوان في الشوارع- يفتح أفقًا جديدًا واقعيًا أمام الفكر والفعل، في المجالين السياسي والمجتمعي الثقافي

 

جلي أن الحاجة إلى إثبات هزيمة الغرب الأخلاقية أمام ما يحدث في غزة لم تعد حاجة قائمة. غير أن ما يحتاج، في المقابل، إلى إثبات هو تماسك هوية العالم العربي والإسلامي وتفوقه الأخلاقي.

ولا ينفع أن نركن إلى التلذذ بالحديث عن تفكك هوية الغرب وسقوطه الأخلاقي ونشيح بوجوهنا عما يختصم في العالم العربي الإسلامي من سرديات جديدة لا حصر لها، تحاول الاستحواذ على الحق في إملاء هوية هذا العالم؛ أو ما يعتمل فيه من عزائم متنافرة، بعضها يشرق وبعضها يغرب. والحقيقة أن هذا العالم ليس في مأمن من تفكّك الهوية والتلاشي القيمي والأخلاقي.

أجدني في هذا السياق أردد مع مجموعة «ناس الغيوان» المغربية مطلع أغنية قديمة لطالما صدحت بها أصوات جيل بأكمله، تقول: «واشْ حْنَا هُما حْنا أَقلْبي والّا مُحالْ؟».

أجد أن لهذا السؤال، الذي طرح في سياق فني شعبي قبل أربعين سنة، راهنية كبيرة. يحق لنا أن نتساءل، مثلما يتساءل «كرماني» و «بريشت» في السياق الأوروبي: هل نحن لا نزال نحن؟

على طريق المراجعة

إن لما يحدث في غزة اليوم دور حاسم في الدفع باتجاه مراجعة التمثلات القائمة في السياق العربي والإسلامي حول الذات والآخرين. بينما تعلو صيحات «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين» في شوارع عالمنا العربي والإسلامي، نلمس تفككًا واضحًا لفكرة الوحدة العربية أو الأمة الإسلامية على المستوى السياسي.

وبين دائرة الشارع والدائرة السياسية بون شاسع وفجوة لا تسد؛ ذلك أن هذا الشارع ليس فضاء عموميًا مؤثرًا في القرارات السياسية، بقدر ما هو فضاء تنفيس، ليس إلا. ومما يزيد طينة هذا الفضاء بلة أنه أصبح اليوم يشهد منافسة فضاء رقمي تدور فيه معارك طاحنة حول أتفه الأسباب، لا تزيد الواقع العربي والإسلامي الممزق إلا تمزيقًا.

إن العجز عن إيقاف الإبادة في غزة- إذ يكرّس الشعور بنهاية سردية الوحدة العربية وسردية الأمة الإسلامية سياسيًا وعسكريًا، وإذ يفاقم الشعور بالغبن والمذلة والهوان لدى الشعوب العربية والمسلمة في الشوارع- يفتح أفقًا جديدًا واقعيًا أمام الفكر والفعل، سواء في المجال السياسي أو المجال المجتمعي الثقافي.

بديهي أن الإنسان يدخل في عداد السذج ممن يخادعون أنفسهم، فيما لو توهّم أنه بالإمكان القفز على إكراهات واقع الدول القُطرية لتوحيد شعوب العالم العربي والإسلامي.

لكنه ليس من السذاجة في شيء التفكير إستراتيجيًا، على ضوء التحولات الكبرى التي سبقت الإشارة إليها، في إعادة بناء فضاء عمومي عربي إسلامي ينضبط بضوابط هوية جامعة مستوعبة تنهل مقوماتها من شعورين اثنين: الشعور بالانتساب الحضاري، ثم الشعور بوحدة المصير. ولعل تحصيل هذين الشعورَين شرط ضروري للانفتاح على العالم.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.