مصر في مواجهة "الترانسفير"

شاحنات المساعدات عالقة في معبر رفح المصري في انتظار السماح لها بدخول غزة (غيتي)

حالة غضب عارم تعم مصر، شعبا وحكومة، في مواجهة فكرة "الترانسفير" (التهجير) التي يطرحها الكيان الصهيوني بدعم كامل من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. هذه الحالة ترجمها الشارع بكل أطيافه -من موالاة ومعارضة- بالخروج في مليونية كبرى اليوم الجمعة 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لرفض تصفية القضية الفلسطينية، وهي المليونية الثانية منذ حكم نظام 30 يونيو/حزيران 2013 لمصر، بعد مليونية التفويض يوم 26 يوليو/تموز 2013.

فمنذ عملية "طوفان الأقصى" التي بدأتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل أخرى من المقاومة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ردا على سياسة التهويد والتنكيل اليومي بأبناء الشعب الفلسطيني، المصحوب بانتهاك المقدسات الدينية وسلب الموارد الفلسطينية وهدم المنازل وتهجير السكان، سعى العدو الصهيوني إلى محاولة الخروج من تلك المشكلة بمكاسب تمكن ترجمتها على الأرض، وقد بدأ ذلك بتشويه صورة المقاومة الفلسطينية في الإعلام الغربي، الذي كان معبئا لهذا التشويه، علاوة على كونه مسيّرا -من حيث المبدأ- من قِبل آلة صهيونية دعائية وسياسية تقدم الدعم لهذا الكيان الذي تأسس قبل عقود ليكون مشروعا استعماريا غربيا في المنطقة، وذلك كله قبل أن تدور الدائرة عليه إعلاميا بعد مذبحة مستشفى المعمداني يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي.

استخدم العدو التضليل وتزييف الحقائق من أول يوم بعد عملية "طوفان الأقصى" سعيا إلى ضمان المساندة الغربية، وقد استغل هذه المساندة لبدء رد فعل انتقامي عنيف -لا يميز بين مدني وعسكري- يبرد به غضب الرأي العام الداخلي، وفي إطار محاولات تجميل جرائمه بحق المدنيين فضح خطته شيئا فشيئا، فقد دعا بعض قادته مبكرا سكان قطاع غزة للخروج والهجرة إلى مصر (حفاظا على أرواحهم)، ثم تراجع قليلا فطالب بإخلاء شمال غزة إلى جنوبها، وقد أراد العدو من تلك السياسة ضرب عصفورين بحجر واحد، فعلى المدى القصير سيسهل ذلك له الغزو البري من دون عائق، وعلى المدى الطويل سيحقق هدفه في تصفية القضية الفلسطينية عبر تفريغ الأرض من الناس، وإحلال المستوطنين مكان سكان غزة.

ورب ضارة نافعة، فقد فضحت هذه التصريحات إسرائيل وكشفت خطتها أمام العالم، وحولت دفة التعاطف الشعبي (لا الرسمي) عنه، بسبب القصف والقتل والحصار الذي يطول المدنيين، ونزعت المصداقية عن مزاعمه عندما ضرب الممرات الآمنة التي أعلن عنها، ليقتل المئات من الفلسطينيين الذين حاولوا الفرار من شمال القطاع إلى جنوبه، فأجبرهم بغبائه على رفض خطته.

لدى مصر مشكلة إضافية مع خطة التهجير الإسرائيلية، وهي أنها تهدف إلى تحويل سيناء إلى أرض للاجئين، ومصر -تاريخيا- هي الدولة العربية الوحيدة -ضمن ما كانت تعرف بدول الطوق العربي- التي لم تعرف أي مخيمات للاجئين الفلسطينيين.

هنا يعود إلى الذاكرة مفهوم "الترانسفير" بكل أبعاده التاريخية التي قام بها الغرب منذ التهجير القسري للعبيد من القارة السمراء إلى أميركا، لاستغلالهم في أعمال السخرة، وقتل المريض منهم وإلقائه في البحر. ثم خلال الحربين العالميتين وما بينهما عند غزو المستعمرات في العالم الثالث، ثم في الاتحاد السوفياتي السابق في عهد ستالين الذي أعاد هندسة السكان عبر عمليات التهجير، انتهاء بعمليات التهجير عكسية الاتجاه من فلسطين وإليها بتواطؤ بريطاني، إذ هجرت أعداد كبيرة من يهود العالم إليها، وفي المقابل تم تهجير أصحاب الأرض من الفلسطينيين إلي بلدان مجاورة بعد نكبة 1948، لتأسيس هذا المشروع الاستعماري الغربي على أرض فلسطين.

يراد لسيناء اليوم أن تكون وطنا بديلا، كما أريدَ للأردن أن يكون كذلك في خطط صهيونية سابقة، ليعقب ذلك قيام إسرائيل بعملية ضم لأرض غزة -بحكم سياسة الأمر الواقع- عبر تأسيس المستوطنات، أو بشكل رسمي عبر قرار تنفيذي صهيوني كما حدث من قبل بشأن الضفة الغربية والقدس ومرتفعات الجولان السورية، في تجاوز جديد لقرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947.

ستكون مصر أكثر قدرة على الصمود في وجه الضغوط لفتح المعبر لإخراج الغربيين من دون إدخال المساعدات، مع وجود آلة إعلامية تفضح الغرب (الرسمي) الداعم لإسرائيل، وتحشد التعاطف (الشعبي) هناك للضغط على حكامهم لإنقاذ الجرحى والمشردين المدنيين في غزة

أبرز ردود الفعل على خطة التهجير الجديدة، جاءت من ذوي الشأن، وهم مصر وحماس، فكلتاهما رفضت، فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اعتبر المراد من هذه الخطة هو تصفية القضية الفلسطينية عبر تشريد الفلسطينيين خارج الأرض، بل إنه طالب بنقل مدنيي غزة -إن أرادت إسرائيل- إلى صحراء النقب وهي جزء من أرض فلسطين التاريخية قبل قرار التقسيم. أما حماس فرفضت الخطة على لسان زعيم جناحها السياسي إسماعيل هنية، الذي أعلن اتفاقه مع مصر في رفض استقبال الفلسطينيين كلاجئين دائمين، بل إن قادة حمساويين تحدثوا عن محاولات لإغراء مصر عبر إسقاط بعض أو كل ديونها الخارجية الضخمة نظير قبولها الخطة.

مقابل كل ذلك، سعت القاهرة إلى إحراج الدول الغربية المساندة لإسرائيل. فهذه الدول تريد من مصر إخراج حاملي جنسيتها من غزة عبر معبر رفح بأسرع وقت. ومصر تربط فتح المعبر بالسماح بعبور شاحنات المساعدات الإنسانية التي فشلت في دخول غزة بسبب القصف الإسرائيلي المتعمد على رفح وقت دخولها.

المؤكد أن دخول المساعدات سيجعل الفلسطينيين أكثر قدرة على البقاء في أرضهم، وسيكون رفضا عمليا للترانسفير من الجانبين المصري والفلسطيني، وهو أمر أشارت مصر إلى أنه لا يتعارض مع قبول الجرحى والمرضى في المستشفيات المصرية كلما دعت الحاجة.

وإزاء التعنت الإسرائيلي المتواصل، الذي يضع قيودا على دخول شاحنات المساعدات، لتتفاقم الأوضاع الإنسانية، قد يُتَصور أن تغمض القاهرة عينها عن فتح أنفاق غزة، حتى تنتهي الهجمة الصهيونية المدعومة أميركيا على القطاع، وذلك لإدخال المساعدات الغذائية والدوائية ولوازم الإغاثة والتسكين المؤقت كالخيام والغرف المجهزة.

ستكون مصر أكثر قدرة على الصمود في وجه الضغوط لفتح المعبر لإخراج الغربيين من دون إدخال المساعدات، مع وجود آلة إعلامية تفضح الغرب (الرسمي) الداعم لإسرائيل، وتحشد التعاطف (الشعبي) الغربي مع الجرحى والمشردين المدنيين ليضغط هؤلاء على حكامهم، لتتوقف تلك المهزلة التي اعتاد العالم أن تكررها إسرائيل كل بضعة أشهر، مدعومة بقوى تزعم التحضر والمدنية ولكنها تمارس الكيل الواضح بمكيالين في ما يتعلق بحق مقاومة المحتل ودعاوى الحرية، وما أوكرانيا منا ببعيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.