عودة حماس إلى دمشق وشرعية البيانات (5)

Palestinian group Hamas' top leader Ismail Haniyeh talks after meeting with Lebanon's President Michel Aoun, in Baabda
زعيم حركة حماس الفلسطينية إسماعيل هنية (رويترز)

في 15 سبتمبر/أيلول 2022 أصدرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بيانًا حسمت فيه قرارها بإعادة العلاقة مع نظام الأسد، وقد أكد البيان على مُضيّ الحركة فيما أسمته "بناء وتطوير علاقات راسخة مع الجمهورية العربية السورية في إطار قرارها باستئناف علاقتها مع سوريا الشقيقة"، والحجة المعلنة هنا هي "خدمة لأمتنا وقضاياها العادلة، وفي القلب منها قضية فلسطين، ولا سيما في ظل التطورات الإقليمية والدولية المتسارعة التي تحيط بقضيتنا وأمتنا".

والمراقب لتحركات القيادة الجديدة لحماس يدرك استئناف علاقاتها مع محورها السابق على الثورات والمتمثل في إيران وتوابعها (نظام الأسد، وحزب الله، وحركة الحوثيين)، يضاف إلى ذلك العلاقة مع روسيا التي جرى استئنافها مؤخرًا في محاولة لتوسيع محيط الدعم السياسي والعسكري للحركة.

ولكن تحركات حماس وضعتها في صدام مع حاضنتها الشعبية من جهة، ومع أيديولوجيتها الإسلامية من جهة ثانية؛ إذ إن خدمة قضيتها -وفق منظورها- لا تنسجم مع "قضايا الأمة العادلة" كما جاء في البيان؛ لأنها تأتي على حساب قضايا السوريين والعراقيين واليمنيين معًا، هذا إذا لم نتحدث عن التصادم الواقع بين تحالف حركة تحرر وطني مع روسيا التي تشكل من منظور الأوكرانيين والأوروبيين -على الأقل- دولة تسعى لاحتلال أوكرانيا منذ شهور.

البيان حمل عنوان "جمع من علماء فلسطين"، ولكن القارئ يكتشف في نهاية البيان أنه بيان غزاوي فقط، وحمل توقيع 30 اسمًا كلهم من قطاع غزة الذي تحكمه حماس، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مشروعًا عن بقية أراضي فلسطين وعلمائها ولاسيما أننا نتحدث عن تحرير المقدسات وقضية فلسطين ككل التي لا يجوز اختزالها في غزة، فضلاً عن حرية الرأي التي يتمتع بها من هم في قطاع غزة.

الصدام المزدوج المشار إليه سابقًا، كشفت عنه النقاشات التي دارت في يوليو/تموز الماضي حين كانت الاتصالات جارية بين حماس وحلف إيران لتسهيل استئناف العلاقة بنظام الأسد، ثم تجددت مع بيان حماس الأخير الذي صدرت عدة بيانات تستنكره وتُدينه، من ذلك 3 بيانات هي:

البيان الأول: بيان هيئة فلسطين للإغاثة والتنمية

وهي مؤسسة ناشطة وسط اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، التي أصدرت بيانًا بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول ترفض فيه وتدين بشدة ما وصفه بـ "انزلاق حركة مجاهدة بعيدا عن ضفاف الأمة ونصائح علمائها"، وهي انزلاقة رأت أن هذه الحركات ستدفع "ثمنها من رصيد حاضنتها الشعبية". وقد تبرأ البيان من "أي قرار يطبع مع النظام [السوري] أو الاحتلال"، ورأى أن "الانحياز إلى الأمة يعني الاستماع إلى ضمير شعوبها ونصائح علمائها لا العودة إلى نظام لفظته الأمة كلها"، و"أن الدعوة إلى إنهاء مظاهر الصراع في الأمة هي دعوة تساوي بين الجلاد والضحية، وكان الأولى أن يتم التنديد بمجازر النظام ضد شعبه".

وكانت الهيئة نفسها قد أصدرت بيانًا مشابهًا في يوليو/تموز الماضي أوضحت فيه أن المعيار الذي يحدد العلاقة مع الأطراف الأخرى "هو ما نؤمن به من مبادئ لا ما نبتغيه من مصالح"، وأن "تحرير فلسطين لا يكون بالتحالف مع أنظمة مجرمة"، وأن نظام الأسد دمر مخيمات الفلسطينيين، وما يزال يسجن 2400 معتقل فلسطيني منهم 110 سيدات.

البيان الثاني: بيان هيئة علماء المسلمين في العراق

هو البيان الصادر بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 2022، وقد قدم أصحابه بيانهم بوصفه واجبًا شرعيًّا وسياسيًّا معًا، ومُفاده أن خطوة حماس هي "انحراف عن بوصلة المقاومة في فلسطين، وأنها لن تحقق شيئًا ذا بال للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فضلًا عن مصادمتها لمصالح الأمة، وافتقادها لأي وجه شرعي معتبر في تبرير التعامل مع النظام في دمشق على حساب المظلومين والمهجرين والمضطهدين من أبناء الشعب السوري المثابر". وقد رأى البيان أن المصالح التي تسعى إليها حماس من هذا التقارب مع الأسد هي "مصالح متوهمة"؛ لأنها "ستفت في عضد الشعوب التواقة للخلاص مما تعانيه، وستفتح بابًا كبيرًا من المخاطر والمفاسد على القضية الفلسطينية والمنطقة معًا، وستسهم في تعزيز حظوظ مشاريع التطبيع في المنطقة مع أعدائها".

البيان الثالث: بيان المجلس الإسلامي السوري

صدر بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 2022، وأدان بشدة قرار حماس، واعتبره "انحرافًا عن القدس وفلسطين"، و"خذلانًا لأبناء الأمة خصوصًا في الشام والعراق واليمن" حيث عانى أهل تلك البلاد ويلات "ملالي إيران وعصاباتها الطائفية فسادًا وقتلاً وتدميرًا". وقد أكد البيان على "أن قضية فلسطين قضية كبرى من قضايا الأمة، ولا يقل عنها قضايا دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت التي تحتلها مليشيات إيران الطائفية"، كما أن "التفريط بهذه القضايا لأجل قضية واحدة ضرب من الخذلان والتنكر وتفريق للأمة"، مؤكدين على أن المجلس سيبقى مع قضايا الأمة جميعها ومنها قضية فلسطين.

تُجمع البيانات السابقة على إدانة قرار حماس، وهي صادرة عن أطراف ثلاثة: فلسطينية وعراقية وسورية عاملة في الميدان وتعاني من عواقب التدخل الإيراني وأذرعه في هذه الدول، وقد تضمنت البيانات نقاطًا محددة هي:

  • انحراف حماس عن قضية فلسطين؛ إذ إن التقارب مع الأسد حاليًّا لا يخدم القضية الفلسطينية في شيء.
  • مصادمة مصلحة الأمة وخذلان قضاياها؛ لأنه يعني التفريق بين القضايا.
  • افتقاد حماس في قرارها لأي وجه شرعي؛ فحتى الآن لم يصدر أي بيان شرعي يؤصل لحماس موقفها من الناحية الشرعية بعيدًا عن مقولات المصالح العامة والمبهمة.
  • إن المصالحة مع الأسد لا تشكل أي مصلحة سياسية للحركة بل تفتح بابًا للمفاسد.

وقد كان لافتًا في بيان المجلس الإسلامي السوري الإلحاح على وحدة قضايا الأمة والمساواة بينها، وأن قضية فلسطين مثل باقي القضايا؛ لا يجوز التفريق بينها بحجة أولوية قضية فلسطين، وهو رد على زعم بيان حماس أن عودتها لنظام الأسد يخدم "قضايا الأمة".

وقد تأيدت هذه البيانات العلمائية بتعليقات مصورة بثها كل من الشيخ محمد الحسن ولد الددو في يوليو/تموز الماضي، والداعية وجدي غنيم في سبتمبر/أيلول، وغيرهما، وهي جميعًا تدين ما فعلته حماس بل وتحرمه شرعًا. والمراقب لردود الفعل على وسائل الإعلام الاجتماعي والاستبيانات التي أجراها بعض الإعلاميين (كأحمد منصور وغيره) عبر تويتر، يجد أن الغالبية ترفض قرار حماس ما يعني أن ثمة رأيًا عامًّا معارضًا.

وفي مواجهة هذا الرأي العام المستنكر، صدر بيانٌ مؤيد لحماس بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول 2022 وحمل عنوان: "بيان صادر عن جمع من علماء فلسطين"، وأنهم "تدارسوا" مسألة "توجه حركة حماس لإعادة العلاقات مع سوريا والحكم الشرعي لها" ثم توصلوا إلى أن "هذا التوجه خاضع لمبادئ السياسة الشرعية المبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة، وللحركة أن تعمل ما تراه مناسبًا ضمن هذه القاعدة حين يترجح فيها المصلحة لصالح الشعب الفلسطيني ومقاومته. ونصرتها واجبة على إخوانها المسلمين؛ لأنها تدافع عن مقدسات الأمة وتسعى إلى تحريرها". ويلاحظ على هذا البيان المقتضب الآتي:

أولا: أنه يأتي ردًّا غير مباشر على البيانات السابقة، في محاولة من حركة حماس -فيما يبدو- لشرعنة موقفها ومواجهة البيانات السابقة التي أحرجتها -شرعًا- أمام جمهورها، ولاسيما أنها حاولت مقابلة المجلس الإسلامي السوري في إسطنبول أكثر من مرة ولكنه رفض.

ثانيًا: إن البيان حمل عنوان "جمع من علماء فلسطين"، ولكن القارئ يكتشف في نهاية البيان أنه بيان غزاوي فقط، وحمل توقيع 30 اسمًا كلهم من قطاع غزة الذي تحكمه حماس، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مشروعًا عن بقية أراضي فلسطين وعلمائها ولاسيما أننا نتحدث عن تحرير المقدسات وقضية فلسطين ككل التي لا يجوز اختزالها في غزة، فضلاً عن حرية الرأي التي يتمتع بها من هم في قطاع غزة.

ثالثًا: إن البيان يكتفي بمبادئ عامة للسياسة الشرعية تقوم على الموازنة بين المصالح والمفاسد من دون أي بيان لهذه المفاسد والمصالح أولا، ثم كيفية تقديرها ووزن كل جانب منها ثانيًا، ولكنه يكتفي -فقط- بإيكال الأمر إلى قرار حماس نفسها التي تقرر ما تشاء؛ بوصفها وليّ أمر قطاع غزة، الأمر الذي يشكل عودة إلى الحجة المألوفة من فقهاء السلطة.

رابعًا: البيانات المنكرة على حماس تلح على مفهوم الأمة ووحدة قضاياها وترابطها، في حين أن البيان المؤيّد لحماس ينكفئ على حدود قطاع غزة فقط ومصالح "الشعب الفلسطيني" من منظور قطاع غزة وإدارة حماس للقطاع، وكأن الموقعين يرون أن الولاية الشرعية الوحيدة للشعب الفلسطيني هي قيادة حماس في غزة، ومن ثم فإنها تختص بالقرار (بوصفها ولي الأمر الشرعي) فيما تراه أصلح "للشعب الفلسطيني" ككل، ولا يكتفون بذلك، بل يوجبون على "إخوانها المسلمين" نصرتها في ذلك وترك قضاياهم لأجلها.

تعود بنا هذه البيانات المختلفة إلى مسائل سبق أن ناقشتها في مقالات سابقة ويمكن تلخيصها في أمور:

أن الأطر والتحركات التنظيمية للحركات الإسلامية امتطت فكرة "المصلحة الشرعية" لشرعنة تقديراتها السياسية الحزبية، متجاوزة لأساسيات فكرة المصلحة لدى الفقهاء، وهي أن المصلحة المعتبرة هنا هي التي راعاها الشارع نفسه لا بالنظر إلى المصالح السياسية التي يقدرها الفاعلون السياسيون مصالح، وأن المصالح المعتبرة هنا هي المصالح الضرورية الخمس، وأن المصالح العامة كان يقدرها في فقه ما قبل الدولة ولي الأمر في ظل وحدة السلطة أو المنظومة السياسية الحاكمة، ولكنه في ظل الدولة بات يستولي على تقديرها أطراف عدة، ففي حالة حماس اختُزلت تقديرات المصلحة بناء على قيادة حماس التي تسيطر عليها حاليًّا مجموعة قطاع غزة التي ترى أن غزة أولاً، وتقود عملية التطبيع مع الأسد واستعادة حلف إيران، ولاسيما أن رئيس المكتب السياسي لحماس في قطاع غزة يحيى السنوار كان قد صرح -منذ تسلمه لمنصبه سنة 2017- أن الحركة لا ترى مشكلة في إعادة العلاقة مع نظام الأسد.

وكما نبهت في مقال سابق، كانت المناقشة الفقهية الكلاسيكية حول "السياسة الشرعية" تتم في ظل وجود دولة -بالمعنى التاريخي- أما مناقشات الإسلاميين اليوم فقد طرأ عليها أمران جديدان:

أولا: أنه تم نقلها من مجال الانضباط الفقهي والأصولي إلى السيولة السياسية مع الحركيين. وأنها تحولت من كونها سياسة سلطانية أو إمامية في عصور ما قبل الدولة الوطنية إلى الممارسة السياسية للحركيين في ظل الدولة الوطنية وأنظمتها، ومن ثم باتت قيادة قطاع غزة تقرر المصلحة للشعب الفلسطيني ككل، وتوجب على الأمة بأسرها مناصرتها في خياراتها السياسية، وهنا اصطدمت ولاية حماس ببيانات علمائية عديدة تعري خياراتها السياسية أخلاقيًّا ودينيًّا، فلجأت إلى البيان المقتضب الذي لم يوقعه إلا جمع من قطاع غزة، ومن ثم جاء يعكس -بوضوح- أفق وتفكير المتنفذين في قيادة حماس الحالية التي اتخذت القرار.

ثانيا: يعيدنا قرار حماس والبيان المؤيد لها إلى مسألة استثنائية القضية الفلسطينية وعزلها عن محيطها الإسلامي والأخلاقي، بل والانتقاص من قضايا الشعوب الإسلامية التي تشترك معها في المبدأ الأخلاقي نفسه، وسبق أن ناقشت في مقال سابق خطورة فكرة استثنائية القضية الفلسطينية؛ لأنها تعني عزل القضية عن المبادئ الأخلاقية الكبرى التي تستمد منها شرعيتها (كالحق والعدل والحرية)؛ ومن ثم تتحول القضية الفلسطينية إلى منطق خاص لا ينسجم مع أشباهه ونظائره من القضايا، في حين أنه يُفترض بقضية فلسطين أن تتقاطع مع قضايا التحرر الوطني وأن يتقاطع التحرر من الاحتلال مع التحرر من الاستبداد؛ بجامع المبدأ الأخلاقي الواحد. فالتعامل البراغماتي المحض هنا من شأنه -فيما لو عُمم- أن يُخل بنصرة القضية الفلسطينية ويحرّض على التطبيع أيضًا؛ بمقياس المصالح والمفاسد السائل والمحدود بمنظور حركة أو دولة.

كما أن الاقتصار على اعتبار الدعم المالي والعسكري هو المعيار الوحيد لمن تتحالف معه المقاومة، والمعيار الوحيد لإضفاء الشرعية على الفعل، من شأنه أن يُضر بالقضية الفلسطينية نفسها؛ وسيقود إلى أن الغاية تبرر الوسيلة، في حين أن الوسيلة تبقى وسيلة وقد تتعدد، ويجب أن تكون في ذاتها مشروعة وليس أن الغاية تمنح كل الوسائل إليها المشروعية.

إن الخضوع لمنطق الضرورة السيّال، من شأنه -فيما لو عممناه- أن يقود إلى تسويغ التطبيع كذلك أو إلى ضرورات موازية لشعوب المنطقة وحركات مقاومتها للاستبداد، وهذا سيعني تفتيت مفهوم الأمة الواحدة على وقع تضارب الضرورات، وستكون حركات المقاومة الفلسطينية هي الخاسر الأكبر فيها؛ فضرورات الفلسطينيين لا تتقدم على ضرورات غيرهم.

وتوضح البيانات السابقة أن الصراع، بالبيانات والبيانات المضادة، بات وسيلة تُستخدم داخل المعسكر الواحد، بعد أن كان يتم -في ظل الثورات العربية- بين معسكر الثوريين من جهة، ومعسكر الأنظمة الاستبدادية من جهة أخرى، وهو تراجع لافت في مفهوم وحدة القضايا والمبادئ، وانكفاء على مصالح جزئية وقاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.