الغرب والمواجهة على شريط موبيس.. حول الثقافة الإستراتيجية الغربية

French President Emmanuel Macron and German Chancellor Angela Merkel talk to the media before a meeting at the Pharo Palace in Marseille, France, September 7, 2018. REUTERS/Jean-Paul Pelissier
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في فرنسا (رويترز)

في الأيام القليلة الماضية، ظهر عدد من قادة ومسؤولي الدول الغربية بشكل مكثف إعلاميا، في محاولة لتحذير بوتين من عواقب استخدامه للقوة وتهديده بعقوبات حازمة ومؤلمة. لا أعلم إن كان آخرون يشاركونني هذا الشعور، ولكني لم أجد أيا منهم مقنعا. كنت أشاهد وأقول في نفسي: الغرب فقد هيبته، فقد القدرة على الحسم والحزم وإظهار العزم، بل حتى فقد القدرة على أن يبدو جديا.

بالطبع هذا لا يعني أن الغرب لا يمتلك في جعبته الكثير من المناورات والحيل التي قد ينتج عن استخدامها إجبار بوتين على التراجع، أو "عقلنة" طموحاته على الأقل. في النهاية لا أحد يعرف دهاليز وممرات وتقاطعات المنظومة الليبرالية العالمية، وشبكاتها التنظيمية التي تمر من خلالها المعلومات والأموال أكثر من الغرب. لكن هذه، على الأقل جزئيا، هي مشكلة الغرب الإستراتيجية: تجنب المواجهات المباشرة والمواجهات الصلبة، والاعتقاد بأن مشاكل السياسة الدولية يمكن أن تحلّ كلها من خلال إيقاع الأطراف الأخرى في شبكات المنظومة الليبرالية العالمية، ومن ثم مساوماتها على المنافع التي تدرها منها. عادة تكون فرصة نجاح هذه الإستراتيجيات أكبر مع الدول الصغيرة والقوى المتوسطة، بينما لا تكون كذلك مع الدول القوية كروسيا والصين. ولكل منهما إستراتيجيته المقابلة للتعامل مع هذا الهروب الغربي نحو شبكات التعقد والتحور.

روسيا تقليدية ما زالت تتعامل مع الجغرافيا -وليس شبكات المنظومة الليبرالية- كأرضية للمواجهة. عندما تتحرك على الأرض تحدث كثيرا من الجلبة وتحصل على قليل من المنافع الإستراتيجية، فقط ما تسمح به الجغرافيا ويبرره التاريخ. في المقابل اختارت الصين أن تواجه الغرب على أرضيته، وأن تستفيد من المنظومة الليبرالية العالمية أكثر منه، مع التميز بالحفاظ على طاقة ثقافية وهوياتية تقيها التيه في تعقيداتها. تحركاتها أكثر هدوءا، أوسع نطاقا، ويبدو أنها ناجحة لدرجة وضعت الغرب في اختيارات صعبة: إما خنق المنظومة العالمية الليبرالية دليلا ومصداقا على الهيمنة و"القيادة الأميركية" العالمية، أو الحفاظ على انفتاحها ومشاهدة خيراتها تنصبّ على الصين.

أزعم أن القيم التي يدافع عنها الغرب مسؤولة بشكل ما عن الوهَن الذي أصاب الغرب، فالدول الغربية لا ينقصها الاختيارات بل ما ينقصها هو الإرادة والعزم المرتبط بتحمل تكلفة كل اختيار. هذه القدرات النفسية الجماعية مرتبطة بمدى انتشار وجودة القيم والأفكار التي تحتل الذاكرة الجماعية.

مع ذلك، يبدو مأزق الغرب أعمق من ذلك، فالمشكلة ليست على مستوى السلوك الإستراتيجي، بل الثقافة الإستراتيجية. يعتبر مفهوم الثقافة الإستراتيجية واحدا من تلك المفاهيم في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية التي تعاني من مد وجزر في اهتمام الباحثين بها، خاصة أنها -كما يرى البعض- تتكون من زواج صعب بين "الثقافة" التي تتطلب بحثا تاريخيا وقيميا ونفسيا اجتماعيا يفتقد أحيانا كثيرة إلى الانضباط والحدة والإيقاع السريع الذي تتميز به القضايا الأمنية، و"التخطيط الإستراتيجي". إلا أن هذا تحديدا ما يجعل المفهوم مثيرا للاهتمام.

من التأملات المفيدة في الثقافة الإستراتيجية تلك التي تجمع بين القيم والمبادئ التي تستحق الدفاع عنها من جهة، ووسائل وطرق وأساليب الدفاع عنها من جهة أخرى، معا يقدم كل من المكونين رؤية إرشادية للدولة والمجتمع حول تعاملها مع المتغيرات الدولية، وترتيب أولوياتها وتفضيلاتها، مع الأخذ بالاعتبار البعد المادي (العسكري، الاقتصادي) المقيد على مستوى اختيارات الدولة.

أزعم أن القيم التي يدافع عنها الغرب مسؤولة بشكل ما عن الوهن الذي أصاب الغرب. فالدول الغربية لا ينقصها الاختيارات بل ما ينقصها هو الإرادة والعزم المرتبط بتحمل تكلفة كل اختيار. هذه القدرات النفسية الجماعية مرتبطة بمدى انتشار وجودة القيم والأفكار التي تحتل الذاكرة الجماعية. نعم الذاكرة مرتبطة بالعزم: "فنسي ولم نجد له عزما". منذ عقود والغرب يفكك سردياته بنفسه وينزع الاستقرار عن أي معرفة جماعية، وبالتالي أي أساس فكري للحشد حول عمل جماعي.

قد يرى البعض أن هذه المقاربات لا تتعدى مساهمات تيارات فكرية هامشية لا ترقى إلى التأثير على الثقافة الإستراتيجية. أعتقد -خاصة في الحالة الأوروبية- أن هذه التيارات وهجومها على الحقيقة والموضوعية والتعامل مع الواقع "كما هو"، في مقابل الاحتفال بالنسبية والتفكيك ونزع الاستقرار المعرفي والأمن الوجودي، احتل مساحة كبيرة من الأرضية الثقافية الأوروبية. على تلك الأرضية وقعت المواجهة والمقاومة في يد مجموعة من النسويات والمثليين والباحثين عن حقوق الحيوان والنبات والجماد (هذه ليست مبالغة، هناك من يتحدث عن مساءلة واستشكال التميز الإنساني المعرفي وضرورة البحث عن المعرفة في رؤى الحيوانات والجماد للعالم)، وتحولت إلى بطولات وهمية يفوز بها الأكثر تعديا على حدود المجتمع الأخلاقية، والأكثر تخريبا للأرضية المعرفية والثقافية للمجتمع.

المثير للسخرية حقا أن تلك "الجماعات" غارقة في المنظومة الليبرالية لأذنيها، ما تقوم به فقط هو تفكيك أي سردية كبرى أو رؤية كونية بديلة لمساءلة الأسس القيمية لهذه المنظومة. النتيجة هي أفراد لا يحملون هويات (لأن الهويات من صنع المعرفة الجماعية ويجب تفكيكها)، ولا ينتمون إلى أنواع طبيعية أو اجتماعية، لا يبحثون عن الاختلاف بل الآن عن التحور، لأن الاختلاف في النهاية يعيد إنتاج الحدود بين الأشياء، بينما التحور يلغي الحدود بين الأشياء: الرجل والمرأة، الإنسان والحيوان، الذات والموضوع، إلخ. فالتحور لا يتوقف عند طلب الاختلاف والتميز بل السخرية من الحدود بين الأشياء والأنواع، وقدرة الفرد على تمثل تلك الأنواع في نفس الوقت.

المنظومة العالمية الليبرالية، وُجِدت -على الأقل جزئيا- لتجنب المجتمعات الغربية المواجهة وما تتطلبه من موارد قيمية ونفسية لا تستطيعها. فهذه المنظومة ليست مجرد انعكاس عالمي لقيم الليبرالية، أو حتى منظومة لتوزيع منافع عامة عالمية، بل منظومة أمنية ودفاعية بديلة عن المواجهات الأمنية المباشرة واستخدام القوة العسكرية.

هؤلاء المتحورون مستسلمون تماما لتعقد المنظومة الليبرالية العالمية، كيف لا وقد استهدفوا أي معرفة جماعية لمساءلتها على المستوى الكلي. مستوى النظر هنا لا يتعدى تفاصيل يومية لا تبدو مترابطة، كلما حاول الفرد فهمها والنظر في "حقيقتها" بموضوعية وترتيبها طبقا لمبادئ عامة وسردية تنظم الأفكار والأشياء طبقا لأنواعها، اصطدم بخاصيته الجديدة: التحور. فالعالم لهؤلاء يبدو معقدا تماما بسبب عدم وجود مستوى مستقر للنظر يتضمن حقائق كبرى. وبالتالي لا يوجد مخرج إلا اللهو والتزحلق على شريط موبيس (Mobius Strip).

المجتمعات التي تشربت التحور والتعقد لا تستطيع المقاومة والمواجهة. فالتحور والتعقد لا ينتجان رؤية إستراتيجية إرشادية للدولة والمجتمع حول تعاملها مع المتغيرات الدولية وترتيب أولوياتها وتفضيلاتها. نعم، قد تكون المؤسسات العسكرية والأمنية الأوروبية محصنة بعض الشيء عن تلك التحولات الفكرية والقيمية في مجتمعاتها، إلا أنه -طبقا لمفهوم الثقافة الإستراتيجية- فإن هذا التحصين الرقيق، مؤقت. فالثقافة الإستراتيجية تقوم بدورها بشكل أكثر وضوحاً عند الحاجة لاستخلاص الموارد المادية والأهم المعنوية للتعامل مع التحديات الدولية. هؤلاء ليس لديهم ما يقدمونه على المستوى المعنوي.

بل يمكن القول إن المنظومة العالمية الليبرالية، وُجدت -على الأقل جزئيا- لتجنب المجتمعات الغربية المواجهة وما تتطلبه من موارد قيمية ونفسية لا تستطيعها. فهذه المنظومة ليست مجرد انعكاس عالمي لقيم الليبرالية، أو حتى منظومة لتوزيع منافع عامة عالمية، بل منظومة أمنية ودفاعية بديلة عن المواجهات الأمنية المباشرة واستخدام القوة العسكرية. بمعنى آخر: المنظومة الليبرالية العالمية ليست انعكاسا للقيم والثقافة الغربية بل للثقافة الإستراتيجية الغربية. هذه المنظومة في حالتها الحالية تفتقد للتوازن بين الطاقة الفكرية والقيمية من جهة، وبين سرعة حركة التشابك من جهة أخرى، النتيجة: عالم معقد لا يعني شيئا أو يعني أي شيء، أو هكذا يراه ويقدمه الغرب. هذه الأرضية التي يريد أن يحارب عليها الغرب، وليس الجغرافيا والتاريخ والهويات الجماعية والبطولات الحقيقية. يريد أن يحارب بمنظومة تخفي تفككه القيمي والنفسي، منظومة تقيه الحقيقة والتعامل معها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.