هل تسعى تركيا لصفقة "إس-400" مجددا؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (الأناضول)

في حين ما زالت تركيا تحاول تجنيب علاقاتها المضطربة مع الولايات المتحدة تأثيرات صفقة "إس-400" (S-400) التي أبرمتها مع روسيا قبل سنوات، وما زالت تسعى لتخطي هذه العقبة مع واشنطن، أتت تصريحات جديدة من موسكو بشأن صفقة ثانية من المنظومة لتعقّد المشهد من جديد.

إس-400

يعدُّ افتقار تركيا لمنظومة دفاعية ثغرة كبيرة تسعى لسدها بشتى السبل، وفي مقدمتها الاستعانة بالحلفاء ومحاولات الشراء على المدى القريب. ذلك أن الأدوار الإقليمية المتصاعدة لتركيا وانخراطها في السنوات القليلة الأخيرة في عدد من النزاعات بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي مقدمتها الأزمة السورية والتوتر في شرق المتوسط، دفعها للعمل على تحصين نفسها من أي اعتداء خارجي.

كان خيار أنقرة الأول حلفاءها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقد نشر الحلف بالفعل بطاريات "باتريوت" على الأراضي التركية، لكنه لاحقا سحبها بدعوى انتفاء الحاجة لها على عكس رغبة أنقرة التي كان لها تقييم آخر، لا سيما وأن ذلك تزامن مع الأزمة التركية-الروسية إثر إسقاط مقاتلة روسية من طراز "سوخوي".

أدت الصفقة إلى توتر كبير مع الولايات المتحدة الأميركية، وكان من نتائجها تجميد مشاركة تركيا في مشروع مقاتلات "إف-35" ثم إخراجها منه، وبعض العقوبات التي طالت وزراء ومسؤولين في الصناعات الدفاعية التركية، مع تهديد بعقوبات إضافية.

في المقابل، سعت تركيا مرارا لشراء صواريخ باتريوت أو منظومة دفاعية أخرى من عدد من أعضاء الناتو في مقدمتهم الولايات المتحدة، لكن محاولاتها باءت بالفشل، إثر مماطلة هذه الأطراف أو عدم الاتفاق معها على التفاصيل المالية والفنية واللوجستية. وفي 2013، اتفقت تركيا مع الصين لشراء منظومة دفاعية، لكنها تراجعت عنها لاحقا بسبب ضغوط الناتو عليها، وربما مع وعود ضمنية ببيعها منظومة "أطلسية".

لدى عدم حصول ذلك، ومع استمرار الحاجة التركية لمنظومة دفاعية، لجأت أنقرة للاتفاق مع روسيا على شراء منظومة إس-400، وقد أبرمت الاتفاق في 2017، وأتمت حتى عام 2020 تسلم المنظومة واختبارها استعدادا لتشغيلها، وهو ما لم يحصل حتى اليوم.

فقد أدت الصفقة لتوتر كبير مع الولايات المتحدة الأميركية، وكان من نتائجها تجميد مشاركة تركيا في مشروع مقاتلات "إف-35" (F-35) ثم إخراجها منه، وبعض العقوبات التي طالت وزراء ومسؤولين في الصناعات الدفاعية التركية، مع تهديد بعقوبات إضافية. دفع ذلك أنقرة إلى البحث عن خيارات بديلة، بما في ذلك إبطاء الخطوات التي تلت تسلم المنظومة، ثم تأجيل تفعيلها تذرعا بجائحة كورونا، فضلا عن عرض تشكيل لجنة تركية أميركية مشتركة للتأكد من مدى إضرار المنظومة بالأسلحة الأميركية والأطلسية (الادعاء الأميركي) واستعدادها لشراء منظومة باتريوت من واشنطن.

التصريح الروسي وصمت أنقرة

أسهم لقاء أردوغان وبايدن على هامش قمة الناتو الأخيرة في بروكسل، وتوافقهما على استمرار دور تركيا في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، في تهدئة التوتر بين الجانبين إلى حد كبير. وقد رصدت بعض التقارير الإعلامية بعض المؤشرات الإيجابية على صعيد العلاقات بين الجانبين، ومن بينها عدم انتقاد الولايات المتحدة استهداف أنقرة لقوات سوريا الديمقراطية شمالي شرق سوريا.

في هذا السياق الإيجابي للعلاقات بين أنقرة وواشنطن، أتى التصريح الروسي الجديد حيث قال المدير العام لشركة الصادرات العسكرية الروسية (روس أوبورون إكسبورت) أليكسندر ميخيف إن بلاده قطعت شوطا مهما في المفاوضات مع تركيا بخصوص صفقة ثانية من منظومة إس-400 "وقد ننهي المشروع في الأشهر المقبلة".

اللافت أنه لم يصدر تصريح أو موقف رسمي من تركيا للتعقيب على هذه التصريحات، بينما نقل موقع "ميدل إيست آي" البريطاني عن مصدر تركي -لم يسمّه- إن تركيا "ليست جاهزة" حاليا لصفقة ثانية من المنظومة الروسية، ونقلت "دويتشه فيله" الألمانية عن مسؤول آخر إنه "لا جديد" بخصوص الصفقة المفترضة.

التصريح الروسي بهذا الاتجاه ليس جديدا، بل تابعنا خلال السنتين الماضيتين عددا من التصريحات الروسية حول "الصفقة الثانية" من إس-400، خصوصا أن ما أعلن رسميا من الجانبين في 2017 هو أن الاتفاق تم بشأن صفقتين تتكون كل منهما من منظومتَيْ إس-400.

في يونيو/حزيران 2020، قال رئيس الهيئة الفدرالية للتعاون العسكري التقني، ديمتري شوغايف، إن تقدما قد أحرز في موضوع الصفقة الثانية وإن "روسيا تنتظر قرار تركيا". وفي أغسطس/آب من العام نفسه، أعلن ميخيف أن بلاده "وقعت اتفاقا مع تركيا" لشراء صفقة ثانية من إس-400 بانتظار الاتفاق النهائي على التكلفة المالية، من دون أن يصدر موقف تركي رسمي بهذا الخصوص. وفي نهاية العام الفائت، كرر مسؤول عسكري روسي آخر أن بلاده بانتظار قرار أنقرة.

وحين سئل الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين في مارس/آذار الماضي عن الأمر، أجاب بأن الإجراءات المتعلقة بالصفقة الأولى لم تنته، وإن كل ذلك "جزء من العملية نفسها، والأمور المتعلقة بالمحطات المختلفة للاتفاق مستمرة".

صفقة ثانية؟

حسنا، هل ستذهب تركيا لصفقة ثانية للحصول على إس-400؟ لعل إجابة كالين السابقة تكتنز الإجابة، ولكنها تحتاج لبعض التفكيك والشرح.

على صعيد الحاجة، ما زالت أنقرة تريد منظومات دفاعية حيث إن الصفقة الأولى التي شملت منظومتين لا تغطي كل حاجتها. ومن حيث المبدأ، فقد اتفقت سابقا مع موسكو على دفعتين وليس دفعة واحدة من إس-400 كما سبق ذكره، بل إن الجانبين في حالة تفاوض مستمرة فيما يبدو بخصوص الصفقة. لكن ذلك لا يعني أنها تسعى اليوم على المستوى العملي، وكذلك على صعيد التوقيت لتنفيذ صفقة جديدة مع موسكو.

فمن جهة، ما زالت أنقرة لم تصل لنتيجة في مساعيها لتجنب العقوبات الأميركية وإقناع واشنطن بتخطي عقدة المنظومة الروسية في علاقاتهما الثنائية، وبالتالي من غير المتوقع أن تضيف أنقرة عامل توتر إضافي في هذا الصدد.

ومن جهة أخرى، لم تعمد تركيا حتى اللحظة لتفعيل المنظومة الأولى على أراضيها، ومن غير المرجح أن تفعّل أي منظومات إضافية قبل أن تحل الأمر مع الولايات المتحدة. بل إن ذلك عرّض الحكومة لانتقادات المعارضة التي رأت بأنها صرفت 2.5 مليار دولار على منظومة لم تستفد منها بعد.

في المقابل، إن ورود التصريحات جميعها من الطرف الروسي وبشكل متواتر يشير إلى هدف روسي ضمني -أو محتمل على أقل تقدير- وهو توتير العلاقات التركية الأميركية الآخذة في التحسن مؤخرا؛ إذ إن "تسميم العلاقات" بين أنقرة وواشنطن مصطلح بات يستخدم كثيرا مؤخرا في الإعلام التركي لوصف التصريحات الروسية المقصودة. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن الخلافات التي دبت بين الولايات المتحدة وتركيا -القوتين الأولى والثانية في الناتو- في السنوات الأخيرة مصلحة إستراتيجية روسية سعى لها بوتين باحترافية وحققها بنجاح على مدى السنوات القليلة الماضية.

ومن زاوية أخرى، فإن استمرار تركيا في مفاوضاتها مع روسيا وتواتر التصريحات الروسية قد يفيد باعتبار ذلك ورقة ضغط لأنقرة في مفاوضاتها مع واشنطن، خاصة أن بعض الأصوات في واشنطن وبروكسل تعترف بأن تنكر حلفاء الناتو لتركيا هو السبب الرئيس لتوجهها نحو روسيا.

أخيرا، ثمة من يرى بأن تركيا أخطأت خطأ كبيرا بشرائها المنظومة الروسية من باب أنها جزء من التحالف الغربي وأن خصومها "المفترضين" بالتالي ليسوا من الناتو، وبالتالي فهي اشترت المنظومة بلا جدوى. غير أن ذلك غير دقيق، رغم الإقرار بأن الصفقة كانت مغامرة كبيرة وعرضتها لضغوط ربما لم تكن في حسبانها؛ ذلك أن التوتر المستمر بدرجة أو بأخرى في شرق المتوسط يقول بأن تركيا قد تحتاج للمنظومة في أي مواجهة محتملة مع طرف "غربي"، أي اليونان في هذه الحالة ومن يقف إلى جانبها.

لكن ذلك أيضا لا يعني أن المنظومة الروسية ستكفي تركيا بشكل كامل، حيث لديها أيضا خصومها في الطرف الآخر وعلاقاتها مع موسكو ليست مستقرة دائما. ولذا، فربما كانت تركيا جادّة فعلا في رغبتها في الحصول على منظومة باتريوت إضافة إلى إس-400، وليس لامتصاص غضب واشنطن فحسب، لكن ذلك يفرض عليها تحديات إضافية، سياسية ولوجستية وفنية، حول إمكانية ثم كيفية الجمع بين النقيضين على أراضيها وبقرار ذاتي مستقل منها، بينما تستمر الضغوط المباشرة وغير المباشرة عليها من الطرفين.

وبالتالي، فليس من المتوقع أن تسارع تركيا حاليا لصفقة إضافية من إس-400 قبل أن تصل لاتفاق ما مع الإدارة الأميركية يجنبها أزمة إضافية معها. لكن هذا التوجه قد يعدَّل في أي لحظة، بين يدي أي تطورات مفاجئة أو غير مرغوب فيها في بعض الملفات الإقليمية، وخصوصا ملف شرق المتوسط، حيث إن حاجة تركيا للمنظومة بشكل عملي وملح في أي وقت سيحسم الأمر بشكل نهائي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.