حضور الإسلام في المنظومة الإقليمية بين قيود ترامب ومعضلة بايدن

لا شك أن حضور الإسلام في المجال العام والخطاب السياسي شهد تراجعًا حادًّا في عدد من الدول العربية في السنوات العشر الأخيرة التي أعقبت ثورات الربيع العربي والثورات المضادة لها وما تخلّلهما من تدافع بين تمثلات مختلفة من الحضور الإسلامي ووطنيات شرسة وليبرالية مرتبكة. ومع تولي إدارة أميركية جديدة الحكم في واشنطن يعود السؤال الذي قد لا يرغب كثير من المسلمين في الاعتراف بأهميته: ما أثر توجهات وسياسات هذه الإدارة في الشرق الأوسط في حضور الإسلام؟ في البداية من المهم توضيح المقصود في هذا المقال المختصر "بحضور الإسلام" وأين؟

بشكل تلقائي تمامًا يمكن اقتراح عدد من المساحات التي يفرضها علينا خيالنا السياسي المحدود بتقسيمات وتصنيفات الحداثة التي لا تخرج عن: حضور الإسلام بوصفه مصدرا لهوية جامعة عابرة للحدود الوطنية ومؤسسة لإطار قانوني ومؤسسي وقيمي للعمل الجماعي بين الدول ذات الأغلبية المسلمة ولتفاعلها مع الدول الأخرى، وحضور الإسلام بوصفه مصدرا ومرشدا لتشكل المصلحة الوطنية للدول ذات الأغلبية المسلمة بشكل منفرد أو على الأقل كقيد على بعض الاختيارات المتاحة لتحقيق مصالح وطنية مشكلة ماديًا (الأمن والاقتصاد)، وحضور الإسلام بوصفه مصدرا لحشد الموارد المعنوية والمادية لتنظيمات سياسية واجتماعية تعبّر عن رغبة قطاعات من المجتمعات المسلمة في العمل التنظيمي لدفع، واستشكال وأحيانًا كثيرة منافسة الدولة في كل من المستويين الأول والثاني، وحضور الإسلام في مستوى التشريعات المحلية والقيم والمظاهر العامة والعلاقات الاجتماعية، وحضور الإسلام في مستوى التدين الفردي كمرشد للسلوك الشخصي والاطمئنان الروحي.

بينما رأى ترامب سلوك إيران العدائي سببا رئيسًا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، يبدو أن بايدن يراه نتيجة لمعضلة أمنية كلاسيكية. على عكس افتراض دوافع "سيئة" لأحد أطراف الصراع، يقترح مفهوم المعضلة الأمنية (الذي يعدّ أحد أهم مفاهيم النظريات الواقعية خاصة الواقعية الدفاعية) أن الدول تدخل في صراعات قد تبلغ المواجهات العسكرية رغم عدم حمل أي منها نوايا هجومية.

ولا شك أيضًا أن الإسلام فقد حضوره في كل من المستويين الأول والثاني منذ مدة طويلة، ربما منذ نشأة النظام الإقليمي الحديث نفسه، في حين كان حضور الإسلام في المستوى الثالث الضحية الأبرز للثورات المضادة، بل أصبح يُخشى أيضًا على حضور الإسلام في كل من المستويات الرابع والخامس. وقد يرى البعض أن تحرر النخب الوطنية العربية من القيود الدولية في سعيها إلى إعادة ضبط المنظومة الإقليمية بمستوياتها المختلفة بما في ذلك علاقة الدولة-المجتمع مدخل مهم لفهم بعض العوامل المؤثرة وأثرها في حضور الإسلام في هذه المستويات. وهذا ما يعيد الاعتبار للبيئة الدولية ومتغيراتها وأهمها سياسات المهيمن: الولايات المتحدة.

ومن المفيد الانطلاق من التعامل المختلف لكل من بايدن وترامب مع المنافسات الأمنية الإقليمية بين إيران وحلفاء الولايات المتحدة. فبينما رأى ترامب سلوك إيران العدائي سببا رئيسًا لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، يبدو أن بايدن يراه نتيجة لمعضلة أمنية كلاسيكية. على عكس افتراض دوافع "سيئة" لأحد أطراف الصراع، يقترح مفهوم المعضلة الأمنية (الذي يعدّ أحد أهم مفاهيم النظريات الواقعية خاصة الواقعية الدفاعية) أن الدول تدخل في صراعات قد تبلغ المواجهات العسكرية رغم عدم حمل أي منها نوايا هجومية.

وبشكل مختصر تعني المعضلة الأمنية أنه عند سعي دولة إلى زيادة قدراتها العسكرية حتى إن كان الهدف هو الأمن والدفاع فإن ذلك يثير قلق الدول الأخرى التي ترى أن زيادة قدرات تلك الدولة يجعلها أقل أمنًا ومن ثمّ تقوم هي الأخرى بزيادة قدراتها فيدفع ذلك الطرفين نحو منافسة أمنية غير ضرورية يمكن تجنّبها في حالة إدارة المعضلة الأمنية بطريقة تقلل من حدتها. ولا يعني ذلك عدم وجود نزاع مادي حقيقي على المصالح بل يعني أن البعد الإدراكي الحسّي يقوم بدور مهم في اعتقاد الطرفين بصعوبة التوصل إلى حلّ لهذا النزاع.

ففي نظر ترامب بدت إيران دولة توسعية هجومية ذات نوايا سيئة، وأن هذا هو سبب الصراعات في الشرق الأوسط، ومن ثم تنبغي مواجهتها بتفعيل التحالفات مع خصومها في المنطقة. ترامب لم يرَ معضلة بل سلوك عدائي واضح، وعلى العكس يرى بايدن معضلة أمنية في الشرق الأوسط تحتاج إلى إدارة. وفي أثناء إدارة ترامب قامت الولايات المتحدة بدور "الحامي" (Protector) لحلفاء الولايات المتحدة مع شروط للحماية تخص توزيع المسؤوليات وتحمّل الأعباء (Burden Sharing) تعكس رؤية ترامب لمفهوم (الحماية). أما مع إدارة بايدن فيتوقع أن يعكس دور "القائد/المدير" (Manager) السياسات الأميركية نحو المعضلة الأمنية في الشرق الأوسط. هذه الأدوار وإن كانت تبدو غير مألوفة في الخطاب السياسي الإقليمي إلا أنها لا تبتعد عما قدمه كال هولستي إبّان تطويره لنظرية الأدوار (Role Theory) في تحليل السياسة الخارجية مقترحًا 17 دورًا تعرّف الدول نفسها من خلالها في البيئة الدولية.

إذن ما نراه من اختلاف في السياسات الأميركية ليس فكّ ارتباط أو انعزال بل إعادة تعريف لدور الولايات المتحدة في المنطقة. ويتطلب القيام بدور (مدير) المعضلة الأمنية الإقليمية استعادة قدر كبير من المصداقية والتأثير اللذين تعرّضا لتآكل واضح بسبب سياسات ترامب في توزيع المسؤوليات لمواجهة التحديات الإقليمية المشتركة، وما نتج عن هذه السياسات من إطلاق يد الحلفاء في المنطقة لمواجهة هذه التحديات، وقد تحتاج الإدارة الجديدة إلى خطوات سريعة ومباشرة لتقييدها في إطار إدارة المعضلة الأمنية التي تتطلب الضغط على طرفي المواجهة، وتقديم ضمانات، والتحكم في حجم القدرات العسكرية الهجومية ونوعها، وغيرها من السياسات التي لا تهدف فقط إلى التعامل مع عدم التوافق على المصالح بل الأهم مع عدم الثقة بالنوايا المستقبلية بين الطرفين.

ومن المهم أيضًا ربط هذا الدور الإقليمي للولايات المتحدة بدورها الدولي الذي عبّر عنه بايدن بوضوح في أكثر من مناسبة، خاصة في مقاله في مجلة الشؤون الدولية الذي حمل عنوان "قائد دولي ديمقراطي/ليبرالي يقود تحالفا من الديمقراطيات لمواجهة قوى الاستبداد وإنقاذ المنظومة الدولية الليبرالية" (Liberal International Order). وهذا يضع عبئًا إضافيًا على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. ففضلا عن القيود المتوقعة على حركة هذه الدول على المستوى الإقليمي سيكون هناك أيضًا ضغط ما على علاقاتها بمجتمعاتها، وهو ما عبّرت عنه الإدارة الأميركية بشكل واضح عندما أشارت إلى ضبط العلاقة مع المملكة العربية السعودية ليس طبقًا لمصالح الولايات المتحدة فقط بل وفقًا لقيمها أيضًا. إذن سيتعين على هذه الدول التفكير مليًّا ليس فقط في التعامل مع تكلفة موضوعية في سياق المنافسة الأمنية الإقليمية بل كذلك في إعادة تعريف أدوارها في مقابل أدوار الولايات المتحدة الإقليمية والدولية كما عبرت عنها الإدارة الأميركية. وبالطبع، أدوار كشريك اقتصادي وحليف إستراتيجي في الحرب على الإرهاب لن تفقد بريقها لكنها قد لا تذهب بعيدًا لإطلاق يد حلفاء الولايات المتحدة في سياساتها الإقليمية والداخلية كما كان الحال أثناء إدارة ترامب.

ولفهم سياق هذه التفاعلات المادية والبين-ذاتية (Intersubjective) بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين من المفيد النظر في ما يعنيه مفهوم المنظومة (Order)؛ ففي النهاية يمكن وصف الخلاف بين الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين بأنه خلاف على طبيعة المنظومة الإقليمية وعناصر استقرارها. إذ يرى بايدن المنظومة الإقليمية في سياق إعادة تأهيل المنظومة الليبرالية الدولية وقيمها ومن ثمّ فإن إدارة المعضلة الأمنية عن طريق ضبط توازنات القوى ما هي إلا مرحلة تسبق أو تتزامن مع بناء منظومة إقليمية على أسس قانونية، ومؤسساتية، وقيمية لتكون جزءًا حقيقيًا من المنظومة الليبرالية الدولية. ويتماشى هذا الفهم مع التعامل النظري مع مفهوم المنظومة ومستويات استقرارها في أدبيات العلاقات الدولية الليبرالية، إذ يمثل توازن القوى وتقييده لرغبات الدول في توسع المستوى الأكثر سطحية للاستقرار، في حين يمثل مستوى الإذعان المصلحي لقوانين ومؤسسات المنظومة مستوى متوسط العمق، ومن ثم مستوى الإدماج والقبول الداخلي بقيم المنظومة من أمن جماعي وانفتاح اقتصادي، وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وترى النخب الوطنية العربية المنظومة الإقليمية بشكل أكثر تعقيدًا قليلًا، ترتبط فيه عوامل الاستقرار الداخلي والخارجي معًا، فقد مثّل التركيز على هذا الارتباط موضوعا متكررا في الخطاب السياسي عن الاستقرار الإقليمي في مرحلة ما بعد الربيع العربي بشكل واضح. وهذه الرؤية يمكن فهمها باستخدام مفهوم شيبينغ تانغ للمنظومة: درجة التوقع والانتظام للأحداث في نظام اجتماعي ما. يضع تانغ معيار التوقع والانتظام في مقابل العشوائية والفوضى محددًا 4 عناصر لاستقرار المنظومة (Order Stability): أولًا، حصرية استخدام القوة. ثانيًا، تحسن مستوى رفاهية الأفراد في ظل المنظومة القائمة. ثالثًا، مأسسة المنظومة (أفقيًا: نطاق تغطية الأحكام والإجراءات للمجالات والقضايا المختلفة) و (عموديًا: درجة التوغل في المستوى الجماعي والفردي). رابعًا، الاستيعاب الداخلي (Internalization) لشرعية الهيكل المؤسسي للمنظومة.

يقدم هذا المفهوم مساحة جيدة لفهم حجة وتسويغ بل ودور النخب الوطنية العربية على المستوى الإقليمي والداخلي، فهذه النخب ترى أن المنافسة الأمنية الإقليمية لا يمكن فصلها عن حصرية استخدام القوة كعنصر أساسي في علاقاتها مع مجتمعاتها بل إن المنافسات الأمنية في المنطقة تستهدف عادة بشكل متبادل قدرة كل دولة على ضبط الأمن والاستقرار داخليًا. وفي هذا السياق تفهم النخب الوطنية العربية ثورات الربيع العربي أنها مصدر لعدم الاستقرار والفوضى في المنطقة أثّر في قدرتها على توفير الأمن والرفاهية لمجتمعاتها. من جهة أخرى ساعد فشل هذه الثورات وآثارها المدمرة في عدد من الدول العربية هذه النخب على تجاوز الأسئلة القيمية المرتبطة بشرعية المؤسسات التي تقدم خدمات الأمن والرفاهية. بمعنى آخر تحولت كفاءة تقديم هذه الخدمات الأمنية والاقتصادية إلى أسس لشرعية هذه النخب بعيدًا عن أي مدخلات قيمية أو ثقافية.

السؤال هو: ما الاستجابات الممكنة لهذا الضغط متعدد المستويات؟ بالطبع تلقي تجربة النخب الوطنية العربية مع أوباما بظلالها على نطاق الاستجابات الممكنة خاصة مسايرة الولايات المتحدة في إعادة اكتشاف أدوارها الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط.

هذه الحالة لم تقدم فقط تسويغًا للنخب الوطنية العربية لتشكيل علاقاتها بمجتمعاتها بشكل مادي بحت بل عملت كذلك كتسويغ لحركتها الخارجية على المستوى الإقليمي بحثًا عن عناصر عدم الاستقرار في الخارج التي تأخذ عادة شكل جماعات مسلحة أو تنظيمات سياسية بأيديولوجيات عابرة للحدود تسائل وتستشكل وتثور عناصر عدم الاستقرار القيمية والشرعية بعيدًا عن كفاءة تقديم خدمات الأمن والرفاهية. وساعد دعم ترامب لهذا التسويغ أيضًا على تحرك هذه النخب بوجهها الحقيقي كتحالف بين النخب الحاكمة يدير شبكات أمنية واقتصادية وطنية تسعى إلى تمدديها أو استنساخها في دول فاشلة أو متأرجحة بين الربيع العربي وداعميه من جماعات ودول وبين الثورات المضادة له. إذن رغم حدّة المنافسات الجيوسياسية في الإقليم، التي قد تغري المحلل باختزال المنافسات الإقليمية في إطارها، فإن الصراع على تشكيل المنظومة الإقليمية بأبعادها ومستوياتها يمثل إطارا أوسع لفهم هذه المنافسات بطريقة تقود إلى فهم أشمل لما تواجهه النخب الوطنية العربية من أزمة على مستويين أمام تحول دور الولايات المتحدة إقليميًا ودوليًا، فإدارة المنافسة الأمنية كمعضلة أمنية كلاسيكية تقيد حركة هذا التحالف على مستوى التوسع الجيوسياسي التقليدي في حين تمثل استعادة الولايات المتحدة دور قائد للمنظومة الليبرالية الدولية تحديًا جوهريًا للمحتوى التسويغي الخطابي لهذه الحركة في المقام الأول.

والسؤال هو: ما الاستجابات الممكنة لهذا الضغط متعدد المستويات؟ بالطبع تلقي تجربة النخب الوطنية العربية مع أوباما بظلالها على نطاق الاستجابات الممكنة خاصة مسايرة الولايات المتحدة في إعادة اكتشاف أدوارها الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط، وما يتطلبه ذلك من مشاهدة استغلال قوى إقليمية وجماعات قتالية وسياسية للمساحات الناتجة عن الاستجابة للضغوط الأميركية على المستوى الإقليمي ومستوى الدولة-المجتمع، وذلك يجعل المسايرة غير المشروطة خارج نطاق الاحتمالات.

هناك كذلك الحل الكلاسيكي: بثّ الروح في تمثّلات الإسلام الراديكالي على المستوى الأيديولوجي والتنظيمي مما يسهل من الاستمرار في، بل وتعزيز "أمننة" المساحة بين الدولة-المجتمع، على أن تكون هذه السياسة جزءًا من إستراتيجية تتضمن أيضًا: تعزيز الشراكة الأمنية والسياسية مع إسرائيل، والانفتاح على ما يمكن أن تقدمه الصين، وكل منهما بالمناسبة يتفهم الاحتياجات الأمنية والاقتصادية لتحالف النخب الوطنية العربية بل ولمفهومها للاستقرار الإقليمي بشكل ممتاز ولديه الرغبة في العمل مع هذه النخب لتحقيقها. في هذا المسار يمثل التعلق بالعلاقة الأميركية-الإسرائيلية والقبول والتأثير الذي يحظى به الخطاب التسويغي الإسرائيلي لسياساتها الإقليمية لدى دوائر صنع القرار في واشنطن محاولة لإقناع الولايات المتحدة بالكفّ عن التعامل مع دول عدائية مثل إيران بوصفها دولة ذات نوايا دفاعية في حين يمثل تعزيز الانفتاح على الصين محاولة لدفع الولايات المتحدة إلى التعامل مع الإقليم كجزء من منافسة أمنية جيوسياسية مع الصين وليس مشروعًا لتعزيز المنظومة الليبرالية الدولية.

ويمثل التقارب السعودي-التركي اتجاهًا مختلفًا قليلًا للتعامل مع متغيرات الموقف الأميركي. ولا شك أن كلًّا من السعودية وتركيا تمثل الأهداف الأكثر وضوحًا للضغط الأميركي سواء على مستوى سياساتهما الإقليمية أو الداخلية. وفضلًا عن ذلك، تمر تركيا بما يمكن وصفه بحالة من انحسار القدرة على جذب التحالفات على الأقل في المنطقة العربية، في حين لا يبدو الارتياح على صناع القرار في السعودية من خطوات الإمارات المتسارعة خاصة في علاقتها مع إسرائيل واستثمارها هذه العلاقة في وضع السعودية بثقلها السياسي وعمقها الهوياتي أمام اختيارات صعبة لمجاراة هذه الخطوات والحفاظ على مكانتها في التحالف السعودي، المصري، الاماراتي. أيضًا. ويمثل التوتر التركي-الإيراني في الآونة الأخيرة عنصر جذب آخر للتقارب مع تركيا، مقارنة على سبيل المثال بالدور المصري في ما يخص إيران تحديدًا، الذي لم يتعدّ الدعم الرمزي المعنوي المتقطع للمملكة. أخيرًا، يمثل التقارب التركي-السعودي فرصة مواتية لتخفيف الاحتقان في علاقة كل من الطرفين مع أطياف واسعة من الرأي العام العالمي العربي والإسلامي.

بالنسبة لحضور الإسلام في مستوى الخطاب السياسي قد تظهر بعض الاستخدامات الأداتية لبعض المدخلات الإسلامية لتسويغ تحركات إقليمية كالتقارب التركي-السعودي، وعلى مستوى التنظيمات السياسية الإسلامية العابرة للحدود سيستمر الضغط

ما سبق لا يعني أننا سنشهد تحالفًا حقيقيًا على مستويات متعددة بين السعودية وتركيا، يعقلن فقط من خطوات التقارب التي شهدتها العلاقة بينهما بالفعل، بل تقارب يعطي مساحة للتأثير (Leverage) تكاد تكون تلقائية في تفاعلات الدولتين المختلفة، خاصة في مقابل مطالبات الولايات المتحدة المرتبطة بإدارة المنافسات الأمنية الإقليمية وإعادة إحياء المنظومة الليبرالية الدولية.

واستباقًا لأي احتفاء إسلامي بهذا التقارب ينبغي هنا تأكيد أن هذا التقارب تقارب أداتي، بمعنى أنه يأتي في إطار عمل كل من السعودية وتركيا على تعظيم منافعهما الأمنية والاقتصادية في ظل الاختيارات المتاحة في البيئة الإقليمية والدولية. أي إن الحديث هنا ليس عن رغبة الطرفين في "حضور الإسلام" في مستويات مختلفة بقدر ما هو حديث عما يمكن وصفه بالنتائج غير المقصودة (Unintended Consequences) لهذه الاستجابة للسياسات الأميركية والتحديات الإقليمية الناتجة عنها. مع ذلك، وبسبب الثقل الذي تتمتع به كل من تركيا والسعودية في العالم الإسلامي سيكون من الصعب تجاهل البعد الإسلامي لهذا التقارب، حتى وإن حاول صنّاع القرار في كل منهما التقليل منه حتى لا يثير انتباهًا غير ودّي على المستويين الإقليمي والدولي.

من جهة أخرى قد يستفيد الخطاب السياسي للسعودية بشكل خاص من بعض المدخلات الإسلامية بالتوازي مع تهدئة حدّة وشراسة حضور الوطنية، الذي بدا "مناسبًا" كخطاب لثورة مضادة على المستوى الإقليمي في ظل انحسار للمنظومة الليبرالية على المستوى الدولي. إلا أن الوضع أكثر تعقيدًا الآن: انحسار القوة التسويغية للخطاب الوطني على المستوى الإقليمي بدرجة ما مع تبنّي الولايات المتحدة خطابًا ليبراليًا على المستوى الدولي مما يجعل من الخطاب الوطني الفقير قيميًا في حاجة إلى مدخلات هوياتية توازن الخطاب الليبرالي الدولي من جهة وتعزز من الحضور الإقليمي في مقابل الخصوم كإيران أو الحلفاء كالإمارات من جهة أخرى. أخيرًا، يمثل انحسار حدّة الخطاب الوطني فرصة لتخفيف وتيرة الاستيعاب الداخلي وإدماج الأفراد في رؤية لحياة جماعية تمثل شبكة توزيع القيم المادية أسس استدامتها والنفاذ إلى منافعها والارتباط بها بوصفها مرشدًا للسلوك الشخصي ومصدرًا للاطمئنان النفسي.

في النهاية، في ظل الاستجابة لتغيرات السياسة الأميركية من خلال تعديل اتجاه وسرعة حركة بعض النخب الوطنية العربية إقليميًا قد تُفتح مساحات وتُخفف قيود، وبالنسبة لحضور الإسلام في مستوى الخطاب السياسي قد تظهر بعض الاستخدامات الأداتية لبعض المدخلات الإسلامية لتسويغ تحركات إقليمية كالتقارب التركي-السعودي، وعلى مستوى التنظيمات السياسية الإسلامية العابرة للحدود سيستمر الضغط، أما على مستوى التشريعات المحلية والقيم والمظاهر العامة والعلاقات الاجتماعية، ومستوى التدين الفردي الشخصي كمرشد للسلوك الشخصي والاطمئنان الروحي فقد تقلّ وتيرة وحدّة تآكل حضور الإسلام في مقابل الوطنية؛ فماذا سيفعل المسلمون للاستفادة من هذه المساحات؟ سؤال يتعدى نطاق هذا المقال.

 

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.