الذي أخرج المتظاهرين بمصر هل يمكنه التحكم فيهم؟

نشرة الثامنة- نشرتكم (2019/9/21)

من ساعة إلى أخرى؛ تتكشف أجزاء من حقيقة ما يجري في مصر بعد المظاهرات التي خرجت في ميادين مختلفة من القاهرة والمدن المصرية الكبرى تطالب برحيل الجنرال عبد الفتاح السيسي عن الحكم، فيما بدا أنه استجابة لدعوات الفنان ورجل الأعمال المصري محمد علي.

من وقت إلى آخر؛ يتأكد أن المتضررين من السياسة المتهورة والمتخبطة للسيسي هم كلمة السر في الحدث المفاجئ، أو المتوقع نوعا لا كيفا؛ وهم ما بين سياسيين ومدنيين لحقت بهم أضرار بالغة من قرارات الجنرال وإجراءاته بالعزل أو السجن، أو مصادرة الحياة السياسية والاقتصادية لصالح شركات الجيش والبرلمان المصنوع، أو غير ذلك.

ولا شك أن أخطر مكوّنيْن لهؤلاء المتضررين من وجود السيسي في السلطة هم رجال دولة حسني مبارك التي لم تمت، وحاولت أن تتأقلم مع السيسي بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 بحيث يصبحون دولة "الجنرال الجديد" كما كانوا دولة سلفه، ولكن إجراءات السيسي ومواقفه الاقتصادية والسياسية كانت كفيلة بتحويلهم إلى خصوم خطرين عليه.

ويتمثل رجال دولة مبارك -مع تغلغلهم في شرايين الدولة المصرية- في كثير من ضباط جهاز المخابرات العامة، وكبار رجال الأعمال، وبعض قيادات الجيش المتقاعدة، وكذلك رجال البيروقراطية المصرية الكبار من موظفي أجهزة الدولة، إضافة إلى الأزهر ودار الإفتاء، وولديْ مبارك (علاء وجمال) وحاشيتهما.

وأما المكوِّن الثاني فيمثله كبار ضباط الجيش المصري الذين أطيح بكثير منهم من مناصبهم، ووُجِّه آخرون منهم إلى أعمال غير عسكرية، وأُهين قادتهم السابقون بشكل قاسٍ (سامي عنان مثلا)، وبدا أن سياسة الرجل الواحد يمكن ممارستها مع المدنيين، وأما مع العسكريين فهي ممارسة خطرة.

ولا أعني بسياسة الرجل الواحد -التي مارسها السيسي ضد كل آخَر- مجردَ التحكم في أجهزة الحكم السياسية، وتوجيهها بقرارات فردية، والتأثير في قرارات البرلمان ومواقف القضاء؛ بل أعني بها أيضا انتقال السيسي إلى الحياة المدنية التي تموضع فيها رئيسا للدولة، لم ينقص من تدخله في سياسة القوات المسلحة مباشرة وفي كل صغيرة وكبيرة منها.

من وقت إلى آخر؛ يتأكد أن المتضررين من السياسة المتهورة والمتخبطة للسيسي هم كلمة السر في الحدث المفاجئ، أو المتوقع نوعا لا كيفا؛ وهم ما بين سياسيين ومدنيين لحقت بهم أضرار بالغة من قرارات الجنرال وإجراءاته بالعزل أو السجن، أو مصادرة الحياة السياسية والاقتصادية لصالح شركات الجيش والبرلمان المصنوع، أو غير ذلك. ولا شك أن أخطر مكوّنيْن لهؤلاء المتضررين من وجود السيسي في السلطة هم رجال دولة حسني مبارك التي لم تمت

وذلك مع حرصه على سحب كل القيادات وراءه في كل مؤتمر وندوة حضرها تقريبا، والحرص على الظهور بصورة متفردة تميزه عمن عداه، وتعمد توجيه الأوامر إلى القيادات الكبيرة في الجيش أمام الكاميرات بشكل مهين!

كل هذا يضاف إليه التمكين لذوي الولاء المضمون عنده في الجيش وجهاز مخابراته؛ مثل ابنه محمود السيسي، وإحكام الرقابة على القيادات التي بدا أنه لا يطمئن إليها جملة، وقد اشتهر أنه كان يفتش هذه القيادات عندما يجمعه بهم مكان، ويجردهم من سلاحهم الشخصي، وهو أمر غير معتاد من رئيس دولة تجاه "قيادات" جيشه على الأقل.

إن جموع المواطنين المصريين أولى بأن تكون متضررة من وطأة حكم السيسي وقبضته الحديدية، ومحاولاته الإعلامية المكشوفة والممجوجة لتجميل سياساته، كما تضرروا من تخبط الدولة الاقتصادي والأمني الخطير، بحيث لم يعد المواطن يجد من الدولة إلا التضييق عليه في معايشه وحريته؛ فلا أمان يطمئنه، ولا لقمة عيش تشبعه.

لكن جموع الشعب بدت أمام القبضة الأمنية الباطشة -مع كثرة وقرب ذكرياتها المؤلمة- عاجزةً وخائفةً، وهو شعور طبيعي قد يؤجل انطلاق الغضب من الاستبداد الطاغي، ولكنه لا يلغيه عادة. وهنا يلتقي المتضررون من حكم السيسي من كل درجة ولون.

إن أي حكم يملك قدرة على البقاء بقدر وجود فئات مكينة منتفعة بوجوده، وهو ما لم يدركه الجنرال إلى الآن؛ فكان اللقاء بين المتضررين الأقوياء من ناحية والكثيرين من ناحية أخرى، وهو ما ترجمته مظاهرات أمس الجمعة (20 سبتمبر/أيلول).

ومهما يكن؛ فواضح أن هناك من أدرك أن إعداد سيناريو جماهيري للصياح في وجه السيسي قد حان، وأنه لا يحتاج منه إلى جهد كبير، فالغضب من أحوال مصر مكبوت في صدور الملايين، وإنما يحتاجون فقط إلى الاطمئنان بأن الدبابات لن تدهسهم، وأن الطلقات النارية الحية لن تخترق صدورهم ولا رؤوسهم، وأن النيران لن تحرقهم في الميادين.

وقد مثلت تسجيلات الفيديو التي بثها محمد علي على شبكة الإنترنت، وتم ترويجها بصورة واسعة جدا؛ عودَ الثقاب الذي لم يكن كافيا إلا لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي ضد السيسي وأسرته (فقط)، ثم جاءت الطمأنينة إلى أن قوات الشرطة والجيش لن تطلق النار الحي على المتظاهرين لتشعل أرض الميادين كذلك، وذلك عقب مباراة الأهلي والزمالك التي تحظى عادة بحضور جماهيري ضخم لنادييْن لهما ثأر مبيَّت عند النظام.

التخطيط واضح إذن، إلا أن غير الواضح تماما هو الهدف من هذا التخطيط؛ فماذا عساه أن يكون؟
لا ينبغي أن نقطع الآن بأن الهدف من المظاهرات التي ملأت مصر أمس -لدى محركيها طبعا- هو الخلاص من السيسي تماما، فهذا هدف محتمل وقوي فقط، وقد يكون الغرض هو الضغط عليه بقوة لتغيير سياساته، والاكتفاء بدور مبارك في إدارة الدولة عن طريق مستشاريه، وترك الجيش يدير أمره بنفسه.

وكذلك إفساح المجال للقطاع الخاص ليمارس دوره الاقتصادي الذي برز فيه من قبل؛ أي أن يعيش الجنرال متمتعا بسلطته بين دولتين منتفعتين بوجوده: دولة الضباط الكبار، ودولة رجال الأعمال النافذين، وبينهما عشرات الملايين من المهمشين.

وأهمية هذا الاحتمال تكمن في أنه سيتحكم في حجم الانفراجة السياسية التي يمكن أن تشهدها مصر عقب الأحداث الحالية، فقد لا تشمل الخصوم الأقوياء الذين يمكن أن يهددوا النظام عن طريق الانتخابات البرلمانية، أو الرئاسية أو الحراك الجماهيري الضخم.

لا ينبغي أن نقطع الآن بأن الهدف من المظاهرات التي ملأت مصر أمس -لدى محركيها طبعا- هو الخلاص من السيسي تماما، فهذا هدف محتمل وقوي فقط، وقد يكون الغرض هو الضغط عليه بقوة لتغيير سياساته، والاكتفاء بدور مبارك في إدارة الدولة عن طريق مستشاريه، وترك الجيش يدير أمره بنفسه. وكذلك إفساح المجال للقطاع الخاص ليمارس دوره الاقتصادي الذي برز فيه من قبل؛ أي أن يعيش الجنرال متمتعا بسلطته بين دولتين منتفعتين بوجوده: دولة الضباط الكبار، ودولة رجال الأعمال النافذين، وبينهما عشرات الملايين من المهمشين

إن احتمال أن يكون هدف المظاهرات هو الخلاص من السيسي نهائيا سيفرض على القادم الجديد أو القادمين الجدد انفراجة بحجم التغيير نفسه، وهو ما سيفتح عليه أبوابا خطيرة قد تمسه هو ورجاله في الصميم، من محاكمة الفساد، والتحقيق فيما جرى بمصر في ثورة 25 يناير/كانون الثاني وانقلاب 3 يوليو/تموز، وما جرى في السجون من قتل للأبرياء (منهم الرئيس السابق محمد مرسي رحمه الله)، وغير ذلك من ملفات خطيرة جدا. كما يمكن أن تهدد الانفراجة الجديدة المحتملة المستقبل السياسي للانقلاب الثاني برمته!

ويبقى معنا سؤال هذه السطور الأساسي، ولعله من الناحية العملية أخطر مما سبق: هل يمكن لمن طمأن هذه الجماهير حتى خرجت تصرخ في الميادين بسقوط السيسي أن يتحكم في تطورات حراكها؟

قد نرى جزءا من الإجابة على هذا السؤال في أحداث اليوم أو الأيام القليلة التالية؛ إذ إننا سنبقى بين احتمالين:

الأول: رضا الجماهير بانفراجة نسبية وقبولها القيام بدور وظيفي لصالح خصوم السيسي الأقوى. وتشيع في عامة المصريين -في جو الأزمات الطاحنة الحالية- نبرةٌ تساعد على هذا، وهي نبرة "العيش المستور"، وأن ثورة 25 يناير/كانون الثاني جرّت على البلد متاعب كثيرة، وأن العودة إلى حال مصر قبل عشر سنوات أفضل من الاضطرابات التي يمكن أن تجرّها مساعي الإصلاح التام.

الثاني: تمدد مطالب الجماهير إلى ملفات أساسية تشمل التغيير الجذري والعودة إلى روح ثورة 25 يناير/كانون الثاني وتأبّيها على الاحتواء، وهذا رهين بمدى ظهور قيادات للحراك وموجّهين له يمكن أن يشاركوا في توعية الجماهير على القرب والبعد، وكذلك بروز العنصر الشبابي في الحراك المصري؛ لأن العنف ضد المظاهرات في كل صوره محتمل جدا في هذه الحالة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.