ماذا تريد مصر من غزة؟

هنية يلتقي الوفد الأمني المصري في غزة لبحث تنفيذ بنود اتفاق المصالحة الفلسطينية

تكثف مصر جهودها لتحقيق اتفاقات تتعلق بمستقبل قطاع غزة، وهو ما يثير الاهتمام ويدعو إلى التساؤل عن جوهر موقفها ورؤيتها لمستقبل القطاع. وقد كان الموقف المصري -خلال عقود ماضية- يرفض تحمل مسؤولية القطاع، إلا أنه مع التغيرات في سياسة النظام المصري والبيئة السياسية الإقليمية يجدر أن نعيد التساؤل عما إن كان هذا الموقف ما زال ثابتا؟

وقد كان للموقف المصري التقليدي أسباب، منها:
1- ثقل العبء السياسي والأمني والاقتصادي المترتب على المسؤولية عن القطاع، خصوصا أن سكانه لا يرون أنفسهم جزءا من مصر، وأن هؤلاء السكان لديهم مستوى عال من التسييس والتسليح والتدريب والخبرة القتالية، مما يجعل إدارتهم أمرا شائكا ومحفوفا بمخاطر عدة.

2- وجود موقف رسمي عربي يدعو إلى عدم إعفاء دولة الاحتلال من تبعات احتلالها، وأن تتولى المسؤولية الملقاة على عاتقها بصفتها القوة القائمة بالاحتلال.

3- وجود اتفاق عربي سابق على أن تكون منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين؛ وهو ما يعني دعم إقامة الفلسطينيين دولتهم الخاصة بهم، واعتماد مشروع حل الدولتين منذ قرابة ثلاثة عقود.

كما كان الموقف المعلن من صِيَغ طرح إقامة "دولة غزة" -من قبيل خطة "غيورا آيلاند"- هو رفضها، خصوصا لناحية أنها تقترح اقتطاع أراض من سيناءوضمها إلى قطاع غزة لإقامة دولة قابلة للحياة. وذلك لحساسية التخلي عن الأرض بالنسبة إلى الشعب المصري.

في الوقت الحالي تراجع أفق حل الدولتين وبرز مشروع صفقة القرن الذي تعدّ غزة فيه مركز الدولة الفلسطينية؛ حسبما أوحت بذلك تسريبات عدة. كما برز خيار الكونفدرالية بخصوص الضفة، وهو ما يستتبع إلحاق غزة بمصر غالبا. ويشير السلوك الرسمي المصري في السنوات الأخيرة إلى الاستعداد لتسييل العديد من ثوابته، في سبيل نيل الدعم الخارجي اللازم لتثبيت نظام الحكم الذي يعاني من ضعف شرعيته داخليا

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ما زالت هذه الأسباب قائمة؟ وهل ما زال هذا الموقف على حاله؟

في الوقت الحالي تراجع أفق حل الدولتين وبرز مشروع صفقة القرن الذي تعدّ غزة فيه مركز الدولة الفلسطينية؛ حسبما أوحت بذلك تسريبات عدة. كما برز خيار الكونفدرالية بخصوص الضفة، وهو ما يستتبع إلحاق غزة بمصر غالبا.

ويشير السلوك الرسمي المصري في السنوات الأخيرة إلى الاستعداد لتسييل العديد من ثوابته، في سبيل نيل الدعم الخارجي اللازم لتثبيت نظام الحكم الذي يعاني من ضعف شرعيته داخليا.

وظهر ذلك جليا في تحويله "السلام البارد" مع دولة الاحتلال إلى سلام دافئ للغاية، وصولا إلى سماحه للطيران الحربي الإسرائيلي بمراقبة وقصف أهداف داخل سيناء، وفي تنازله عن جزيرتيْ تيران وصنافير للسعودية، وتنازله عن جزء من حدوده البحرية مع اليونان.

وتشير مجمل هذه التصرفات إلى أنه من غير الصائب التعويل على رفض النظام المصري التنازل عن جزء من أراضيه لصالح صفقة مع دولة الاحتلال والإدارة الأميركية.

ومما يمكن أن يزيد احتمالية هذا الأمر؛ قيام النظام بترحيل الكثير من سكان المناطق المتاخمة لقطاع غزة، إضافة إلى بروز صيغة قد تشكل حلا يجنب النظام التنازل التام عن الأرض أو يجعله تدريجيا، وذلك بأن تتم إقامة مشاريع اقتصادية على الحدود مع غزة؛ يعمل فيها الفلسطينيون دون أن تنتقل ملكيتها إليهم في الأفق القريب على الأقل.

هل هناك مؤشرات تدعم هذه الفرضية؟ هذه المؤشرات موجودة بالفعل؛ إذ برز مؤخرا تزايد انخراط مصر في مساعي المصالحة، وتطويرها معبر رفح لوجستياً، واستعدادها للانخراط -على الأرض- في جهود تسلّم مقاليد السلطة على أساس أن تسلمها لعباس. علما بأن التسلم قد يتم، في حين قد لا يتم التسليم لعباس، وذلك بأن يطول أمد السيطرة المصرية بوسيط مثل محمد دحلان.

كما أن تناغم الموقف المصري مع الموقف الإسرائيلي في السنوات الخمس الأخيرة يدعم الافتراض بأن مصر لن تعارض مشروعا ترغب فيه دولة الاحتلال وتؤيده فيها الإدارة الأميركية.

وما موقف النظام المصري من تحفظاته السابقة؟ إن تراجع التهديد الذي كانت تمثله جماعة الإخوان المسلمين للنظام المصري يقلل من حساسيته للترابط بين حركة حماس والإخوان، كما أن الحركة أظهرت في الأعوام الثلاثة الماضية ميولا عملية وبراغماتية، تمثلت في الامتناع عن إصدار المواقف السياسية بخصوص الداخل المصري.

وأعربت مرارا للنظام المصري عن أنها تتعامل مع دولة مصر بغض النظر عمن يحكمها، والأمر الأهم هو تعاونها الأمني بخصوص سيناء، واتخاذها موقفا حاسما بشأن عدم جعْل غزة منطلقا لأي أعمال تستهدف الجيش والأمن المصرييْن.

إن تراجع التهديد الذي كانت تمثله جماعة الإخوان المسلمين للنظام المصري يقلل من حساسيته للترابط بين حركة حماس والإخوان، كما أن الحركة أظهرت في الأعوام الثلاثة الماضية ميولا عملية وبراغماتية، تمثلت في الامتناع عن إصدار المواقف السياسية بخصوص الداخل المصري. وأعربت مرارا للنظام المصري عن أنها تتعامل مع دولة مصر بغض النظر عمن يحكمها

هذا السلوك قد يدعو المصريين إلى اعتماد مقاربة إدماج حماس في ترتيبات مستقبل غزة وفقا للرؤية الأميركية، وعدم التمسك بالرؤية القديمة القائمة على إقصاء الحركة ومحاولة تحطيمها.

ومن المنطقي افتراض أن تقوم المقاربة الجديدة على ممارسة الضغط والإغراء لحماس بهدف تطويعها، وإجبارها على السير في مسار يؤدي إلى توظيف قدراتها العسكرية والتنظيمية وشرعيتها الوطنية لإدامة حالة من الهدوء والضبط الأمني، مع المراهنة على زيادة البعد "الدولتي" في اعتبارات الحركة وسلوكها، من خلال التنمية الاقتصادية للقطاع.

وذلك بحيث يصبح لدى الحركة الكثير مما يمكن أن تخسره في حال لجوئها إلى الحرب، وهو طرح شبيه بفكرة السلام الاقتصادي؛ مع فارق متمثل في أن حماس تسيطر فعليا على أرض القطاع وتحتفظ بسلاح أكثر مما ترغب دولة الاحتلال في وجوده على أرض مجاورة لها.

وما فرص تحقق ما تريده مصر؟ من المعلوم أن ما تريده مصر بشأن غزة لا يتحقق تلقائيا، فهناك أطراف أخرى فاعلة في هذا الملف، وهي حماس والسلطة في رام الله ودولة الاحتلال والولايات المتحدة والدول الأوروبية.

ومن الواضح أن مسعى سلام اقتصادي لن يواجه بمعارضة إسرائيلية أو أميركية، بل هو فكرة إسرائيلية في الأساس، والموقف الأوروبي لا يقوى على معارضة الموقف الأميركي. ويبقى موقف كل من حماس والسلطة التي يسعى رئيسها بكل ما أوتي من قوة لإفشال هذا المسار، لأنه يهمّش دوره ويزيد دور غريمته حماس.

أما حماس فتأمل في أن تكون مصلحتها تتقاطع جزئيا مع مصر، وخصوصا فيما يتعلق برفع الحصار والتنمية الاقتصادية، مع ما يرافق ذلك من زيادة مكانتها السياسية، ولعلها تراهن على أن تسير جزءا من الشوط مع مصر لتحقيق ما يمكنها من مكاسب، إلا أن هذا الرهان تعترضه تحديات أبرزها:

1- مساعي مصر لتليين المواقف السياسية للحركة بالتوازي مع تقديم أي مكاسب لغزة، تحت مسميات عديدة آخرها الحوار الإستراتيجي بين الطرفين. وتجدر الإشارة إلى أن منهجية مصر القائمة على "فصل الإنساني عن السياسي" في التعامل مع غزة لا رصيد واقعيا لها؛ إذ إن الجانب الإنساني يتم توظيفه بشكل حثيث لفرض التهدئة والتعاون الأمني مع مصر وغير ذلك.

مسار تطويع حماس قد يقتضي في نظر المصريين والإسرائيليين عدوانا عسكريا واسعا على القطاع، إذا لم تُفلح أساليب الضغط الحالية في تحصيل الموقف السياسي الذي يرغبون فيه، وهو ما يدعو حماس إلى تجنب أي معركة في ظرف سياسي يلائم خصومها ولا يلائمها. ورغم أن حماس -فيما يبدو- لا تملك حاليا سوى مجاراة مصر في مساعيها، فإن الانتباه لهذه المحاذير قد يسهم في تقليل الخسائر

2- صعوبة الجزم بحقيقة نوايا النظام المصري بهذا الشأن؛ فرغم أنه يرسم لها صورة وردية في تصريحاته فإن سلوكه يحتاج لأن يوضع تحت المجهر لتشخيص ما إن كانت إستراتيجيته تجاه حركة حماس قد تغيرت؛ أم إنه ما زال يعمل على إنهاكها وتطويعها مع إعطاء القطاع "قطرات من الماء في حلقه"، بما يمنع الانفجار في وجه الاحتلال أو مصر ولكنه لا ينهي المعاناة في ذات الوقت.

3- إن التقدم في هذا المسار سترافقه أضرار لجسم حركة حماس في الضفة، وقد يرتقي ذلك إلى الإضرار بتماسك موقفها السياسي. وتجدر هنا الإشارة إلى تصريحات لنواب وناشطين من الحركة في الضفة عارضت قرار المجلس التشريعي بنزع الشرعية عن عباس، الذي أعقبته حملة اعتقالات واسعة شملت ما يزيد على مئة من الأسرى المحررين ونشطاء الحركة في الضفة.

4- إن التفاوض تحت ضغط الحصار -وفي ضوء موازين القوى التي تميل لصالح الأطراف الأكبر- يحمل مخاطر إجبار حماس على تقديم التنازلات السياسية باستمرار.

5- إن مسار تطويع حماس قد يقتضي في نظر المصريين والإسرائيليين عدوانا عسكريا واسعا على القطاع، إذا لم تُفلح أساليب الضغط الحالية في تحصيل الموقف السياسي الذي يرغبون فيه، وهو ما يدعو حماس إلى تجنب أي معركة في ظرف سياسي يلائم خصومها ولا يلائمها.

ورغم أن حماس -فيما يبدو- لا تملك حاليا سوى مجاراة مصر في مساعيها، فإن الانتباه لهذه المحاذير قد يسهم في تقليل الخسائر، ويعين على اغتنام أي فرصة تتاح لتعديل المسار إلى اتجاه أفضل لها ولقطاع غزة وللقضية الفلسطينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.