كيف وقع الأميركيون فريسة للتضليل الروسي؟

U.S. President Donald Trump and Russia's President Vladimir Putin talk during the family photo session at the APEC Summit in Danang, Vietnam November 11, 2017. REUTERS/Jorge Silva

بينما تشهد الولايات المتحدة مناسبة مرور عام على الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز فيها الرئيس دونالد ترمب؛ لا يزال التساؤل حول الكيفية التي فاز بها يحظى بالاهتمام، مع تحرك الدور الروسي على نحو متزايد إلى مركز الصدارة. وكل كشف جديد بشأن التحقيق في تدخل روسيا في الحملة الانتخابية 2016 يسلط الضوء بقوة على تعرض العملية الديمقراطية بأميركا للخطر.

في الأسبوع الماضي، كشف الكونغرس النقاب عن تشريعات من شأنها أن ترغم فيسبوك وغوغل -وغيرهما من عمالقة وسائل الإعلام الاجتماعي- على الإفصاح عن البيانات الخاصة بمن يشترون الإعلان على شبكة الإنترنت، وبالتالي إغلاق الثغرة التي استغلتها روسيا خلال الانتخابات.

ولكن التعديل عبر إصلاحات فنية ووعود عامة بالتحول إلى مواطنين شركاتيين أفضل لن يحل سوى المشكلة الأكثر شيوعا. ويكمن التحدي الأكثر صعوبة في تعزيز المؤسسات التي تمثل أهمية بالغة للديمقراطية العاملة، وتحديدا تعليم التربية المدنية والصحافة المحلية. وإلى أن تتحقق مكاسب في هذه المجالات، سيتنامى تهديد العملية الديمقراطية بأميركا، ويعود للظهور كلما أدلى المواطنون بأصواتهم.

اختار عملاء الاستخبارات  الروسية بحكمة تصعيد هجومهم على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فيسبوكالذي يستضيف قرابة 80% من كل زيارات مواقع التواصل، وغوغل الذي يمثل نحو 90% من كل الإعلانات المرتبطة بالبحث على الإنترنت. ومن خلال غمر هاتين المنصتين برسائل تلقائية من عشرات آلاف حسابات المستخدمين الزائفة، أثارت روسيا الخلافات والانقسامات

اختار عملاء استخبارات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحكمة تصعيد هجومهم على وسائل التواصل الاجتماعي. يستضيف موقع فيسبوك ما يقارب 80% من كل زيارات مواقع التواصل الاجتماعي على الأجهزة المحمولة، في حين يمثل موقع غوغل نحو 90% من كل الإعلانات المرتبطة بالبحث على شبكة الإنترنت.

ومن خلال غمر هاتين المنصتين برسائل تلقائية من عشرات آلاف حسابات المستخدمين الزائفة، أثارت روسيا الخلافات والانقسامات على أسس اقتصادية وعِرقية وسياسية. وعلاوة على ذلك، فعلت روسيا هذا بثمن بخس.

فوفقا لأحد المحللين؛ فإن العملاء الروس اكتسبوا بشرائهم إعلانا متواضعا على فيسبوك القدرةَ على الوصول إلى منجم ذهب من بيانات الإعلان على شبكة الإنترنت (مثل برنامج فيسبوك لاستهداف العملاء)؛ مما أتاح لهم "مشاركة" أخبار روسيا الزائفة مئات الملايين من المرات.

وعند نقطة ما خلال هذا الهجوم السري؛ عملت نحو 400 ألف من التطبيقات البرمجية -التي تدير نصوصا آلية- على إرسال الملايين من الرسائل السياسية الوهمية، التي ولّدت بدورها نحو 20% من كل الزيارات على موقع تويتر خلال الشهر الأخير من الحملة.

إنه لأمر مؤسف جدا أن تكون أسماء كبيرة في عالم التكنولوجيا غير مستعدة لتفادي التدخل الأجنبي في الانتخابات الأكثر أهمية في الولايات المتحدة. ولكن إنكار عمالقة وسائل الإعلام الاجتماعي المستمر للمسؤولية عن حجم المعلومات المشوهة والزائفة التي جرى تسليمها كأخبار، حتى مع زيادة وضوح الدور الذي لعبته روسيا؛ هو الأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج.

بعيدا عن الرطانة التكنولوجية بشأن الخوارزميات المحسنة، والمزيد من الشفافية، والالتزام بالحقيقة؛ تتفادى "إصلاحات" وادي السيليكون حقيقة بسيطة: وهي أن تكنولوجياتها غير مصممة للتمييز بين الحقائق والأباطيل، أو التحقق من الدقة، أو تصحيح الأخطاء. بل هي بالعكس تماما، مبنية لتعظيم عدد النقرات والمشاركات والإعجابات.

ورغم الدفع في اتجاه إزاحة المنافذ الإخبارية التقليدية باعتبارها منصات للمعلومات؛ فإن شركات وسائل الإعلام الاجتماعي الكبرى تبدو راضية عن تجاهل القيم والعمليات والأهداف الجوهرية للصحافة. وانعدام المسؤولية على هذا النحو هو الذي يسعى مشروع قانون شفافية الإعلان إلى مواجهته.

ومع ذلك، لم يكن نجاح روسيا في استهداف الناخبين الأميركيين بأخبار وهمية ليتحقق لولا المشكلة الثانية التي تتمثل في الناخبين من ذوي التعليم الهزيل الذين هم بالتالي عُرضة للتلاعب والاستغلال. ويتآمر تآكل تعليم التربية المدنية في المدارس، وإغلاق الصحف المحلية -وما يترتب على ذلك من تراجع في فهم عامة الناس للقضايا والعمليات السياسية- لخلق تربة خصبة لغرس التضليل والمعلومات المغلوطة.

ولننظر إلى الأدلة: في عام 2005 توصلت دراسة استقصائية أجرتها نقابة المحامين الأميركية إلى أن 50% من الأميركيين لا يمكنهم تحديد الأفرع الثلاثة للحكومة في البلاد. وبحلول الوقت الذي طرح فيه مركز أننبرغ للسياسة العامة نفس السؤال في 2015، تنامت نسبة مثل هؤلاء المستجيبين إلى الثلثين، ولم يتمكن 32% من المستجيبين من تسمية أي فرع من الثلاثة.

ومن الواضح أن هذا التدني المعرفي يعتمد على العمر؛ فقد وجدت دراسة في عام 2016 شملت الأميركيين الذين يحملون شهادات جامعية أن أولئك الذين تجاوزوا سن 65 عاما يعرفون عن الكيفية التي تعمل بها حكومتهم أكثر كثيرا مما يعرفه عنها من تقل أعمارهم عن 34 عاما.

هناك علاقة ارتباط واضحة بين الأمية الديمقراطية وعدم التركيز على تعليم التربية المدنية والحكم والتاريخ في المدارس. ففي 2006 مثلا، وجدت دراسة تتبعت أداء الطلاب في مواضيع مختلفة أن 25% فقط من طلاب الصف الثاني عشر بأميركا يتقنون مادة التربية المدنية. وبعد مرور عشر سنوات تدنت النسبة إلى أقل من 25%.

وليس من المستغرب أن تعاني أيضا جودة التعليم الإجمالية والقدرة على الوصول إلى دورات التعليم المدني في السنوات الأخيرة. ففي عام 2011، أعطى مركز بحثي يتولى تصنيف الولايات الخمسين فيما يتصل بقوة دورات التاريخ الأميركي في المدارس الثانوية؛ درجات الفشل لثمان وعشرين ولاية.

كان تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 تاريخيا، ولكنه أيضا يشكل عرضا لتحديات أكبر تواجه الأميركيين. والشعب الذي لا يفهم ديمقراطيته لا يثير قلق معلمي التربية المدنية فحسب، بل وأيضا خبراء الأمن الوطني. والواقع أن الولايات المتحدة  لم تكن في احتياج إلى الرئيس الروسي بوتين لتلقينها هذا الدرس

كما وجدت دراسة استقصائية في 2016، أجريت على ألف كلية للفنون الليبرالية؛ أن 18% فقط منها تشترط اجتياز دورات في التاريخ أو الإدارة الحكومية لنيل شهادتها.

والواقع أن دورات المدارس الثانوية أو الجامعة لا تكفي بذاتها لمنع الناخبين السذج من الوقوع فريسة لأخبار وهمية أو تضليل تهييجي. ولكن الانتشار الفيروسي للقصص الإخبارية الوهمية التي أطلقها عملاء روس يوضح أن الجمهور الانتخابي -الذي يفتقر إلى تعليم التربية المدنية الأساسية- يكون أكثر ميلا للانسياق وراء الاستفزازات المصممة لتأجيج نيران التوترات الحزبية.

وتعمل التغيرات -الطارئة على صناعة الأخبار- على زيادة حدة هذه المخاطر؛ فمع امتصاص عمالقة الإنترنت لعائدات الإعلان من المنافذ الإعلامية التقليدية، أصبحت وسائل الإعلام الاجتماعي المصدر الرئيسي للإخبار للعديد من الناس.

وعلى نحو مطرد، تختفي المنظمات الإخبارية التقليدية وخاصة الصحف المحلية، فتتقلص قدرة الناخبين على الوصول إلى المعلومات التي تشكل أهمية بالغة لصنع قرارات سياسية مستنيرة.

والأرقام مذهلة؛ فمنذ عام 2004 أغلقت 10% من صحف الأسواق الصغيرة أبوابها أو اندمجت. وبين الصحف التي نجحت في البقاء، تغيرت ملكية الثلث، مما أدى إلى تركيز الصناعة في عدد أقل من الأيدي. وكانت النتيجة هي الاستغناء عن العاملين، وخفض التكاليف، وتضاؤل حجم التقارير المخصصة للقضايا الوطنية والمحلية.

أما المسؤولية المدنية فيبدو أنها أيضا تعاني. ومن الواضح أن دليل المديرين من إحدى شركات الاستثمار -التي تمتلك ثلاث صحف يومية و42 صحيفة أسبوعية- لا يجمل الكلمات: "عميلنا هو المعلن، والقارئ عميل عميلنا. ولهذا فنحن نعمل بالاستعانة بهيئة عاملين هزيلة في غرفة الأخبار".

كان تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 تاريخيا، ولكنه أيضا يشكل عرضا لتحديات أكبر تواجه الأميركيين. والشعب الذي لا يفهم ديمقراطيته لا يثير قلق معلمي التربية المدنية فحسب، بل وأيضا خبراء الأمن الوطني.

لم تكن الولايات المتحدة في احتياج إلى بوتين لتلقينها هذا الدرس. وكما حَذَّر توماس جيفرسون فإنه: "إذا تصورت أي دولة أنها تستطيع أن تكون جاهلة وحرة في نفس الوقت، فإنها تنتظر ما لم يحدث قَطّ ولن يحدث أبدا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.