إسرائيل وأزمة الهوية

GAL003 - JERUSALEM, -, - : Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu (3rd L) delivers a speech during the opening of the Knesset's (Israel's parliament) winter session, on October 14, 2013 in Jerusalem. Easing pressure on Iran over its nuclear programme would be an "historic mistake," Netanyahu warned during his speech, a day before world powers resume talks with Tehran. AFP PHOTO/GALI TIBBON
الفرنسية

فشل خيار الصهر
أكذوبة القومية اليهودية
العجينة المُعقّدة
اندلاق شهية التطرف

عادت الأزمات البنيوية للظهور مجددا في إسرائيل، وانتعشت معها المناكفات الحزبية والسياسية، في المرحلة التالية من العدوان "الإسرائيلي" الأخير على قطاع غزة.

فقدم الوزير اليميني الليكودي المتطرف جدعون ساعر استقالته، وباتت بعض الأحزاب في الائتلاف الحاكم تهدد بالخروج منه، مما سيؤدي لانفراط عقد الحكومة التي يقودها نتنياهو، فيما تموج المعارضة في بحر التخبط السياسي والصراعات الداخلية وغيرها، فضلا عن تواتر ظهور الأزمات البنيوية في كيان إسرائيل، فكيف نقرأ واقع حال الخريطة الحزبية في إسرائيل؟

فشل خيار الصهر
عودتنا الخارطة السياسة "الإسرائيلية" على بروز أزماتها من حين لآخر، كنتيجة منطقية لقيام النظام السياسي "الإسرائيلي" على العلاقات البينية "الإسرائيلية"، وعلى وجه الخصوص بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية والمؤسسات الاقتصادية التجارية.

تعاني إسرائيل أزمة هوية شاملة تتصل بطبيعة تكوينها كخليط عرقي إثني متعدد، حيث يُمثل اليهود الشرقيون حوالي نصف يهود إسرائيل، والنصف الآخر من اليهود الغربيين الذين جاؤوا من حضارات مُختلفة عن الحضارات الشرقية

وكمنتج طبيعي للمنظومة المُجتمعية لإسرائيل الصهيونية، وتحديدا بعد فشل مصطلح "الصهر" الذي حدده (ديفيد بن غوريون) مؤسس إسرائيل لصهر المجتمع "الإسرائيلي" بأكمله في منظومة واحدة موحدة "القومية" بعيدا عن الهويات المُتعددة التي جاء بها اليهود من مُختلف بلدان العالم، ساعيا بذلك لاصطناع "قومية يهودية" نقيضا لمفهوم اليهودية باعتبارها عقيدة دينية وليست قومية.

تعاني إسرائيل أزمة هوية شاملة تتصل بطبيعة تكوينها كخليط عرقي إثني متعدد، حيث يُمثل اليهود الشرقيون (السفارديم) حوالي نصف اليهود في إسرائيل، والنصف الآخر من اليهود الغربيين (الإشكناز) الذين جاؤوا من حضارات مُختلفة تماما عن الحضارات الشرقية، وجلهم من يهود أوروبا وأميركا الشمالية.

أما اليهود الروس، وأعدادهم تقارب 1.5 مليون من سكان إسرائيل فقد وصلوا إلى فلسطين المحتلة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وهم مُتخمون بثقافات مُختلطة، وحتى بلغات مُختلفة، وبمشاعر بعيدة عن أيديولوجيا الموقف العقائدي الصهيوني، بل ملامسة لأيديولوجيا المنافع وبراغماتيا المصالح، حيث سعت غالبية يهود جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق للانطلاق خارج بلدانها الأصلية من أجل الحصول على مكاسب ومنافع حياتية واقتصادية بالدرجة الأولى، وكمعبر نحو الغرب الأوروبي بعد عقود طويلة من الانغلاق داخل منظومة الاتحاد السوفياتي السابق.

أكذوبة القومية اليهودية
لقد تبين في العقود الماضية من قيام إسرائيل على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني أن إسرائيل النقية ذات التكوين القائم على صهر اليهود في بوتقة واحدة تحت مسمى "القومية اليهودية" قد فشلت تماما، وأن الاعتراف باليهود كقومية جديدة مُتميزة لغويا وثقافيا عن بقية السكان فشلت بدورها، فهي الأكذوبة الكبرى، كما هي أمرٌ منافٍ للمنطق والعقل، فاليهودية في نهاية المطاف دين وليست قومية.

إن ما يجري داخل الخارطة السياسية الإسرائيلية بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة يدلل بوضوح على أن هناك إعادة تشكيل بطيئة ووئيدة لمجمل الخارطة "الإسرائيلية "، وهي بكل الحالات لا تعني أن المجتمع الاستيطاني اليهودي سائر نحو أي من التفكك أو التماسك، ففي الجانب "الإسرائيلي" الداخلي الخاص من هذه العملية نلمس الحجم الكبير من التناقضات والتداخلات.

فهناك مثلا أكثر من 35 إثنية بجذورها القريبة: 1.9 مليون من اليهود من أصول أوروبية-أميركية، 858 ألفا من أصول سوفياتية، وهذه المجموعة هي الكبرى في إسرائيل، 500 ألف من أصل مغربي، 300 ألف من أصل بولندي وروماني، 180 ألفا من أصل عراقي، 180 ألفا من أصل يمني، 64 ألفا من اليهود الفلاشا، والباقي من أصول مختلفة: سوري، إيراني، مصري..).

إن ملاحظة هذه التطورات ورؤية التناقضات والتعارضات في بنية المجتمع "الإسرائيلي" اليهودي (الجذور والمنابت القومية، الإثنية، الطبقية الاقتصادية، الأيديولوجية/الفكرية والسياسية والثقافية … إلخ) عامل مهم ومؤثر في رسم وتخطيط الأداء الفلسطيني والعربي في السياسة اليومية والإستراتيجية، ولإعمال العقل حول ما يجري داخل إسرائيل وفي سياق مواجهة السياسة التوسعية "الإسرائيلية" الصهيونية، وأيديولوجية إسرائيل العنصرية الصهيونية التي تعد نفسها دولة اليهود فقط وليست دولة كل مواطنيها.

العجينة المُعقّدة
إن تلك العجينة المُعقّدة لبنية الكيان الصهيوني دفعت نحو جنوح فئات واسعة نحو التطرف داخل بنى المجتمع اليهودي على أرض فلسطين التاريخية، على خلفية الأسئلة التي طرحتها العملية السياسية التي بدأت منذ مؤتمر مدريد للتسوية في الشرق الأوسط نهاية العام 1991 وحتى الآن، خصوصا في الجانب المتعلق منها بشأن الاستحقاقات المطلوبة "إسرائيليا" أمام العالم لشق طريق سلام الشرعية الدولية.

زاد من جنوح التطرف في بنى المجتمع الإسرائيلي حالة الإرباك وإعادة الخلط التي أصابت تيارات "اليسار الصهيوني" وانكفاء أو تراجع نزوع بعض الأطراف الإسرائيلية للقبول بمبدأ الحلول المتوازنة على أساس الاعتراف بالآخر

كما زاد من جنوح التطرف في بنى المجتمع الإسرائيلي حالة الإرباك وإعادة الخلط التي أصابت تيارات "اليسار الصهيوني" وانكفاء أو تراجع نزوع بعض الأطراف الإسرائيلية من أقطاب الصهيونية العلمانية للقبول بمبدأ الحلول المتوازنة على أساس الاعتراف بالآخر والتقارب مع أسس المرجعية الدولية للتسوية في الشرق الأوسط.

فترحيل الفلسطينيين حظي بمتحمس ذاع صيته "كمؤرخ جديد" اسمه "بني مورس" الذي انتقل من مواقع إدانة وفضح ما جرى للشعب الفلسطيني عام 1948 إلى مواقع التنظير لدولة يهودية من "النهر إلى البحر" كما صرح لصحيفة الغارديان البريطانية في 3/10/2002، والذي أعرب أيضا عن أسفه لأن ديفيد بن غوريون "لم ينه مهمة التطهير العرقي عام 1948".

إن تلك التفاعلات داخل إسرائيل سحبت نفسها بالضرورة أشكالا من الانقسامات السياسية على امتداد الخارطة السياسية الإسرائيلية وحتى الأيديولوجية من أقصاها إلى أقصاها داخل المجتمع اليهودي، وانحسر معها نفوذ القوى التي تتبنى قرارات الشرعية الدولية بالنسبة لعملية التسوية مع الفلسطينيين ومع الأطراف العربية المعنية وتحديدا سوريا.

اندلاق شهية التطرف
إن الخط البياني المتعثر هبوطا وصعودا في مواقف الأحزاب والتيارات والكتل السياسية في إسرائيل، والتأرجح المتواصل في تكتيكاتها وتحالفاتها يعود في الجانب السياسي منه لعدة أسباب مباشرة، أولها الأزمات البنيوية التي تتحكم في بنية الكيان الإسرائيلي. وثانيها التعقيدات التي باتت تحكم عملية التسوية برمتها. وثالثها اندلاق شهية التطرف لدى المجتمع "الإسرائيلي" وصعود اليمين الصهيوني بشقيه العلماني والتوراتي داخل الوسط اليهودي في ظل حالة من اللامبالاة الدولية تجاه ما يجري في الأراضي الفلسطينية.

ورابعها حالة الانشغال والانشداد الدولي إلى ما يحدث في عدد من البؤر المشتعلة في عالمنا العربي، وهو ما وفر للدولة الصهيونية المزيد من الاستقطاب الحاد لصالح تكتيل قوى اليمين وإضعاف التيارات "السلامية اليهودية" المتواضعة الحضور أصلا.

ويتمثل خامس هذه الأسباب في الانهيار الحقيقي لحزب العمل الإسرائيلي وتحوله إلى "ليكود ب" وإلى حزب انتهازي من الطراز الأول، ومعه أحزاب ما يسمى بـ"اليسار الصهيوني".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.