الإعلام والانتقال الديمقراطي في تونس

الإعلام والإنتقال الديمقراطي في تونس . الكاتب: نور الدين الميلادي

 undefined

شهدت مرحلة ما بعد الربيع العربي نقلة نوعية في تنظيم المشهد الإعلامي في أقطار عديدة من العالم العربي، خاصة منها التي شهدت تحولات سياسية جذرية، فقد تغير مفهوم الإعلام القومي ووضعت قواعد جديدة لتنظيم وسائل الإعلام، وصاحب هذا التغيير تحول نوعي في علاقة وسائل الإعلام بالأجهزة التنفيذية في الدولة.

فأصبح واضحا مثلا في دول مثل تونس ومصر وليبيا التأريخ لمرحلة جديدة في علاقة وسائل الإعلام بالسلطة ودور المنظومة الإعلامية من وسائل سمعية وبصرية في التغيير الاجتماعي. وصار أيضا من الواضح للعيان الدور المحوري الذي تقوم به وسائل الإعلام في التأثير على المجتمع وتوجيه الرأي العام في حملات أحيانا منظمة وبمطلق الحرية عن أي رقابة رسمية أو غير رسمية.

هذه المساهمة تنطلق من قناعة راسخة بأن الإعلام القومي (حتى في زمن ثورة الإنترنت) يعد صمام الأمان في خدمة المواطن من الناحية الاتصالية سواء كان التواصل بين السلطة والمجتمع أو بين مكونات المجتمع بعضها مع بعض. وأن الدور الأساسي للإعلام بكل أصنافه ولا سيما الإعلام القومي هو نقل الأخبار المحلية والوطنية بوجه شامل ومهني, وتوفير مساحة من الحوار بين أفراد المجتمع من سياسيين ومثقّفين وعامة الشعب، ثم التثقيف والتعليم، وذلك بأن يكون مصدرا مهما من مصادر المعرفة حول القضايا الثقافية والفكرية والدينية والاجتماعية المختلفة التي تهم كل أطياف المجتمع.

فرغم الطفرة التكنولوجية التي شهدها العالم في المجال السمعي والبصري في العقد الأخير -إذ فاقت مثلا القنوات الفضائية التي تبث للعالم العربي باللغة العربية فقط 700 قناة تلفزية- ورغم تطور وسائل إعلامية موازية وفي متناول المواطن والتي يعبر عنها بشبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب، ما زال فإن الاهتمام منصبا على الدور الأساسي الذي يمكن أن تؤديه وسائل الإعلام القومي من راديو وتلفزة وصحافة مكتوبة.

ولا أدل على أهمية ذلك من النقاش الحاد ضمن النخبة التونسية مثلا من صحفيين وأكاديميين وسياسيين وإطارات عليا ثم الحراك الاجتماعي على مستوى مؤسسات المجتمع المدني والشارع عموما حول محددات المصداقية والمهنية في العمل الصحفي ومفهوم الحرية الصحفية والدور المنوط بالإعلاميين بعد الثورات.

ففي تونس كان ولا يزال الجدل حول تحديد دور شبكة القنوات الوطنية التلفزية والإذاعية مطروحا للنقاش المتواصل في الندوات العلمية والمداولات البرلمانية والبرامج الإذاعية والتلفزية وعلى صفحات الجرائد إضافة إلى التفاعل المستمر حول هذا الموضوع في العالم الافتراضي عبر شبكات الإنترنت.

بعد عامين من التغيير السياسي الذي قوض نظام الاستبداد وبالمتابعة المتواصلة للساحة الإعلامية في تونس نقول وبكل ثقة بأن الإعلام في عمومه لم ينحز إلى الشعب وقواه الحية

هل الإعلام في خدمة الثورة المضادة؟
التطورات الأخيرة على الساحة التونسية هي مؤشر إلى ما يمكن اعتباره انتقال وظيفة بعض المؤسسات الإعلامية من وسائل لنقل الخبر باستقلالية ومهنية إلى أدوات فعل سياسي، أي ما يقترب من دور الأحزاب السياسية.

إذ بعد الدور الذي كانت تقوم به صحف وإذاعات وقنوات التلفزة في العقود الماضية قبل الثورة من تنصيع صورة النظام البائد والعمل على الإطالة في عمر الديكتاتورية تصبح اليوم نفس المؤسسات أدوات للإطاحة بالحكومة المنتخبة ومساحات لإشاعة مناخ من الخوف والفوضى والشعور بالإحباط.

حيز هام من إنتاج الكثير من المؤسسات الإعلامية يصب بالأساس في أهداف المجموعات التي تقوم بدور الثورة المضادة. والحال أن العديد من الصحفيين ومسؤولي المؤسسات الصحفية ما زالوا في أماكنهم ولم تتمكن الثورة من تطهير الإعلام القومي مثلا من الفاسدين والمتورطين في خدمة النظام المخلوع.

يبدو للعيان أن الإعلام يضطلع بدور هام في قيادة الثورة المضادة، إذ بعد عامين من التغيير السياسي الذي قوض نظام الاستبداد وبالمتابعة المتواصلة للساحة الإعلامية في تونس نقول وبكل ثقة إن الإعلام في عمومه لم ينحز إلى الشعب وقواه الحية التي صنعت ثورة 14 ديسمبر/كانون الأول 2011. بل تخندقت بعض المؤسسات الإعلامية وبكل وضوح مع الذين قامت عليهم الثورة وساهموا في استمرار النظام المستبد في العقود الماضية.

إذ تكرس مساحات هامة من نشرات الأخبار الرئيسية لمتابعة أخبار المظاهرات والاعتصامات والحرق والتخريب. وتأتي في الدرجة الثانية وأحيانا تغيب من النشرات الإخبارية الرئيسية مظاهر الإنجازات والأنشطة الحكومية والنجاحات التي تحققت في عملية التنمية على مستوى البلاد.

نحو إعلام حر ومسؤول
لاشك إذن أن ما يحدث الآن هو نوع من الانقلاب على المسار الديمقراطي تقوم به أطراف كانت متخندقة مع النظام المخلوع. وتلعب هنا بعض الوسائل الإعلامية دور المعول المساعد في إشعال نار الفتنة بين أبناء الشعب الواحد مما يؤخر تحقق أهداف الثورة، وبالتالي تحقيق النمو والتطور المنشود.

فمثلا في تقرير نشرة الأخبار الرئيسية ليوم السبت 7/12/ 2012 على القناة الوطنية الأولى أفردت العشرون دقيقة الأولى من شريط الإخبار للإضرابات والمظاهرات التي نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابة عمالية في تونس). وكذا كان الأمر في الأيام التي سبقته منذ احتدام الأزمة بين الاتحاد والحكومة.

أما الفعاليات التي تبرز الحركية الاقتصادية على المستويين المحلي والدولي من مثل الدورة السابعة والعشرين للمؤسسة المنعقدة بمدينة سوسة ومنتدى دافوس الاستثنائي الاقتصادي الذي يعقد لأول مرة في تونس (في تلك الفترة) فقد غطيتا بعجالة غاب عنها التحليل والاستفاضة التي رافقت التقارير الإخبارية المفصلة وحملت الكثير من التكرار حول إضرابات الاتحاد العام التونسي للشغل في مدن تونسية مختلفة. والأمثلة كثيرة مما يمكن سردها للتدليل على هذه السياسة التحريرية الموجهة أيديولوجيا.

تمكن إذن الإعلام حتى الآن من احتواء الشعارات المركزية للثورة في تونس، وذلك بصرف أنظار الشعب عن محاربة الفاسدين خاصة في ما يخص القضايا المتعلقة بالعهد السابق، إذ إن قسما كبيرا من الآلة الإعلامية الحالية في تونس هو من صنع النظام البائد، تشكل لخدمة مؤسسة الديكتاتورية رغم تعدد مسمياتها من صحف وإذاعات وقنوات تلفزية تدعي الاستقلالية.

كانت في السابق تخدم مصالح اقتصادية وسياسية وأيديوليوجة مغايرة لمصالح الشعب، واليوم هي تقوم بالدور نفسه في محاولة لإجهاض الثورة والتمكين للذين أقروا بفشلهم في أول انتخابات حرة وديمقراطية في تارخ تونس يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.

ويقود طابور المجندين لهذه المهمة صحفيون تصدروا المشهد الإعلامي في عهد الدكتاتورية وتفننوا في النيل من المعارضين السياسيين والحقوقيين وكانوا يتملقون للديكتاتور، واليوم هم في الصدارة يحملون مشعل الثورة وكأن ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 لم تقم على أمثالهم.

النتاج العام لمردود الائتلاف الحكومي في مجال الإصلاح الإعلامي حتى اللحظة يكشف عن تردد واضح وتقصير لا لبس فيه في أخذ زمام المبادرة نحو الاتجاه الصحيح

إصلاح الإعلام والفرص المهدرة
ولكن في خضم هذا الواقع المرير ينبغي لفت النظر إلى التعاطي الغامض لملف إصلاح الإعلام من طرف الحكومة، إذ تطالعنا من حين لآخر قيادات حكومية لطمأنة الرأي العام التواق لرؤية مشهد إعلامي في تونس وقد تحرر من رواسب الحقبة الديكتاتورية.

فتارة نسمع عن خطوات جريئة ستتخذها أجهزتها التنفيذية نحو الإصلاح، وتارة عن كشف قوائم لأسماء الإعلاميين الفاسدين الذين تفننوا في خدمة الرئيس الهارب وأزلامه، وتارة برمي الكرة إلى المجلس التأسيسي على أنه الجهة المخولة إعادة تشكيل المنظومة الإعلامية بما فيها الجوانب القانونية منها.

وبغض النظر عما في هذه المواقف من صحة، يكشف النتاج العام لمردود الائتلاف الحكومي في هذا المجال إلى حد اللحظة عن تردد واضح وتقصير لا لبس فيه في أخذ زمام المبادرة نحو الاتجاه الصحيح.

ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:
1- غياب إستراتيجية واضحة المعالم لدى الأجهزة التنفيذية للتعاطي مع ملف الإعلام فضلا عن البدائل المدروسة بعناية لإصلاح القطاع، رغم الأصوات التي تتعالى من جهات مختلفة منذ انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.

2- الضعف الواضح للسياسة الاتصالية لدى الحكومة، مما فسح المجال بتوسع لوسائل الإعلام المناهضة لتهميش الإنجازات التي تتحقق في كل الميادين والذي يقف دون إشعاع الأجهزة التنفيذية والأداء الإيجابي لرموز الدولة على الرأي العام.

3- عدم الاستفادة من عدد كبير من الكوادر الإعلامية والأكاديمية التي يمكن أن تساهم في إنضاج رؤى معمقة ومدروسة بعناية للملف الإعلامي في تونس. إذ قصرت الحكومة في الاستنارة بخبرات عدد كبير من أهل الاختصاص كان بالإمكان ضمها في لجان تفكير مثلا أو توظيفها لإدارة الآلة الإعلامية بشكل مهني وفعال.

4- التردد المتواصل في محاسبة الإعلاميين الفاسدين الذين خدموا النظام الديكتاتوري السابق واستأثروا مقابل ذلك بمناصب متقدمة في المؤسسات الإعلامية فضلا عن الرشى والأموال الضخمة التي تقاضوها.

4- التأخير غير المبرر -حسب ظني- في تشكيل هيئة مستقلة للإعلام والدفع باستصدار القوانين المنظمة للقطاع، الذي كان من شأنه أن يجنب تونس الفوضى التي يشهدها القطاع حاليا.

ولا غرابة إذن في أن تتطاول العديد من الوسائل الإعلامية المعادية صراحة لروح الثورة على حكومة الترويكا وتمعن في مغالطة الرأي العام بالتركيز على الأخطاء أو التقصير في تحقيق الإنجازات المطلوبة. ناهيك عن بث الشائعات والتسويق لأجندة إعلامية مآلها إفشال الحكومة المنتخبة والتحضير لحكومة "إنقاذ وطني" مزعومة سوف تخرج البلاد من الهاوية كما يدعون.

رغم أن المشهد الإعلامي قد تعزز بظهور عدد كبير من الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية الجديدة فإنه ما زال بعيدا عن المأمول

ورغم أن المشهد الإعلامي قد تعزز بظهور عدد كبير من الصحف والإذاعات والقنوات الفضائية الجديدة فإنه ما زال بعيدا عن المأمول. ولا يمكن اعتبار هذا التطور الكمي سيغني عن فرصة التغيير الجذري والمنظم لقطاع الإعلام والاتصال من الجانب القانوني، وبالخصوص الإعلام القومي الممول من الشعب والذي له أكبر الأثر في صناعة الرأي العام. 

ينبغي التذكير إذن بأن فرصا عديدة قد أهدرتها الحكومة المنتخبة لأخذ زمام المبادرة رغم الشرعية القانونية التي خولها إياها الناخب التونسي. وهذه الشرعية بصدد فقدان صلاحيتها لا محالة رويدا رويدا إن لم تعجل رئاسة الحكومة باتخاذ خطوات جريئة في اتجاه ترشيد المشهد الإعلامي في تونس وتوظيف الكفاءات المتخصصة في المجال.

والأهم من ذلك كله الدفع نحو إصدار القوانين والمراسيم المنظمة للإعلام وإنشاء الهيئة الرقابية الوطنية المستقلة التي ينتظر أن تتولى مهمة الإشراف على هذا القطاع الحساس وإخراجه من حالة الفوضى العارمة الحالية.

العد التنازلي للفرص المتاحة قد بدأ منذ فترة طويلة.. والمعركة الانتخابية القادمة (المنتظرة بحلول صيف 2013) سوف تدور رحاها أساسا على شاشات القنوات الفضائية وصفحات الجرائد وشبكات التواصل الاجتماعي.. وقد بدأت بالفعل منذ أشهر.. فهل تستعيد الثورة بريقها ولو في الربع الأخير؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.