العراق وفوضى الفدراليات

العراق وفوضى الفدراليات

undefined

في فبراير/ شباط الماضي وخلال احتفالية ذكرى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أعلن صراحة عن موقفه من مطالبة محافظات عراقية عدة بتطبيق حق إقامة الفدراليات بموجب ما نص عليه الدستور العراقي الذي وضع في ظروف خاصة إبان الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق.

المالكي:
لن نسمح بإقامة الفدراليات في الوقت الحالي لأنها ستتسبب في تمزيق العراق، واستعجال الفدرالية في هذه الظروف مفسدة لها، وإدخال للناس والبلد في مشاكل نحن في غنى عنها

وقال المالكي تعليقا على هذا الموضوع: "لن نسمح بإقامة الفدراليات في الوقت الحالي لأنها ستتسبب في تمزيق العراق واستعجال الفدرالية في هذه الظروف مفسدة لها، وإدخال للناس والبلد في مشاكل نحن في غنى عنها"، معتبرا أن "الواقع الحالي لا يساعد على إقامة الفدراليات لأن الفدرالية قد تكون بوابة للاقتتال الداخلي وبالتالي تعطيل حتى ما هو موجود من الخدمات".

ومن خلال الأحداث والظروف التي مرّ ويمر بها العراق خلال أكثر من عقد من الزمن يتضح جليا أن نوري المالكي قد حقق هو وأتباعه من حزب الدعوة سيطرة على الوزارة العراقية بعد أن تمكن من تشتيت أضداده من القائمة العراقية وغيرها ممن يعتبرون المالكي يؤسس لدكتاتورية جديدة في العراق.

ولعل ما خرج به المالكي في مؤتمره الصحفي مطلع شهر أبريل/نيسان الحالي يدل بوضوح على حجم الاختلاجات النفسية التي يعاني منها رئيس وزراء العراق الحالي حيث لم يسلم أحد من اتهاماته وكذلك محاولاته لتهميش بقية القوى والمكونات السياسية والقومية في العراق الجديد، بدءا من تهجمه الصارخ على نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي رغم كونه ما زال على رأس عمله ولم ينظر القضاء بعد بشكل قاطع في مسألة إدانته، ثم فتحه النار على القيادات السياسية لإقليم كردستان العراق ومحاولة خلق أزمة حقيقية بين الإقليم والمركز وكأن ما يحدث في هذا الإقليم هو وليد هذا الشهر والذي سبقه وليس هو واقع حال منذ عقد من الزمان ومتفق عليه بين أطراف العملية السياسية حتى قبل احتلال العراق، وانتهاء بما يهمنا في هذا الموضوع وهو تهديده الواضح والمباشر للمحافظات المطالبة بالفدرالية وهي الآن تحديدا محافظات صلاح الدين والأنبار والكوت والبصرة والموصل وديالى (حاول المالكي تأجيل مطالبة ديالى بالفدرالية من خلال زيادة تخصيصات المحافظة المالية ومنح محافظها صلاحيات واهية).

عندما نعود بالتاريخ إلى عامي 2004 و2005 نجد أن نوري المالكي -حينها كان رقما من بين الأرقام وليس الرقم الأبرز في المعادلة السياسية الواهنة في العراق- كان من أبرز المدافعين والمؤيدين لفكرة الفدراليات العراقية وكان حريصا جدا على تثبيت كونها حقًّا مضمونًا في الدستور العراقي الجديد الذي كان هو عضوا في لجنة صياغته عام 2005!

وعندما طالبت بعض محافظات الجنوب والفرات الأوسط العراقي بتطبيق هذه المادة وتحقيق الفدرالية كان هو أيضا من المدافعين عن هذه المطالبات جنبا إلى جنب مع رئيس المجلس الإسلامي الأعلى السابق الراحل عبد العزيز الحكيم وغيره، فما الذي تغير الآن ليرفض المالكي رغبة المحافظات العراقية التي تشكو من التهميش والإهمال والتخلف في كل شيء بدءا من الخدمات البلدية وانتهاء بالخدمات الصحية والتعليمية مرورا بتدخلات المركز الأمنية والاقتصادية المجحفة، ويعطل نصا دستوريا بحق المطالبة بالفدرالية؟

إن شخصية رئيس وزراء العراق كما بدا واضحا للجميع، هي شخصية ذات مكر سياسي مفضوح، وقد يحمل من الصفات المرتبطة بالتسلط والدكتاتورية ما هو أكثر من النماذج التي سقطت سواء في العراق أو في مجموعة الدول التي طالها الربيع العربي. نعم، هذه حقيقة لمسها جميع من تعامل مع المالكي سواء من الفرقاء أم من الحلفاء، ورفض الفدراليات تحت حجج مختلفة من قبل المالكي هو في حقيقة الأمر ليس سوى صورة من صور الاستبداد السياسي وتثبيت السلطة المركزية وإبقاء جميع الصلاحيات بيده وحده سواء العسكرية أم الأمنية أم الاقتصادية أم ملفات الخارجية العراقية.

 فإذا كان إقليم كردستان العراق بكل استحقاقاته التي كفلها منذ سبعينيات القرن الماضي قانون الحكم الذاتي هو مصدر قلق وتوتر لدى المالكي لأنه كما عبر عن ذلك بصراحة "خارج سيطرة الحكومة المركزية وعلمها"، فكيف به إذا ما تم تعميم هذه التجربة على عدة محافظات وبالتالي تقليل قبضته المركزية الشديدة على أجزاء كثيرة من العراق؟

رغم أن محافظات عديدة تطالب الآن بالفدرالية، فإن أغلبية أبناء هذه المحافظات لم تع حتى الآن ماهية وفكرة ومضمون الفدرالية، وعلاقة هذه الفدراليات بالمركز

لعل من المضحك المبكي أن يكون شعب العراق كله باستثناء الأكراد في شماله، رافضا في حقيقته لموضوع الفدرالية، حيث إن تربية العراقيين الوطنية والتاريخية تجعل أية فكرة عن تقسيم بلادهم حتى ولو بخطوط إدارية اعتيادية بين المحافظات مرفوضة، لكنهم تحت ضغوط المركز وفساده وظلمه لم يجدوا بدا من التلويح بهذا السلاح الدستوري للخلاص مما هم فيه ولو إلى حين، والذي يعرف ما يجري في العراق يعلم تحركات المالكي من أجل تركيز السلطات في يديه باعتباره رئيسا للوزراء، ويعلم أيضا تحركاته من أجل أن يكون حزب الدعوة الذي يترأسه الحزب الرئيسي أو الأكبر في العراق.

ولكن مطالبات المحافظات بالفدرالية لا تخلو من مخاطر وهي حتى هذه اللحظة ليست سوى فوضى وتخبط  كحركة من يجد نفسه وسط كثيب رملي فكلما تحرك فيه ازداد ولوجه إلى أعماقه وبالتالي هلاكه، لكن الحالة في العراق لا يمكن أن نصف لها حلا ناجعا، فلا الحركة تنفع ولا السكون يفيد، ووسط حيرة وفقدان الأمل لدى أغلبية العراقيين كانت هذه الفوضى في طلب الفدراليات وكان هذا الرفض غير الدستوري من الحكومة المركزية على اعتبار أنها ستفضي إلى تقسيم العراق إذا طبقت في الوقت الحالي!

صحيح أن محافظات عديدة تطالب الآن بالفدرالية، لكن يجب أن يشار هنا إلى أن أغلبية أبناء هذه المحافظات لم تع حتى الآن ماهية وفكرة ومضمون الفدرالية، وهو أمر يعاب على الحكومة المركزية العراقية التي لم تطلع شعبها على متغير كبير في ثقافته الوطنية يرتبط بحق إقامة الفدراليات وعلاقة هذه الفدراليات بالمركز.

ومع حجم الأضرار التي عانى منها الشعب العراقي وكذلك جميع مدنه وقراه فقد تولدّت اقتناعات لدى محافظات السنة تحديدا ومعهم الأكراد بأن هناك رغبة للتفرد بالسلطة واستغلالها من أجل تعميق الهوة الحضارية بين هذه المكونات وحركة الزمن، رغم أن هذه الاقتناعات باتت الآن لدى أبناء المكون العراقي الشيعي أكثر وقعا وإيلاما وإحباطا بعد أن منّوا أنفسهم بحقبة تاريخية تضعهم في مستويات عليا من الرفاهية، وهو ما يضع رئيس الوزراء نوري المالكي وحزبه (حزب الدعوة) في موقف لا يحسد عليه مستقبلا على ضوء التطورات والتغييرات العميقة التي حدثت خلال العام الماضي والعام الحالي في عموم المنطقة وما يضعه الإعلام في قلب وعقل أبناء العراق من صور تجعلهم يعرفون تماما حجم الضرر الذي يعانونه مقارنة بمن حققوا ثورات ناجحة أو ما زالت مستمرة من أشقائهم العرب.

الفدرالية كما هو معلوم لكثير من المختصين، أداة من أدوات التنظيم الإداري والحكومي والسياسي التي تقسّم بموجبها نشاطات ومهمات الحكومة بين الحكومة الاتحادية الفدرالية وحكومات الأقاليم تعتمد اللامركزية في إدارة شؤون المركز والإقليم معا, وعلى هذا تكون الأقاليم وحدات أقرها الدستور ومنحها نظاما أساسيا يحدد لها سلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.

ومما لا ينطبق على حالة العراق أن النظام الفدرالي غايته الحفاظ على وحدة الدولة وضمان حقوق ومصالح الأقليات القومية والدينية والعرقية، وحمايتها من طغيان وظلم وتهميش الأكثرية, ولو افترضنا أن التركمان مثلا أو اليزيديين والشبك طالبوا بفدرالية في العراق فإنهم ربما يكونون على حق فيها بحسب مفهوم الفدرالية وحفاظا على خصوصيتهم.

لسان حال العراقيين جميعا يقول: إن الفائز مما حلّ بالعراق بعد 2003 هم الأكراد، والأكراد فقط، حيث ساهمت الفدرالية التي يتمتع بها إقليم كردستان في تحسّن وتقدم فرص التطور في شتى مجالات الحياة

ولكن الغريب أن الفدرالية في العراق كانت محط رفض وقبول من مكونات العملية السياسية عام 2005 ومن الشعب العراقي عند التصويت عليها، ويكفي أن نعرف أن  المؤيدين للحكم الفدرالي حينها الأغلبية الشيعية والأكراد، والرافضين لها بشكل قاطع السنّة والتركمان اعتقادا منهم أنها ستكون سببا لانقسام العراق, فما الذي قلب المعادلة الآن وما هي أسباب مطالبة محافظات المكون السنّي بالفدرالية ورفض المالكي لها؟

إن لسان حال العراقيين جميعا يقول: إن الفائز مما حلّ بالعراق بعد 2003 هم الأكراد، والأكراد فقط، حيث ساهمت الفدرالية التي يتمتع بها إقليم كردستان في تحسّن وتقدم فرص التطور في شتى مجالات الحياة هناك، إضافة إلى استتباب الأمن واستمرار نظام المؤسسات الذي كانت تتمتع به الحكومات العراقية بشكل دائم.

وربما بعد أن ذاق العراقيون الهوان نتيجة فقدانهم كل شيء لم يبق لهم من أمل سوى الاقتداء بالتجربة الكردية واستخدام الوسائل التي أرادها سياسيو العراق الجديد في دستورهم الجديد وهي المطالبة بالفدرالية وسيلة لإدارة المحافظات وتطوير خدماتها بمعزل عن مظاهر الفساد الكبيرة التي يتميز بها أداء حكومة المالكي بشكل جعل من العراق الدولة الأكثر فسادا في العالم.

لكن حتى هذه التجربة يحاول المالكي الآن تفكيكها وإثارة ما يقض انسيابيتها من خلال اختلاق الأزمات وبالتالي لا شيء في العراق يمكن أن يحسب حسابه بدقة وأن تتوقع نتائجه بحسب ذلك؛ لأن كل شيء رفضا أو قبولا في الحقيقة يتحكم فيه ثابتان خطيران في منظومة الحكم في العراق: إيران وعقدة الطائفية المصاحبة لها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.