هل باتت إيران دولة عظمى حقا؟

ماجد كيالي العنوان: هل باتت إيران دولة عظمى حقا؟

undefined

هل باتت إيران دولة عظمى حقا؟ وهل هي فعلاً كذلك؟ وما هو الواقع والأوهام في هذا الأمر؟ هذه بعض أسئلة يطرحها المرء على نفسه وهو يتابع تصريحات قادة إيران الناريّة، من المرشد الأعلى إلى الرئيس أحمدي نجاد، إلى غيرهما من القادة السياسيين والعسكريين.

 

فمنذ بضعة أيام جدّد نجاد إصرار بلاده على تحدّي النظام الدّولي، بإعلانه أن إيران بصدد إعلان قريب عن إنجازات أخرى متقدمة في برنامجها النووي. وقبل ذلك كان قادة عسكريون إيرانيون قد هدّدوا بوقف الملاحة الدوليّة في مضيق هرمز، واعتبروا ذلك عملية سهلة مثل "شربة ماء"! كما هدّدوا بتوجيه ضربات لمنابع النفط في بلدان الخليج العربي المجاورة (حيث المصدر الأكبر للطاقة الحيوية للعالم)، في حال تعرّض المصالح الإيرانية للخطر.

هكذا أضحى قادة إيران يتصرّفون وكأن بلدهم بات بمثابة دولة عظمى مقرّرة، حتّى إنهم صرّحوا علانية بذلك، في إطار التجاذبات الدائرة بينهم وبين الإدارة الأميركية. فهذا محمد حسين صفار هرندي (مستشار قائد الحرس الثوري ووزير الثقافة سابقًا)، يعتبر أن "الولايات المتحدة أذعنت لتحوّل إيران قوة عظمى.. وأن الأميركيين يقولون.. من دون شروط: لنتفاوض بوصفنا قوّتين".

وهذا الجنرال حسين سلامي (نائب قائد الحرس الثوري) يعتقد أن الولايات المتحدة ليست في وضع يتيح لها "السماح لإيران، أو عدم السماح لها، بإغلاق هرمز". وحسب رأيه فإن "تاريخ النزاع بين إيران وأميركا أثبت، خلال السنوات الـ33 الماضية، أن الجمهورية الإسلامية فرضت دومًا إرادتها".

"
التصريحات الإيرانية تبعث على القلق، ليس من القوّة العسكرية التي تمتلكها إيران، وإنما من تهوّر قادتها، وليس من عدم عقلانية هذه التصريحات فقط وإنما أيضا من المبالغات المتضمّنة فيها والأوهام التي تقف خلفها
"

لكن أبلغ تصريح بهذا الشأن جاء على لسان نجاد، إبان زيارة سابقة له للولايات المتحدة، قال فيها إن إيران باتت "دولة عظمى"، وإن على الولايات المتحدة أن تتعامل معها على هذا الأساس، وإنها باتت أقوى وأهم دولة في العالم، وأكد أن "مستقبل هذا العالم بات يعتمد على الأسلوب الذي تتعامل به هاتان القوتان فيما بينهما".

وكان نجاد (بحسب وكالة "مهر" للأنباء الإيرانية شبه الرسمية) قد اعتبر في كلمة ألقاها في طهران في مراسم أسبوع المساجد العالمي، أن "الجمهورية الإسلامية أعدّت خطة لإدارة العالم ينبغي على الغرب أن يؤدي دوره فيها."

عموما فإن هذه التصريحات تبعث على القلق، ليس من القوّة العسكرية التي تمتلكها إيران، وإنما من تهوّر قادتها، وليس من عدم عقلانية هذه التصريحات فقط وإنما أيضا من المبالغات المتضمّنة فيها والأوهام التي تقف خلفها.

ما يلفت الانتباه هو أن هذه التصريحات، التي تنمّ عن الغطرسة والنزعة الإمبراطورية وانقطاع الصلة بالواقع، تذكّر بما حصل مع نظام صدام حسين في العراق (ناهيك عن ترّهات القذافي) قبل إسقاطه، إذ كانت الأوهام قد أخذته إلى حدّ تصديق الدعايات التي تروّج لها الآلة الإعلامية الغربية عمدًا، بأن جيشه رابع أكبر جيش في العالم.

وكلنا يذكر حكاية "المدفع العملاق" والعروض العسكرية الحاشدة والباذخة في بغداد التي لم تنفع شيئًا حين أزفت ساعة الحقيقة!

على ذلك يبدو أن إيران في عهد نجاد، تسير على نفس المنوال، فكلما ازداد الحديث في الغرب عن خطرها، بسبب توجّهها نحو حيازة الطاقة النووية، وكلما جرى تضخيم قوّتها العسكرية المتنامية، لقي هذا وذاك هوًى في نفس قادتها، إلى حدّ المصادقة على تلك الأقوال بتصريحات تؤكدها أو تضيف عليها!

طبعا يحقّ للرئيس الإيراني، كغيره من الرؤساء في عالمنا الثالث، أن يصرّح كما يشاء، ففي مجتمعات "الرعية" المغلوبة على أمرها، ليس ثمة من يراقب أو يطالب بكشف حساب عما هو مقصود فعلاً. كما يحقّ لأي رئيس أو قائد أن يحلم، وأن تكون لديه طموحات تعلي من شأن بلده.

لكن مشكلة تصريحات كهذه تكمن في بعدها عن الواقع، إذ ثمة فجوة كبيرة بين قدرات إيران الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية وبين أوهام قادتها، التي قد تقودهم إلى الزجّ ببلدهم في أتون صراعات تستنزف قدراته وتعزله وتعوق مسارات النموّ والتطوّر فيه بادّعاءات إمبراطورية متوهّمة وغير مشروعة أصلاً.

وفي الواقع فإن وجود دولة عظمى يتحدّد بمعايير معيّنة، تتعلّق بإمكانياتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والمالية والعسكرية، وقدرتها على استثمار مواردها البشرية، وشكل نظامها السياسي، ومستوى تطوّر مجتمعها، ومدى حفاظها على استقرار وأمن شعبها، وحصانتها إزاء التدخّلات الخارجية.

وفوق كل ذلك فإن الأساس في اعتبار دولة ما دولة عظمى لا يتأتى من تصريح رئيسها، ولا نتيجة قرار منه بإطلاق هذه التسمية عليها ولا بادّعائها بأنّها كذلك (هل تذكرون "الجماهيرية العظمى" لصاحبها القذافي؟!). فمن الثابت أن هذه المكانة تتأتّى من كون هذه الدولة تمتلك المعايير اللازمة لهذا الأمر، وأنها تتصرّف بوصفها كذلك، كما يتأتّى ذلك من قبول الدول الأخرى (خاصة الكبرى والمقررة) بالتعامل معها على هذا الأساس، وهذا أمر غاية في الأهمية.

وعلى الأقل فإن الدول العظمى لا تصف نفسها جزافا، فمثلاً ألمانيا واليابان على الأقل لا تصفان أنفسهما على هذا النحو، بالرغم من تقدمهما التكنولوجي والعلمي وثروتهما المالية، وقدرتها التصديرية.

"
الأساس في اعتبار دولة ما دولة عظمى لا يتأتى من تصريح رئيسها، ولا نتيجة قرار منه بإطلاق هذه التسمية عليها ولا بادّعائها
"

وهذا ينطبق على الصين أيضا بمساحتها وعدد سكانها وقوّة نموها، وبمنافستها على المكانين الأول والثاني والثالث في العالم، فهي لا تطلق تصريحات كهذه، بل إنها تصرّ على الحديث بتواضع عن قدراتها وعن دورها على الصعيد الدولي دون أن ننسى الهند.

المشكلة أن الرئيس نجاد كبّر "حَجَره" كثيرا فهو لم يطرح إيران كدولة عظمى فقط، وإنما طرحها بالضبط ندًّا للولايات المتحدة بالذات. وفي مقاربة بسيطة يبلغ الناتج السنوي لإيران (على ثروتها من النفط والغاز) حوالي تريليون دولار تقريبا، في حين أن الناتج السنوي للولايات المتحدة الأميركية يبلغ 15 تريليون دولار (هذا بمعزل عن الفجوة بينها وبين إيران في مجال الإدارة السياسية والمجتمعية وفي مجال الموارد البشرية ومستوى التطور العلمي والتكنولوجي).

حتى بالنسبة للصين، التي تراهن إيران عليها، فإن ناتجها القومي السنوي يعادل ستة تريليونات دولار، مع فارق مستوى المعيشة للفرد لصالح الولايات المتحدة، التي تتحكّم أيضا في التكنولوجيا المتقدمة في العالم إلى أمد قادم، ومن ضمنها تكنولوجيا "النانو" والتكنولوجيا الحيوية. فوق ذلك فإن الولايات المتحدة تنتج ربع الإنتاج العالمي، في حين إن إيران تعتبر في بعض المقاييس في الترتيب الـ18بين الدول.

وعلى الصعيد العسكري لا تعدّ إيران بين الدول العشر التي تعتبر أقوى دول العالم، كالولايات المتحدة وروسيا والصين والهند وبريطانيا وتركيا وكوريا الجنوبية وفرنسا واليابان وإسرائيل.

وبينما يقدّر الإنفاق العسكري للولايات المتحدة بحوالي 700 مليار دولار سنويا، أي نصف الإنفاق العسكري العالمي، ويزيد بمعدل ست مرات عما تنفقه الصين، فإن إيران تأتي في الترتيب 26 في الإنفاق على التسلح بين دول العالم، بمبلغ قدره حوالي خمسة مليارات دولار، في حين أن إسرائيل تنفق ضعفي هذا المبلغ على التسلح سنويا.

وبعيدا عن الولايات المتحدة، فحتى بالمقارنة مع دولة إقليمية من الشرق الأوسط منافسة لها مثل تركيا، فإن الناتج السنوي لإيران لا يزيد عن الناتج السنوي لتركيا كثيرا (حوالي ترليون دولار) رغم الموارد المتأتية لإيران من النفط والغاز، علما بأن 80% من صادراتها هي من النفط، في حين أن حجم صادراتها الصناعية غير النفطية يبلغ حوالي 20 مليار دولار (نصف القدرة التصديرية لإسرائيل) وهو أقلّ بكثير من القدرة التصديرية لتركيا، التي تحتلّ الترتيب 16 في المكانة الاقتصادية للدول، أي قبل إيران التي تحتلّ الترتيب 18.

وعلى الصعيد العسكري فإن تركيا تعتبر سادس أقوى قوة عسكرية في العالم، ويبلغ إنفاقها العسكري حوالي 25 مليار دولار سنويا، أي أضعاف الإنفاق العسكري لإيران.

ومما يدل أيضًا على ضعف المبنى الاقتصادي لإيران يمكن ملاحظة هبوط عملتها الوطنية بشكل حادّ بمقدار 50% في مقابل الدولار، في شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، على خلفية العقوبات الاقتصادية الموجهة ضدّها.

الأنكى من كل ما تقدم أن إيران ليست لديها كفاية من سلع أساسية رئيسية، ولا تتمتع بقدرات تكنولوجية مناسبة، وبرغم أنها دولة نفطية فإنها (وهي تبني مفاعلات نووية) لا تمتلك مصافيَ للنفط تؤمّن منها كفايتها من البنزين، مثلاً.

من كل ذلك يتضح أن المعضلة بالنسبة لإيران لا تكمن فقط في المبالغة في الشعارات وتصدير الأوهام، وإنما تكمن في إنكار الواقع، والاستخفاف بمعطياته وتداعياته ومخاطره عليها وعلى مستقبلها.

وإذا كان من حقّ إيران أن تدافع عن مصالحها وكرامتها إزاء الولايات المتحدة، فإنها معنيّة أيضا بأن لا تستخفّ بإمكانيات وقدرات خصمها، وأن لا تبالغ في قدراتها.

"
المقارنة بين المداخلات الإقليمية الإيرانية المعتمدة على تصدير الثورة والعسكرة والتوتير السياسي، والمداخلات الإقليمية التركية المعتمدة على العلاقات الاقتصادية والقوة الناعمة والنموذج الإسلامي الديمقراطي، ليست في صالح إيران
"

وحتّى على الصعيد الإقليمي فإن سياسات إيران لم تكن أحسن حالاً، إذ إنها قامت أيضا على الأوهام والمبالغات، حيث انبنت على تعظيم قوّتها العسكرية، وعلى التدخّل في الشؤون الداخلية العربية، وإثارة العصبيات المذهبية فيه، وعلى خطاب أيدلوجي شعبوي، إسلاموي و"فلسطيني"، مما انعكس عليها سلبا.

وفي هذا الإطار فقد انتهجت إيران معاداة إسرائيل ومناهضة الولايات المتحدة "الشيطان الأكبر" وخطّ "تصدير الثورة"، فدعمت بعض الفصائل الفلسطينية، وأسّست حزب الله في لبنان مستغلة الواقع الطائفي فيه، كما تحالفت مع سوريا.

وأخيرا استغلت الغزو الأميركي للعراق، وسقوط نظام صدام 2003، والتداعيات الناجمة عن ذلك، كي تعزّز نفوذها هناك بالاستناد إلى عصبية مذهبية كانت قد اشتغلت عليها جيدا.

وفي الحقيقة فإن إيران تعاملت مع قضية فلسطين ومع الواقع الذي خلقه حزب الله في لبنان ومع تحالفها مع سوريا وازدياد نفوذها في العراق، باعتبار كل ذلك مجرد أوراق لتعزيز مكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

وبديهي أن كل ذلك جعل من إيران عامل قلقلة وتفكيك في الواقع العربي، وهي أمور أدت إلى إثارة الشبهات من حولها وحول مخاطر سياساتها على الصعيد العربي، وعلى جبهتي الحكام والشعوب.

في المحصلة فإن إيران هذه لم تستطع أن تقدّم النموذج الذي يمكن أن يشدّ إليه البيئات العربية المجاورة الرسمية والشعبية، فهي لم تنجح في أن تكون نموذجًا اقتصاديًّا ناجحا، وعلى الصعيد السياسي ظلّت موضع شكّ وشبهة، لأسباب متعدّدة أهمها الطابع المذهبي و"القومي" لخطابها السياسي والإسلاموي.

وفي الواقع فإن إيران لم تستطع أن تقدم النموذج لدولة منفتحة، لا باعتبارها دولة إسلامية ولا باعتبارها دولة ديمقراطية.

فبالنسبة لكونها دولة إسلامية فقد اتّسم خطابها الديني بالتشدّد، وبهيمنة رجال الدين على كل مناحي السلطة فيها، وبتبنّي نهج "الولي الفقيه"، فضلا عن الطابع المذهبي المكشوف، مما ارتدّ عليها سلبًا، وحدّ من إمكانية توسيع نفوذها في الإطارات الشعبية في البلدان العربية، ذات الأغلبية المذهبية "السنية".

أما بالنسبة لاعتبارها دولة ديمقراطية، فمن البديهي أن الاعتبارات السابقة تفيد بإضعاف المبنى الديمقراطي في نظام الحكم، وباختزال الديمقراطية إلى مجرد لعبة انتخابية (على أهميتها)، لاسيما بالنظر لتحكّم رجال الدين في التشريع والقضاء وفي أجهزة الدولة ومواردها.

عدا كل ذلك فإن دعم إيران لقوى حزبية مسلّحة ليست موضع إجماع شعبي في بلدانها، بل تعتبر عامل تصدّع في هذا الإجماع، على غرار حزب الله في لبنان، وبعض القوى المذهبية من مليشيات العراق، أثار مزيدا من الشبهات حول خطاباتها وسياساتها وأدوارها الإقليمية.

فوق ذلك بدت إيران، لاسيما بعد أن عزّزت نفوذها في العراق، أكثر استعداء واستفزازًا للنظام العربي الرسمي السائد.

فضلاً عن كل ما تقدّم فلم تكن المقارنة بين المداخلات الإقليمية الإيرانية المعتمدة على تصدير الثورة والعسكرة والتوتير السياسي، والمداخلات الإقليمية التركية، المعتمدة على العلاقات الاقتصادية والقوة الناعمة والنموذج الإسلامي الديمقراطي، في صالح إيران، ولعبت دورا كبيرا في تحجيم طموحاتها.

لكن العامل الفصل في تحجيم نفوذ إيران على الصعيد الإقليمي لم يأت من الولايات المتحدة ولا من إسرائيل ولا تركيا ولا من الأنظمة العربية، لقد حدث ذلك بفضل الثورات الشعبية العربية. إيران تفقد دورها كدولة إقليمية عظمى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.