بعد انسحابها من العراق.. أميركا والنفوذ

بعد انسحابها من العراق.. أميركا والنفوذ



"سنترك العراق للعراقيين وسننسحب انسحابًا مسؤولاً"، "في العراق، نحن نرى تباشير ديمقراطية متعددة الأعراق والطوائف. لقد رفض العراقيون ويلات العنف السياسي لصالح العملية الديمقراطية، حتى في تحملهم كامل المسؤولية عن أمنهم. وبالطبع سوف يتعرضون لنكسات شأنهم شأن كل الديمقراطيات الجديدة. لكن العراق يتهيأ للعب دور رئيسي في المنطقة، إذا ما استمر في تقدمه السلمي. وإذ يقومون بذلك فإننا سوف نفخر بالوقوف بجانبهم كشريك صامد"، هذه بعض من عبارات وردت في خطب ألقاها الرئيس الأميركي باراك أوباما لتبرير سحب قوات بلاده من العراق، هذا البلد الذي تعرض للغزو والاحتلال في مارس/آذار عام 2003.

ورب سائل يسأل: كيف تترك أميركا العراق بما يمثله موقعه الإستراتيجي والمحوري في منطقة الشرق الأوسط؟ ولماذا إذن قامت الولايات المتحدة بكل ما قامت به وعرضت سمعتها ومكانتها الدولية إلى الكثير من السوء نتيجة قيامها وبعض حلفائها بعمل عسكري مشين وغير مبرر وخارج عن الشرعية الدولية تجاه العراق؟ ثم كيف تترك الولايات المتحدة العراق وهو لم يبلغ بعد من النواحي العسكرية الدفاعية حد القدرة ولم تتمكن قواته العسكرية والشرطية المشكّلة أساسا على أسس طائفية وعرقية من بلوغ مرحلة الاعتماد المطلق على النفس لمواجهة التحديات الكبيرة في الداخل العراقي المشتعل أو أية احتمالات خارجية أخرى؟

"
روثكوف:
إذا تفتت العراق وبدأت إيران توطيد نفوذ أكثر وضوحا أو إذا اندلعت حرب أهلية فإن المسؤولية حينئذ ستقع على الرئيس أوباما لأن الناس ستتذكره ليس على أنه خرج من العراق بل على الحال الذي تركه فيها
"

العراق, الذي يجد نفسه اليوم وسط حالة من الارتباك والفوضى ونذر حرب أهلية بسبب التفرّق السياسي والعقائدي الشائك بين زعماء قادة كتله السياسية، لا تنوي الولايات المتحدة العودة إليه عسكريا بحسب الرئيس الأميركي أوباما، ودور هذه الدولة المسؤولة قانونيا وأخلاقيا عن تدميره، سيقتصر بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" على "إجراء  اتصالات دبلوماسية وهاتفية مع القادة العراقيين"، وهو ما يؤكده فعليا قيام جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي بالاتصالات الهاتفية المكثفة مع قيادات الكتل السياسية العراقية السنية والشيعية والكردية عند ظهور بوادر أية أزمة، وما أكثرها في العراق.

إن مراجعة بسيطة لمصالح الولايات المتحدة في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط تحديدا تقودنا إلى سؤال محدد ومهم: ألا تخشى أميركا وأوباما شخصيا من تضاؤل نفوذ هذه الدولة العظمى في هذه المنطقة نتيجة انسحابها بهذه الطريقة من العراق؟ ديفد روثكوف المسؤول السابق بإدارة الرئيس بيل كلينتون والخبير بمجال الأمن القومي يرى "أن ما تحقق في العراق إلى جانب القضاء على أسامة بن لادن والنجاح في ليبيا واستعادة سمعة الولايات المتحدة في الساحة الدولية كلها نقاط إيجابية لصالح أوباما"، غير أنه يرى أيضا أن "تلك النجاحات قد تنقلب عليه بأسرع ما يكون وأن نوري المالكي ينكب على تبني سياسات تثير الفتن بين السنة والشيعة والأكراد الأمر الذي يضع أميركا في حرج شديد"، ويرى روثكوف أنه "إذا تفتت العراق وبدأت إيران في توطيد نفوذ أكثر وضوحا أو إذا اندلعت حرب أهلية فإن المسؤولية حينئذ ستقع على الرئيس أوباما لأن الناس ستتذكره ليس على أنه خرج من العراق بل على الحال الذي تركه فيها"، ولكن هل فعلا تركت أميركا العراق؟ وهل قدم الرئيس أوباما هذه التضحية من أجل الفوز بدورة ثانية من الانتخابات الرئاسية الأميركية؟

يظن أكثر المراقبين أن  انسحاب القوات الأميركية من العراق سيؤدي إلى إحداث اضطراب جديد في توازنات القوى في المنطقة، ويرى البعض أنه سيمثل سقوطا مدويا لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تبنته أميركا باعتباره مشروعا إستراتيجيا مثّل وما زال العنوان الأبرز لجميع مصالحها في المنطقة، هذا المشروع الذي كانت بدايته تتمثل بتحطيم قدرات العراق الجامح أولا ثم نشر ما أطلق عليه "الفوضى الخلاّقة" في سبيل إنشاء أنظمة جديدة في الوطن العربي ترفع شعارات ديمقراطية دون أن تعمل بها أو تهيِّئ لها. ولاشك أن المشروع الأميركي المتمثل بتدمير العراق جنَت ثماره إقليميا دول بعينها كالكيان الصهيوني وإيران، ولكن مع تعثره وسقوطه في العراق أيضا، جنت تركيا ثمارا متميزة أعادتها إلى قلب صناعة الأحداث في المنطقة عموما.

نعود لموضوع الانسحاب الأميركي من العراق وأبعاد ذلك على نفوذ الدولة العظمى على مجريات الأمور في المنطقة، ظاهريا خسر الأميركيون بشكل أقرب إلى الهزيمة منه إلى الانسحاب، وظاهريا أيضا نجحت إيران وتركيا في خلق مناطق نفوذ واسعة في العراق ومنه إلى عموم الإقليم، واقعيا حصلت إسرائيل على حصة متميزة في عراق اليوم والغد من خلال حضورها القوي استخباريا وتجاريا في العراق عموما وفي كردستان العراق بشكل خاص.

"
الأميركيون عملوا بجد قبل وبعد احتلالهم للعراق، على غلق أبوابه أمام أي متغير يعيده إلى مربع المد القومي والثوري الحريص على معاداة الوجود الإسرائيلي الغاصب للأراضي الفلسطينية
"

الأميركيون في حقيقة الأمر عملوا بجد قبل وبعد احتلالهم للعراق، على غلق أبواب العراق أمام أي متغير يعيده إلى مربع المد القومي والثوري الحريص على معاداة الوجود الإسرائيلي الغاصب للأراضي الفلسطينية، وكان السماح للنفوذ الإيراني بالتوسع داخل العراق جزءا من هذا الحرص الإستراتيجي الذي تحول إلى أيدلوجي لاحقا، وهم بحسب هذه الإستراتيجية قادرون على محاصرة واحتواء هذا النفوذ متى شاؤوا عبر التلويح بملفات كثيرة ضاغطة على النظام الإيراني كالملف النووي، ودعم الإرهاب، وتعريض الأمن والسلم العالميين للخطر، وإعلان تورطه بقضايا مثيرة للجدل كقضية التورط الإيراني في مخطط اغتيال السفير السعودي في واشنطن، كما تعوّل الولايات المتحدة كثيرا على الدور التركي (وهو حليف إستراتيجي مهم) للضغط على إيران وإجبارها على تفهّم حجمها الحقيقي في عمليات توازن النفوذ في المنطقة.

الآن وقد تحقق الانسحاب الأميركي من العراق، ظهرت محاولات إيرانية حقيقية للاستحواذ على مقدرات الأمور السياسية والأمنية في العراق من خلال سيطرتها الكبيرة على النخب السياسية الحاكمة هناك ووجود أعداد كبيرة من المليشيات المتسلحة والمدربة في إيران تسيطر على مشاهد كثيرة ومؤثرة في الشارع العراقي، وبدا ذلك جليا من خلال العراك السياسي والقانوني بين رئيس وزراء العراق نوري المالكي، ونائب رئيس الجمهورية العراقي طارق الهاشمي وتبعات ذلك على التجاذبات السياسية والطائفية للشعب العراقي.

كان لابد للإدارة الأميركية أن تستخدم مساعيها الدبلوماسية، أولا لإبلاغ رسائل نفوذها إلى إيران، ثم إلى حكام العراق الموالين لها ثانيا، فبالإضافة إلى اتصالات نائب الرئيس الأميركي بايدن بالقيادات العراقية المكثفة ورئيس جهاز المخابرات الأميركي، حذرت هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة إيران من محاولات تدخلها في الشؤون العراقية ومن خلالها في شؤون دول الخليج العربي بالقول: "أميركا ستقف إلى جانب حلفائها وأصدقائها بمن فيهم العراق للدفاع عن أمننا ومصالحنا المشتركة"، مؤكدة "التزام أميركا المستمر حيال العراق، ومستقبل هذه المنطقة التي تزخر بكثير من الأمل، ومن الضروري الحفاظ عليها من التأثيرات الخارجية لمتابعة طريقها نحو الديمقراطية".

في موضوع النفوذ لا يهم أميركا كثيرا أن يكون العراق شيعيا أو سنيا، يحكم من أكراد أو تركمان أو عرب، ما يهمها حقيقة أن يكون لها في العراق نفوذ سياسي وعسكري يمكّنها من حماية مصالحها وحلفائها في المنطقة، وهو ما دعاها إلى تعميق علاقاتها بإقليم كردستان العراق، وإبقائها على بضعة آلاف من الجنود والخبراء العسكريين الأميركيين في العراق بصفة "مدربين" إضافة إلى أسراب من طائرات المراقبة والطائرات القتالية، ثم زيادة وجودها العسكري في الكويت، حيث عبّر رئيس أركان القوات الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي في جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي عن اعتقاده ضرورة وضع نظام لتناوب القوات البرية والبحرية والجوية الأميركية في الكويت بشكل دوري، واصفا الأمر تارة بأنه "ليس له علاقة سببية بما حدث في العراق، لكنه نتيجة القلق المستمر من تنامي نفوذ إيران"، وتارة أخرى بأنه "للتصدي للنفوذ الإيراني المتزايد في العراق ومنطقة الخليج".

وعودة إلى موضوع حرب العراق والانسحاب الأميركي بعد ما يقارب تسع سنوات من احتلاله وتأثير ذلك على النفوذ الأميركي، فقد كتب توني كارون في صحيفة "تايم" الأميركية مقالا تحت عنوان "تقلص قدرة أميركا ونفوذها على الشرق الأوسط بعد حرب العراق" ذكر فيه "أن الهدف من حرب العراق كان ترويع المنافسين وإخضاع المنطقة المضطربة، كي تتمكن الولايات المتحدة من بناء "شرق أوسط جديد" على شروط مواتية لها.

لكن مغادرتها العراق تدل على تقلص نفوذها، لا سيما مع صعود التيارات والأحزاب الإسلامية بتولي مقاليد السلطة كما هو منتظر بعد سقوط الدكتاتوريات في تونس ومصر وليبيا وبقية دول المنطقة، وعلى ما يبدو أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، يعملون بشكل مستقل لصالح واشنطن".

"
بايدن:
النفوذ لا يأتي من استخدام القوة وإنما من النفوذ المسيطر على المؤسسات من حيث تشكيلة وطبيعة أداء تلك المؤسسات وهو ما تسيطر الولايات المتحدة فعليا عليه في العراق!
"

لكن ليس كل ما ذهب إليه كارون يمكن أن يكون صحيحا بحسب صحيفة "وول ستريت"، فهي ترى أنه وبحسب تصريحات نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن التي قال فيها خلال زيارته للعراق مؤخرا "إن أميركا ستعزز وتقوّي علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع العراق من أجل كسبها معركة الصراع على النفوذ ضد إيران"، وبايدن يرى "أن النفوذ الآن لا يأتي من استخدام القوة وإنما من النفوذ المسيطر على المؤسسات من حيث تشكيلة وطبيعة أداء تلك المؤسسات" وهو ما تسيطر الولايات المتحدة فعليا عليه في العراق!

ولكن يبقى مع العراق وهموم العراق على شعبه في الداخل وجيرانه العرب وغير العرب صراع شديد الوطأة لتثبيت مناطق نفوذ ستحدد ملامح القوى المتحكمة بمقدرات الشرق الأوسط الجديد فعلا بعد الربيع العربي المستعر والانسحاب الأميركي من العراق وبروز أنياب إيران وتركيا للعب دور الشرطي المرافق لإسرائيل في المنطقة وفق أجندة المصالح الكبرى للولايات المتحدة ومصالحهم على حساب أمم هذا الشرق وشعبنا العربي جزء رئيسي منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.