مزاعم بوش تفضحها مخابراته

مزاعم بوش تفضحها مخابراته (فواز جرجس)



 

لا أحد ينكر أن الحرب الأميركية على الإرهاب قد تحولت إلى كارثة, ولعل جوهر هذا الإخفاق يكمن في عجز القيادة الأميركية عن فهم بنية وطبيعة السياسة العربية/الإسلامية ونواميسها, والاختلافات في المفاهيم والرؤى الإستراتيجية بين الإسلاميين المعتدلين والناشطين الراديكاليين الذين لا يتبنون العنف منهجا, والجهاديين ذوي التوجه المحلي والجهاديين ذوي التوجه الأممي كتنظيم القاعدة مثلا.

وطوال ثماني سنوات من عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش, ظل الخطاب الأميركي المهيمن آنذاك يخلط ما بين "الإسلامي" و"الراديكالي" و"المقاتل" و"المتطرف" و"الجهادي" و"الإرهابي"، وقد ساوت وخلطت إدارة بوش بين خطاب الإسلاميين ذي الطابع السياسي الراديكالي وعنف الجهاديين.

ما لم تدركه إدارة بوش هو أن هنالك فوارق جوهرية بين حركات المقاومة المحلية المركز مثل حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) وحزب الله اللبناني، وبين الجماعات الجهادية الأممية العابرة للحدود -كتنظيم القاعدة- التي ظلت في حالة حرب مع الولايات المتحدة وأقرب حلفائها الغربيين منذ أواسط تسعينيات القرن المنصرم.

"
عوضا عن استشراف أسلوب بناء يحدد مظاهر الاختلاف بين أوجه الإسلام السياسي المتعددة, آثر من يسمَّوْن خبراء الإرهاب وصقور إدارة بوش تبني نهج اختزالي يساوي بين كل الإسلاميين وينظر إليهم بمنظار القاعدة
"

وعوضا عن استشراف أسلوب بناء يحدد مظاهر الاختلاف بين أوجه الإسلام السياسي المتعددة, آثر من يسمَّوْن خبراء الإرهاب وصقور إدارة بوش أن يندفعوا إلى تبني نهج اختزالي يساوي بين كل الإسلاميين, فكان أن نظروا إلى الإسلاميين بمختلف مشاربهم بمنظار القاعدة.

ولقد أقر هؤلاء الخبراء, عمدا أو من غير قصد, الأجندة الأيديولوجية لفريق بوش ونائبه ديك تشيني بتصويرهم الإسلام السياسي ليس على أنه حركة جهادية, متطرفة وعنيفة لا تعترف بالحدود فحسب, بل باعتباره يشكل خطرا داهما للغرب, وأيديولوجية عدوانية ومتسلطة نذرت نفسها للتدمير العشوائي وإذلال الآخرين. وأعرب متعصبون آخرون في الولايات المتحدة عن تأييدهم لشن حرب شاملة ضد كل أطياف الإسلام السياسي.

وتأسيسا على هذا الإجماع في الرأي بين خبراء الإرهاب والمهندسين الاجتماعيين رفع بوش ونائبه تشيني نبرة خطابهما فجمعا إسلاميي التيار العام والمعتدلين معا تحت مسمى واحد هو "الفاشيون الإسلاميون"، وطالب بوش الأميركيين بالاستعداد لخوض حرب عالمية على الإرهاب, واصفا إياها بأنها "المهمة التي لا مفر منها لجيلنا".

وزعم بوش أن الحرب العالمية على الإرهاب سوف تقضي على خطر الإرهاب الذي يمثله التطرف الإسلامي (وهو أيضا مصطلح فضفاض ومشوّش) وتستهدف الدول المارقة التي ترعى الإرهاب أو تؤوي إرهابيين. وبلهجة اتسمت بأيديولوجية جارفة, هيأت حملة بوش وتشيني العقائدية الجمهور الأميركي لغزو العراق, الذي كان ثمنه باهظا من الدماء التي سالت والأموال التي أهدرت والضرر الذي طال مكانة أميركا الأخلاقية في العالم بأسره وليس في دار الإسلام وحدها.

ولطالما ظل بوش وتشيني وأنصارهما من غلاة المحافظين يزعمون أنهم وسعوا دائرة حربهم على الإرهاب استنادا إلى المعلومات التي وفرتها أجهزة مخابراتهم الوطنية, لاسيما وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي). وقد سعوا إلى إقناع الرأي العام الأميركي والدولي بأنهم اعتمدوا في تصرفاتهم على بيانات وتحليلات موثوقة وليس على دوافع أيديولوجية أو من منطلق عدواني تسلطي.

لا ليس الأمر كذلك كما يروي كتاب جديد لمسؤول متمرس ومرموق في "سي آي أي" أفنى زهرة عمره مديرا لبرنامج التحليل الإستراتيجي للإسلام السياسي في وكالة المخابرات المركزية الأميركية, وهو إحدى أذرع الوكالة المؤثرة والفعالة.

يلاحظ إميل نخلة -في كتابه الكاشف والزاخر بالمعلومات "استقطاب لا بد منه: إعادة صياغة العلاقات الأميركية بالعالم الإسلامي" الصادر عن دار جامعة برينستون للنشر- أن المسؤولين الأميركيين في المستويات الوسطى برغم أنهم يعرفون أكثر من مجرد وضع الحرب المزعومة على الإرهاب في قالب من المصطلحات الأحادية المعنى, الأمر الذي زاد من أعداد الأعداء, فإن تأثيرهم في عملية صنع القرار في البيت الأبيض ضئيل. بمعنى أن فريق بوش/تشيني للسياسة الخارجية لم يعر المعلومات التي زودته بها "سي آي أي" كبير اهتمام، وتصرف كما يحلو له.

وطبقا لنخلة –وهو أميركي من أصل فلسطيني مطلع على ما يدور في أروقة سي آي أي ومراكز القوى الرسمية في واشنطن من حوارات- فقد كان هناك انفصال وانفصام بين الصفين الأول والثاني في فريق السياسة الخارجية في إدارة بوش، من حيث حرية الاعتماد واستخدام المعلومات التي قدمتها وكالات المخابرات الأميركية.

"
إميل نخلة يدحض  مزاعم بوش وتشيني بأنهما تلقيا مثل باقي مؤسسة السياسة الخارجية معلومات مضللة وخاطئة من أجهزة الاستخبارات, ويؤكد أن فريق بوش للسياسة الخارجية تجاهل "سي آي أي" وبقي أسير أوهامه الأيديولوجية وعجرفته
"

ولعل رواية نخلة من الداخل تقضي على مزاعم بوش وتشيني بأنهما تلقيا مثل باقي مؤسسة السياسة الخارجية معلومات مضللة وخاطئة من أجهزة الاستخبارات. والصحيح حسب ما توصل إليه نخلة أن فريق بوش للسياسة الخارجية تجاهل "سي آي أي" وبقي أسير أوهامه الأيديولوجية وعجرفته.

ويعرض نخلة –وهو أكاديمي سابق قبل أن يلتحق بـ"سي آي أي" منذ نحو 20 عاما، ورجل يحظى باحترام كبير– وصفا كئيبا ومقيتا لإخفاق صنّاع السياسة الخارجية الأميركية في فهم رؤى ومفاهيم العرب والمسلمين لأنفسهم ولبعضهم البعض وللغرب.

ويشعر نخلة بالمرارة إزاء ما أبداه كبار المسؤولين في إدارة بوش من عزوف عن الوقوف على مقدار تعقيد وتنوع الحركات الدينية الاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي, وذلك بالرغم من كل الجهود التي بذلها هو وكبار المحللين بوكالة الاستخبارات لإرشادهم وتثقيفهم وتنويرهم بما هو أفضل.

وتستند إحدى حجج نخلة الرئيسية على أن هنالك اختلافات وفوارق نوعية ومثيرة بين الجهاديين ذوي التوجه الأممي الذين يتبنون العنف وسيلة للتغيير من شاكلة أسامة بن لادن، وبين القوى الإسلامية السياسية الأخرى التي تمثل التيار العام كالإخوان المسلمين في مصر وحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين.

ويرى نخلة أنه بينما ينبغي التصدي لتنظيم القاعدة وإقصائه, "لا بد من الترحيب بإسلاميي التيار العام وحركات المقاومة باعتبارهم شركاء محتملين وجديرين بالثقة في عملية التحول السياسي لمجتمعاتهم".

لكن بدلا من ذلك نظر فريق بوش إلى العالم الإسلامي بسكانه البالغ تعدادهم 1,4 مليار نسمة عبر "عدسة الإرهاب"، مازجا إرهابيي القاعدة بالناشطين السياسيين/الدينيين ممن أظهروا "التزاما بالعملية الديمقراطية وبنهجهم العملي في التعاطي بالسياسة والتغيير السياسي".

ويقول نخلة إن ذلك أسوأ ما استطاعت الولايات المتحدة أن تفعله. إن دمج كل أولئك النشطين المسالمين ذوي التوجهات الدينية, تماما كما فعلت إدارة بوش, وإعلان حرب شاملة عليهم، هو بمثابة طريق يفضي إلى الفشل والدخول في صراع دائم مع شرائح هامة من المجتمعات المسلمة.

ويروي المؤلف, في مقابلة أجرتها معه صحيفة الحياة اللندنية بعد صدور كتابه, كيف أنه حاول لكنه فشل في إقناع رؤسائه في إدارة بوش لاستقطاب حركة حماس بعد فوزها بالانتخابات البرلمانية عام 2006 ومحاورتها. فقد كان الرأي الغالب في إدارة بوش معارضا للانخراط في محادثات مع قادة حماس ما لم يجروا تعديلا جذريا في موقفهم إزاء إسرائيل.

"
الزمن وحده هو الكفيل بأن يخبرنا ما إذا كان أوباما سينجح في ترميم جسور الثقة مع المجتمعات المسلمة, وفي تبيان الفروق الأساسية بين الأطراف الإسلامية واستقطاب الحركات الفاعلة منها مثل حماس وحزب الله والإخوان المسلمين أم لا؟
"

أما البديل برأي نخلة فهو أن تعيد إدارة الرئيس باراك أوباما النظر في نهج بوش، ذلك أنه لن يتسنى تحقيق استقرار أو إصلاح سياسي حقيقي في المنطقة دون إشراك حماس وحزب الله والحركات الهامة التي تتبنى نفس أسلوب التفكير.

ويخلص نخلة إلى أن تلك الحركات تطورت سياسيا واكتسبت شرعية جماهيرية في الداخل على حساب الأحزاب العلمانية والجماعات المتطرفة، على حد سواء.

ومع وصول رئيس جديد ذي رؤية أكثر تقدمية إلى سدة البيت الأبيض, فإن كتاب "استقطاب لا بد منه" لم يكن ليصدر في وقت مناسب أكثر من هذا. ومع أن باراك أوباما لم يصغ بعد سياساته إزاء الشرق الأوسط الكبير, فإن خطابه يقتبس بعض أفكار مؤلفنا. وفي الحقيقة فإن فريق أوباما بالبيت الأبيض التمس من نخلة المشورة والتقييم، وذلك قبل أن يدلي بخطابه الموجه للعالم الإسلامي من القاهرة.

ومنذ تنصيبه, باشر الرئيس الأميركي ذو الأصول الأفريقية قيادة جهد جماعي لإصلاح الضرر الذي أحدثته إدارة بوش في سنواتها السبع الأخيرة. على أن الزمن وحده هو الكفيل بأن يخبرنا ما إذا كان أوباما سينجح في ترميم جسور الثقة مع المجتمعات المسلمة, وفي تبيان الفروق الأساسية بين الأطراف العديدة الناشطة في المنطقة واستقطاب الحركات الاجتماعية الرئيسية الفاعلة سياسيا مثل حماس وحزب الله والإخوان المسلمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.