إرث الإمبراطورية والعنصرية.. كيف ترتبط العدالة الاجتماعية والعرقية بالتغير المناخي العالمي؟

ثمة وسائل متنوعة لرؤية الاستعمار، بينها النظر إليه كاندفاع نحو الثروات والسلطة، وأنه نهب دائم للحياة ومشروع لهندسة الطبيعة وجعلها خاضعة لاحتياجات الصناعة.

كتاب "تغير المناخ عنصري" يرى أن انعدام المساواة البيئية مثال على العنف الهيكلي إذ ينبع من أفكار ثقافية عميقة عمن يحق له الهواء النظيف والماء ومن هو أقل "استحقاقًا" (غيتي)

تغير المناخ مشحون بالعنصرية، هذا ما يخلص إليه كتاب جديد يدرس كيفية تقاطع تغير المناخ مع العنصرية، ويحاول الإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف ترتبط قضايا المناخ والعدالة العرقية؟ ولماذا يجب أن تكون المساواة العرقية في قلب حركة المناخ؟

في كتاب "تغير المناخ عنصري: العرق والامتياز والنضال من أجل العدالة المناخية" الصادر في يونيو/حزيران 2021، يأخذنا الكاتب والناشط البيئي جيريمي وليامز في رحلة قصيرة وسريعة عبر العالم، من كينيا إلى الهند، ومن الولايات المتحدة الأميركية إلى أستراليا لفهم كيفية تداخل امتيازات البيض مع تغير المناخ.

ويحاول تحليل الحقائق البيئية، ويسمع تجارب الأشخاص الأكثر تضررًا على كوكبنا، ويتعلم من الناشطين الذين يقودون التغيير.

ويقول المؤلف إننا عندما نتحدث عن العنصرية، فغالبًا ما نعني تحيز الأشخاص والمؤسسات إلى عرق معين على حساب عرق آخر، لكن الكتاب يتجنب تلك المفاهيم السطحية للعنصرية ليكرس صفحاته لمناقشة العنصرية البنيوية المتأصلة في المجتمعات؛ إذ يتسبب أغلب الأشخاص البيض في الدول ذات الأغلبية البيضاء في تغير المناخ في حين يكون الضرر من نصيب أغلبية ساحقة من الأشخاص الملونين والسود، وذلك يعكس أزمة المناخ ويعزز الظلم العنصري، حسب الكتاب.

عنف هيكلي

يقول المؤلف إن الشكل الأكثر وضوحًا للعنف هو الأذى المباشر بين الأشخاص، لكن العنف مثل العنصرية يمكن أيضًا فهمه على أنه هيكلي، أي باعتباره جزءا لا يتجزأ من الأنماط الثقافية والاجتماعية.

طُوّرت فكرة العنف الهيكلي أول مرة بواسطة عالم الاجتماع النرويجي يوهان جالتونج في الستينيات من القرن الماضي، كان جالتونج ممارسًا مبكرًا لما يسمى الآن "دراسات السلام"، ورأى أن العنف يمكن فهمه على 3 مستويات.

في الجزء السفلي يوجد العنف الثقافي، أي المواقف الطويلة الأمد مثل تفوق البيض، هذا العنف الثقافي يضفي الشرعية على العنف الهيكلي الذي يظهر في شكل أنماط من الحرمان المزمن.

أما المستوى الثالث فهو أعمال العنف المباشر، مثل إطلاق الشرطة النار، ومن هذا المنظور الأوسع يتدفق العنف صعودًا من الجذور العميقة، وتنبع أعمال العنف من انعدام المساواة الذي بدوره ينبع من الثقافة.

climate change cover book
كتاب "تغير المناخ عنصري: العرق والامتياز والنضال من أجل العدالة المناخية" للكاتب والناشط جيريمي وليامز (مواقع التواصل)

فقط الطبقات العليا من العنف تتطلب القصد والنية المبيتة، فالعنف المباشر هو فعل متعمّد في حين إن العنف الهيكلي ينتج عن "كثير من الأعمال الضمنية".

ويُفهم العنف الهيكلي على أنه عملية أكثر من كونه حدثًا، ويمكن أن تكون المعاناة التي يسببها أكبر بكثير من العنف المباشر، لكنها تمر من دون أن يلاحظها أحد لأنها تتوزع على مجموعة من الأشخاص والأفعال المختلفة، حسب ملخص للكتاب نشرته مجلة "فورين بوليسي" (Foreign policy) الأميركية.

ويرى الكتاب أن انعدام المساواة البيئية مثال على العنف الهيكلي، إذ ينبع من أفكار ثقافية عميقة عمن يحق له الهواء النظيف والماء، ومن هو أقل "استحقاقًا"، ومن الذي يجب أن يظل آمنًا ومن لا.

لنأخذ على سبيل المثال أرشونا وبريامباندو اللذين كانا مزارعين في قرية كايا بينيا ببنغلاديش. في السنوات السابقة، كانا قادرين على إنتاج 2 طن متري من الأرز من 11 فدانا من الأرض، وبعد الأعاصير والفيضانات المتكررة تقلصت أراضيهما إلى فدانين، وما تبقى أصبح ملوثا بالملح، وأصبحت بقية الأرض تحت الماء مدة 4 أشهر في السنة.

وقال أرتشونا "لا نعلم المستقبل، لكن يمكننا أن نفترض أننا سنفقد كل شيء"، ويردف "لقد فقدنا منزلنا، وفقدنا مصدر رزقنا، ونكافح من أجل الحصول على ما يكفي من الغذاء والماء كل يوم. إذا كانت الأرض تحت أقدامنا، فيمكننا التكيف مع تغير المناخ".

لقد عانى أرشونا وبريامباندو من أعمال عنف، بتعريف يوهان جالتونج، إذ دمّر منزلهم ومكان معيشتهم، وانتزعت أرضهم منهم، رغم أنهم لم يسهموا بأي شيء تقريبا في أزمة تغير المناخ.

السبب والنتيجة بعيدان عن بعضهما لدرجة أنه قد لا ينظر إلى ما حدث على أنه عنف. لم يكن هناك نية خبيثة، لكن تجربتهم شائعة، نظرًا إلى أن غازات الاحتباس الحراري تلوث الغلاف الجوي من قبل انباعاثات أكثر دول العالم تقدمًا، وهكذا ترتفع المياه أو تهطل الأمطار في أماكن بعيدة عنها لتؤثر في أماكن وأشخاص آخرين، لا ذنب لهم.

وإذا كان من الممكن ربط السبب والنتيجة، فقد يكون من الواضح أكثر أن توسيع مطار، أو فتح منجم جديد للفحم، أو الانسحاب من معاهدة دولية بيئية هي أعمال عنف، حسب الكاتب الذي يضيف أنها أعمال عنف تُرتكب ضد الطبيعة والتنوع البيولوجي.

وأحد أسباب عدم النظر إلى تغير المناخ على أنه عنف هو أنه يحدث تدريجيا، هذه مشكلة حددها روب ديكسون، الأستاذ في معهد هاي ميدوز البيئي بجامعة برينستون، ووصف كيفية تطور الضرر البيئي باعتباره عنفًا بطيئًا أو "عنفا يحدث تدريجيًا وبعيدًا عن الأنظار، عنف التدمير المتأخر المنتشر عبر الزمان والمكان، وعنف الاستنزاف الذي لا يُنظر إليه عادة على أنه عنف على الإطلاق".

تغير المناخ قضية عرقية

وجدت إحدى الدراسات التي نُشرت حديثا في مجلة العلوم الوطنية الأميركية أن المجتمعات السوداء والإسبانية في الولايات المتحدة تتعرض لتلوث هواء أكثر بكثير مما تنتجه من خلال سلوكات مثل القيادة واستهلاك الكهرباء.

على النقيض من ذلك، يتمتع الأميركيون البيض بجودة هواء أفضل من المتوسط ​​الوطني، على الرغم من أن أنشطتهم هي مصدر معظم الملوثات، حسب تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" (Washington post) الأميركية.

ووجدت ورقة بحثية أخرى في مجلة "ساينس" (Science) أن تغير المناخ سيسبب أكبر ضرر اقتصادي في أفقر مقاطعات أميركا، فكثير من تلك الأماكن هي موطن معظم الأشخاص الملونين وغير البيض.

وعدم المساواة العرقية يعني أيضًا أن الأشخاص الأكثر تعرضًا لخطر تغير المناخ لديهم أقل الموارد للتعامل معها، ووفقًا لدراسة أجراها المركز المشترك للدراسات السياسية والاقتصادية، فإن أكثر من 30% من سكان نيو أورليانز السود لم يكن لديهم سيارات عندما ضرب إعصار كاترينا، وذلك جعل إجلاءهم شبه مستحيل، وبعد العاصفة، انخفض عدد السكان السود في المدينة لأن العديد من السكان لم يتمكنوا من العودة إلى أحيائهم.

ولسوء الحظ، بسبب تزايد التفاوت العالمي -الذي يظل جزءًا من تراث الإمبريالية والاستعمار، وجزءًا من الواقع الحالي للعولمة والرأسمالية- نعلم أيضًا أن الموارد المطلوبة للاستجابة لتأثير تغير المناخ غالبًا ما لا توضع في أيدي الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليها، حسب مقال مشترك نشرته صحيفة "الغارديان" (The guardian) البريطانية للناشطين في حركة حياة السود مهمة، باتريس كولورز ونيوسي نغوفو.

وبعد وقوع الكارثة، تصبح المجتمعات في دوامة فقر طويل الأمد، كون الشفاء من الكوارث يكلف مبالغ هائلة من المال. وفي حالة جزر الكاريبي، يعتمد التعافي وإعادة البناء على ما تراه القوى الاستعمارية السابقة مقبولًا، ولا يمكن فهم حجم الدمار وتأثيره الكامل من دون الرجوع إلى العنصرية التي يقوم عليها تغير المناخ واستجابات الدولة له، حسب المقال ذاته.

الاستعمار والعداء للطبيعة

هناك وسائل متنوعة لرؤية الاستعمار، بينها النظر إليه كاندفاع نحو الثروات والسلطة، وأنه نهب دائم للحياة ومشروع لهندسة الطبيعة وجعلها خاضعة لاحتياجات الصناعة.

كما يمكن النظر إلى الاستعمار باعتباره إسكاتًا للمعارف المحلية، ومحوًا للآخر وعنفا ثقافيا من خلال النفي، وعنفا اقتصاديا من خلال الاستغلال، وعنفا سياسيا من خلال القهر، حسب المؤلف والناشط البيئي دانيال ماكميلن فوسكوبوينيك.

ويقول فوسكوبوينيك في مقاله لمنصة (open democracy) إن الاستعمار كان يبحث عن الثروة والسلطة على نحو مجرد، لكنه كان يسعى بشكل ملموس للحصول على السلع، أي المعادن والمحاصيل؛ إذ تتطلب القوة السياسية والنمو الاقتصادي والتصنيع استعمار المناطق النائية لتوفير المواد الخام والغذاء وإمدادات الطاقة والعمالة وحتى المستهلكين.

وهكذا، رتبت الإمبراطوريات العالم لإرضاء أذواق المدن الكبرى، وبهذا المعنى ستكون الطبيعة بمنزلة لوحة، وضحية للأحلام الاستعمارية؛ إذ تروي الطبيعة القصة الاستعمارية، من خلال مناجمها الشاسعة، وأنهارها وأراضيها.

وعبر القارات، تم تطهير الأشجار والأراضي العشبية والغابات المطيرة والأراضي الرطبة لإفساح المجال أمام المحاجر والمزارع والطرق والسكك الحديد.

وكما يشرح المؤرخ البريطاني ريتشارد درايتون، فإن الإمبريالية -أي توسع الإمبراطورية- كانت "حملة لتوسيع نظام بيئي أو طريقة للعيش في الطبيعة"، فكان لابد من إخضاع المناظر الطبيعية بأكملها للسيطرة والاستغلال، وهكذا كان الإفراط في الاستخدام والتلويث وإزالة الغابات هو القاعدة.

كان الربح هو البوصلة، إذ فصل المخططون الاستعماريون الفرنسيون "أفريقيا المفيدة" عن "أفريقيا غير المجدية"، وتم مسح الأراضي وتقسيمها إلى مناطق ورسم خرائط لها.

كانت الطبيعة لوحة فارغة، تجب إعادة تشكيلها وجعلها مفيدة، وحيث وصل المستعمرون، أعيد رسم الخرائط، وطرد السكان، ووضعت وسائل جديدة للإنتاج، إذ فرضت نماذج للملكية الفردية الحديثة وحكمت المحاكم والقوانين الجديدة الأقاليم، وسلمت الأراضي للشركات والمستوطنين الجدد، في حين أصبح السكان القدامى "واضعي يد" على أراضيهم، وسحقت التقاليد الزراعية التي اختبرت عبر الزمن والمتأصلة محليًا، وتم القضاء عليها.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية + مواقع إلكترونية