قصائد "لم يعد أزرقًا" صاغتها الأشجار والخسارة.. لقاء المواجع بالفلسفة في ديوان محمد عبد الباري

الشاعر محمد عبد الباري
الشاعر السوداني محمد عبد الباري يمزج في قصائده الأدب بالفلسفة والتصوف بالذاتية ويعد من طليعة مجددي القصيدة الراهنة (مواقع التواصل)

"وفي البدء

أوصيك بالخاسرين

الذين يرون الخسارة فن"

لا تكاد الخسارة تفارق نصًّا من نصوص ديوان "لم يعد أزرقًا"، رابع دواوين الشاعر محمد عبد الباري الصادر حديثًا عن "تشكيل للنشر والتوزيع". ويعد هذا الديوان محطة جديدة في تجربة عبد الباري، بعد "مرثية النار الأولى"، و"كأنك لم"، و"الأهلة"، ويغايرها في كثير من التفاصيل.

تبدأ الخسارة بالظهور من إحدى العتبات الأولى للديوان، إذ قال الشاعر في الإهداء "إلى سلمى فعلت ما بوسعها القصائد لكن لا هائل يكفي لوصف خسارتي فيك، إلا هائل الصمت قبل كل قصيدة وبعدها". لكن عبد الباري يحسن صياغة الخسارة، وجمهور شعره سيسر بها في غالب الأمر.

وبها وبالديوان بشَّر الشاعر على حائطه في فيسبوك أصدقاءه ومتابعيه "كلي أمل أن يكون فيه ولو بعض ما تتطلع إليه أرواحكم الواقفة على حافة العالم في انتظار ضيف غامض، وجميل ولا يعترف بالمواعيد، اسمه الشعر. سنتان في نيويورك، ولم تكن ثلاثة أرباع هاتين السنتين، في المدينة التي أشغلت العالم، إلا انشغالاً بكتابة هذا العمل".

ديوان الشاعر محمد عبد الباري
ديوان عبد الباري صدر حديثًا عن تشكيل للنشر والتوزيع (مواقع التواصل)

3 تفريعات بديوان واحد

18 قصيدة هي قوام ديوان عبد الباري الجديد، وعمد الشاعر إلى تقسيمها لمجموعات ثلاث: الأولى "هو/هو أزرقٌ يخسر عُمقه" ضمت القصائد: النسخة الثانية من الغريب، اللوحة/المرآة، مرافعةٌ ضد الأمل، فشلُ تجربةٍ صوفية، الخطأ، خلاف شخصي مع الوقت.

وهي فيما تبدو قصائد ذاتية تتبعها المجموعة الثانية "هو/هي.. أزرق يخسر علوَّه". ومن العنوان يُلمَحُ البعد العاطفي للتجربة، وتفضحه النصوص:

"تعالي قاسميني ما تبقى

كما يتقاسم الأمواج غرقى

بأشجى ما به يبكي نحاس

ويبكي آخر الأجراس دقا"

والقصائد المندرجة تحت هذا العنوان "حب مصاب بالسفر، تاريخ عادي لامرأة غير عادية، تقرير الوحشة، الغوايات كلها، الشبابيك في سهرها الأخير".

وكانت ثالث مجموعات الديوان "هو/هم.. أزرق يخسر سعته"، التي تناولت موضوعات تنحو منحى جَمعيًّا، والقصائد هي "نشيد الصعاليك، شاهد قبر للزمان، آخر الرايات، المسوخ في صورة جماعية، فيلة سلفادور دالي، أغنية للوطن والعاصفة، الشهداء. وفي نشيد الصعاليك يقول عبد الباري:

"يشذون عن كل ما يحتوى

يشكون في كل ما يؤتمن

ويا كم تضيق المنافي بهم

وأول هذي المنافي الوطن"

من قصيدة إلى ديوان

أحد أهم الفروق بين "لم يعد أزرقا" ودواوين الشاعر السابقة أن موضوع الديوان واحد، وإن اختلف الشكل، والمبنى، والتناول، دون أن يعني ذلك التطابق، أو التشابه الاستنساخي. وفي هذا يقول عبد الباري بمنشوره "هي المرة الأولى التي أنتقل فيها من كتابة قصيدة إلى كتابة ديوان، النَفَس المتصل الموحّد هذه المرة كان ضروريًّا لإجراء حوار مطوّل مع الشجرة وهي تستذكر خساراتها، الشجرة التي أحست مبكرًا بالنار في أقدامها، وفضلّت ألا تقول شيئًا، ثم لم يمر وقت طويل حتى شاهدت الغابة كلها تحترق".

وإن كان الأمر جديدًا في تناوله عند عبد الباري فإنه قديم بطبيعة الحال، وهذا ما علَّق عليه أستاذ الأدب والنقد بجامعة الخرطوم أسامة تاج السر في إفادته للجزيرة نت قائلا ربما كان أبو العلاء المعري في "درعياته" أول شاعر يخصص قصائد لموضوع واحد، وحديثًا هنالك طريقان يُشبهان مسلك عبد الباري: من أصدروا ديوانًا في أصله مطولة واحدةً مثل "سقوط دبشليم" للفيتوري، و"لا خباء للعامريّة" لمحمد المكي إبراهيم، و"العودة إلى سنار" لمحمد عبد الحي، و"ماري وامبوي" لعالم عباس محمد نور. وهناك من خصصوا ديوانًا كاملًا لموضوع واحد: أمل دنقل في ديوانه "أقوال جديدة حول حرب البسوس"، وصلاح أحمد إبراهيم في "نحن والردى".

وفي سؤال الجزيرة نت للشاعر عن ذلك، أجاب "التداعي، والتداعي وحده هو ما جعل قصائد هذا الديوان يأخذ بعضها بيد بعض. وهو في صورته التي انتهى إليها أشبه ما يكون بمجموعة أصداء منوّعة لصوت واحد. على أن هذه الوحدة لم تكن وحدة موضوع بالمعنى المباشر، وإنما تجربة شعورية ذات أبعاد ثلاثة: ذاتية وعاطفية وجمعية".

التشكيل والقصائد

لوحة غلاف، و3 لوحات داخلية بريشة الفنان الكبير إبراهيم الصلحي؛ شكلت كل واحدة منها عتبة لمجموعة من المجموعات الثلاث أضافت لديوان عبد الباري، وأعادت رسوم إبراهيم الصلحي لتتوسط صفحات الأدب السوداني.

الصلحي التشكيلي المعروف بإبداعاته وثيق الصلة بالأدب، وسبق للوحاته أن ارتبطت بأسماء سودانية؛ إذ رسم لوحات الطبعة الأولى لـ"نار المجاذيب" (1968)، وهو أحد دواوين الشاعر السوداني الكبير محمد المهدي المجذوب.

كما صاحبت لوحاته "مريود" الطيب صالح المنشورة على صفحات الدوحة القطرية، ويرى التشكيلي بدر الدين محمد نور في إفادة للجزيرة نت أن الارتباط قديم وقوي بين التشكيل والشعر، وأن الإبداع آصرة بينهما، وأن دواوين كثيرة حوت لوحات دعمت عمليات التلقي النصي، ورسمها تشكيليون عظماء.

ومن أهم الأمثلة في السودان رسوم حسين جمعان للشاعر محمد عبد الحي، ويضيف بدر الدين أن "الصلحي اسمٌ عبر إلى العالمية بفنه، وسبق أن كانت لوحاته جزءًا من أعمال أدبية كثيرة. وفي هذا الديوان اللوحات الداخلية واضحة العلاقة بالقصائد".

في حين خصَّ الشاعر محمد عبد الباري التشكيلي إبراهيم الصلحي بالشكر بقوله "الشكر لفناننا العالمي الكبير إبراهيم الصلحي الذي تفضل عليّ بلوحة الغلاف، وبثلاث لوحات أخرى داخل الديوان".

طبعة رئيسية وأخرى سودانية

الطبعة الرئيسة للديوان الجديد صدرت عن دار تشكيل -كما تقدم- والتي ستصل لأغلب المنافذ في العالم العربي، لكن -وحسب تصريح شاعره- ستكون هناك طبعة سودانية تصدر عن "دار جامعة الخرطوم للنشر والتوزيع"، كما ستكون هناك طبعة خاصة بمصر والشمال الأفريقي مع دار نشر قاهرية.

وفي إفادته للجزيرة نت يقول محمد عبد الباري "حرصت كل الحرص على أن يصدر الديوان في طبعة سودانية خاصة تصدر عن دار جامعة الخرطوم بالتزامن مع طبعة دار تشكيل. وأنا في هذا الحرص إنما كنت أقوم بواجبي تجاه الأهل في السودان، وثانيا كنت أعطي ما أكتبه رفاهية التمتع بذائقة القارئ السوداني البديعة".

في حين أفاد مدير دار جامعة الخرطوم للنشر الدكتور الأصم بشير الجزيرة نت "بأن لهم مشروعًا لطباعة الدواوين السودانية التي كانت طباعتها الأولى خارج السودان، ولا يتيسر الحصول عليها وابتدر المشروع بدواوين الشاعر محمد عبد الباري".

ويضيف الأصم "عبد الباري أبدى تعاونًا كبيرًا ورغبة فيما عرضناه عليه. وقد تحقق ما نصبو إليه فالشكر له وللدور التي طبعت دواوينه ووافقت على أن تكون هناك طبعات سودانية والشكر لدار تشكيل التي وافقت فخرجت الطبعات متزامنة تقريبا".

وبشَّر عبد الباري جمهوره في السودان عبر الجزيرة نت بأن التعاون مع هذه الدار العريقة يشمل كل أعماله، فقد حصلت الدار على حقوق نشر الدواوين الثلاثة الأولى، والديوان الجديد بالإضافة إلى كل ما سيصدر في المستقبل من أعمال. واصفًا التعاون بينه وبين الدار بأقل ما يمكن أن يسهم فيه فيما يتعلق بدعم حركة النشر والطباعة في السودان.

وواصل عبد الباري في أفادته للجزيرة نت قائلا "نرتّب لبعض المبادرات الأخرى التي تتطلع إلى رفد قطاع الأدب السودانيّ بشكل عام، ونتمنى أن ترى النور قريبا".

وفي هذا الشأن، يكشف الأصم النقاب عن مبادرة عبد الباري بالقول "تنازل عن نصيبه من عائدات بيع دواوينه، على أن يخصص ذلك لطباعة أعمال لشباب الشعر في السودان، ومن جهتنا سنستقطع نسبة من حصتنا لذات الغرض".

نسخة دار تشكيل الرئيسية والنسخة السودانية ينتظرهما جمهور الشعر بمحبة وستغدوان كما كتب صاحب الديوان "تنهيدة للقلوب النعوش/ القلوب التي نسيت أن تئن".

المصدر : الجزيرة