حل سياسي لأكبر أزمة وجودية.. نعوم تشومسكي في "الصفقة الخضراء الجديدة"

المفكر والناشط السياسي وعالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي (الفرنسية)

في الوقت الذي يواجه فيه العالم أزمة جائحة كورونا، يلفت كتاب جديد النظر لأزمة وجودية أخرى مهمة للغاية؛ إذ صدر حديثًا كتاب "أزمة المناخ والصفقة الخضراء العالمية الجديدة"، ويجيب فيه المفكر الأميركي وعالم اللغة نعوم تشومسكي والخبير الاقتصادي الشهير روبرت بولين عن أسئلة كارثة المناخ العالمية، موضحين ما يمكن أن يحدث إذا لم نتخذ إجراءات فورية لوقف انبعاثات الكربون.

يعالج تشومسكي -في الكتاب- الحجج الاقتصادية المتعلقة بما يسميها "الصفقة الخضراء الجديدة"، وكيف أن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية منذ الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان أوصلت العالم إلى مصير الفوضى الحالية، ولماذا سيكون المشروع الجديد المقترح مفيدًا للعمال الأميركيين.

ويرسم المؤلفان مسار العواقب الكارثية لتغير المناخ غير الخاضع للرقابة، ويقدمان مخططًا واقعيًا للتغيير، بعد أن أمضى تشومسكي عقودًا من الزمن ينتقد السلطة ويقدم نفسه كناشط يساري أميركي صريح مناهض للحرب، من حرب فيتنام إلى ضربات الطائرات من دون طيار في عهد باراك أوباما، مفضلاً الاصطفاف مع المعسكر "الاشتراكي التحرري"، ومنتقدًا بشدة كلا الحزبين الأميركيين الرئيسيين.

تنبؤات ترهق الخيال

يوضح كل من تشومسكي وبولين كيف أن التنبؤات بكوكب أكثر سخونة ترهق الخيال؛ ستصبح مساحات شاسعة من الأرض غير صالحة للسكن، وستبتلى بالطقس القاسي والجفاف وارتفاع منسوب البحار وفشل المحاصيل. ويجادلان ضد الخوف في غير محله من الكارثة الاقتصادية والبطالة الناشئة عن الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، ويظهران كيف أن هذا القلق الزائف يشجع على إنكار أزمة المناخ.

إن الأزمة البيئية الجارية فريدة من نوعها في تاريخ البشرية؛ إنها أزمة وجودية حقيقية، ومن هم على قيد الحياة اليوم سيقررون مصير البشرية. في غضون ذلك، يكرس قادة أقوى دولة في تاريخ البشرية أنفسهم بشغف لتدمير آفاق الحياة البشرية المنظمة، حسب تعبير المؤلفين.

في الوقت نفسه، هناك حل في متناول اليد، وهو الصفقة الخضراء الجديدة. علينا التوقف تمامًا عن حرق الوقود الأحفوري لإنتاج الطاقة خلال 30 عامًا القادمة على الأكثر؛ وعلينا أن نفعل ذلك بطريقة تدعم أيضًا رفع مستويات المعيشة، وتوسيع الفرص للعمال والفقراء في جميع أنحاء العالم، ويعتبر المؤلفان أن هذا الحل واقعي تمامًا من حيث ميزاته الاقتصادية والتقنية البحتة، والسؤال الحقيقي هو: هل هذا ممكن سياسيًّا؟ يبحث تشومسكي وبولين كيف يمكننا بناء القوة السياسية لجعل صفقة عالمية خضراء جديدة حقيقة واقعة.

وبمناسبة صدور الكتاب، أجرى تشومسكي عدة حوارات مع مواقع إلكترونية أميركية من بيته بواسطة تطبيق زووم، وفي لقائه مع موقع فوكس قال المفكر الأميركي إنه إذا كان الاحتباس الحراري نتيجة تلقائية للرأسمالية، فعلينا أن نودع بعضنا بعضا لأن مواجهته عاجلة للغاية.

ويضيف "أرغب في التغلب على الرأسمالية، لكنها ليست ضمن النطاق الزمني القريب. ويجب مواجهة الاحترار العالمي بشكل أساسي في إطار المؤسسات القائمة، وتعديلها حسب الضرورة. هذه هي المشكلة التي نواجهها".

ويرى تشومسكي أنه عندما نتناول الطبيعة البشرية فإن أول شيء يجب أن نتذكره هو أننا لا نعرف شيئًا عنها، فهناك القليل مما نعرفه والباقي كله تخمين.

ولمدة 75 عامًا، يقول تشومسكي "كنا نعيش في وضع فريد في تاريخ البشرية؛ لدينا الوسائل لتدمير الحياة البشرية المنظمة على الأرض، لم يكن هذا متاحًا من قبل".

ويتابع "لدينا أيضا الأدوات والوسائل للتغلب على ذلك؛ أظهرت الحرب العالمية الثانية أنه مع المؤسسات القائمة كان من الممكن حشد الموارد على نطاق يتجاوز بكثير ما هو مطلوب اليوم، وبشكل فعال للغاية؛ لذلك دعونا نستخدم ما هو متاح، ودعونا نفترض أن البشر قادرون على النظر إلى ما بعد الغد".

قراءة لتاريخ حديث

ويقول تشومسكي إن التاريخ يعلمنا أننا لا نمتلك صورة واضحة عن المستقبل، وضرب مثالا بألمانيا التي كانت في العشرينيات من القرن الماضي ذروة الحضارة الغربية في العلوم والفنون وحتى الديمقراطية في جمهورية فايمار الألمانية (قامت بين سنتي 1919 و1933)، لكن بعد 10 سنوات كانت أسوأ مكان في تاريخ البشرية، على حد تعبيره.

ويتابع "الآن، إذا كنت تريد أن تسأل عما يحدث الآن، أعتقد أننا تعرضنا لهجوم الاعتداء النيوليبرالي، الذي كان مدمرًا، ويؤدي تصميمه الأساسي إلى تركيزات عالية للثروة والقوة في أيدي غير خاضعة للمساءلة، ونمو هائل للمؤسسات المفترسة أساسًا، ومعظمها مالية؛ وأدى ذلك إلى مشاعر الغضب والاستياء وعدم الثقة في المؤسسات في كثير من أنحاء العالم، وهو أمر له بعض المبررات، وهذه مساحة خصبة للغوغائيين".

ويستدرك "لكنها أيضًا فرصة للمواجهة، ونحن نرى ذلك في كل مكان من شوارع أميركا، إلى مجموعات المساعدة المتبادلة في البرازيل؛ البشر قادرون على الكثير من الأشياء".

ويرى تشومسكي أن تأثير التلوث موجّه بشكل أساسي نحو إيذاء الفقراء والمحرومين، ويقول إنه "عندما تزيل إدارة ترامب ضوابط التلوث من المصانع، من يؤذى بسبب ذلك؟ إنهم أناس يعيشون بالقرب من المصانع الملوثة لأنهم لا يستطيعون العيش في أي مكان آخر. إذا أنهينا الأزمة فنحن نساعدهم؛ لذلك هناك الكثير من الأشياء (الداعمة للمساواة) التي تحدث تلقائيًّا تقريبًا كنتيجة لسياسة الصفقة الخضراء الجديدة، ويمكن تعديلها لجعلها أكثر".

وإحدى القضايا الرئيسية للعدالة المناخية هي التعامل مع الجنوب العالمي؛ أي الأشخاص الذين لم يسهموا حقًا في المشكلة، ولكنهم يعانون منها الآن أكثر من أي شخص آخر، ونوقش هذا الأمر منذ مفاوضات باريس، لكن الحزب الجمهوري رفض تقديم حتى الحد الأدنى من المساعدة التي ستكون ضرورية للبلدان الفقيرة.

الحركة ضد الاحترار

وفي حواره لمجلة ديلي جستور، يقول تشومسكي إن الناس غير قادرين على تخيل سوى ما يقع أمام أعينهم مباشرة، ويعتبر أن الحركة العمالية كانت في طليعة كل عمل مهم من أجل التغيير الاجتماعي والإصلاح في التاريخ الحديث، وكذلك ينبغي أن تكون في طليعة الحركة لتعديل سياسات التغير المناخي الحالية.

ويقول تشومسكي في الحوار إن الديمقراطيين تخلوا عن الطبقة العاملة في أميركا قبل 50 عاما، بينما يعارض الجمهوريون بقوة مجتمع العمال، معتبرًا أن الحزب الجمهوري "أسوأ من النازيين الذين قتلوا ملايين البشر وارتكبوا الفظائع، لكن هتلر لم يدع إلى تدمير كل أشكال الحياة البشرية المنظمة على الأرض"، على حد قوله للمجلة الأميركية.

ومع ذلك، يرى تشومسكي أن هناك أسبابا كثيرة للأمل، مثل حركة "حياة السود مهمة" في شوارع الولايات المتحدة، التي يعتبرها أكبر حركة اجتماعية في التاريخ الأميركي مع تأييد شعبي يتجاوز كل ما سبقها، مؤكدًا أنها علامة على تغييرات جوهرية في الوعي الشعبي، ويختم بالقول إن هناك أملا لمواجهة التدمير الهائل المرتقب، لكن ليس إذا استسلم الناس.

سيرة "أميركي منشق"

في ميدان تخصصه العلمي، يوصف تشومسكي بأنه "أب علم اللسانيات الحديث" وصاحب نظرية "النحو التوليدي"، التي تعد أهم إسهام في مجال النظريات اللغوية في القرن 20. وقام مرات بتعديل نظريته اللسانية، لكن مع الحفاظ على مسلماتها الأساسية، كما يعد منشئ نظرية "تسلسل تشومسكي" الخاصة بالتحليل اللغوي.

وفي المجال السياسي، اهتم تشومسكي مبكرا بالفلسفة الفوضوية وتوسع في انتقاد الرأسمالية الليبرالية والدعاية في وسائل الإعلام، إضافة إلى السياسة الخارجية الأميركية، ولذلك فإنه لا يتردد في وصف نفسه "بالنقابي الفوضوي، والليبرالي الاشتراكي".

ساند حركة الطلاب الاحتجاجية عام 1968، واعتقل عدة مرات، حيث أدرجه الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون ضمن لائحة "أعداء البلاد"، كما اشتهر عام 1967 بمعارضته التورط العسكري الأميركي في فيتنام من خلال مقالته "مسؤولية المثقفين"، فصُنف ضمن "اليسار الجديد".

ويرى تشومسكي أن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 اشتهرت فقط لأنها فعل خارجي ضد الغرب، مشيرا إلى أنه لا أحد يتذكر أن هناك "11 سبتمبر/أيلول" وقعت عام 1973، حين رعت الولايات المتحدة انقلابا دمويا في تشيلي.

عارض الغزو الأميركي البريطاني للعراق عام 2003، وقال فيما بعد إن ذلك الغزو هو الذي خلق البيئة المناسبة لنشأة تنظيم الدولة الإسلامية، بسبب ما خلفه من تدمير للمجتمع العراقي وإرساء للطائفية فيه.

ويقول إن الولايات المتحدة تخشى قيام أية ديمقراطية حقيقية في المنطقة العربية، خاصة مع اندلاع ثورات الربيع العربي وتداعي قوى هيمنتها على العالم.

زار تشومسكي قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2012، تضامنا مع أهله المحاصرين، وهو يؤكد على الدوام أن إسرائيل تنتهج سياسات من شأنها زيادة المخاطر المحدقة بها إلى أقصى حد، "فهي سياسات تختار التوسع على حساب الأمن، وتقود إلى انحطاطها الأخلاقي وعزلتها ونزع الشرعية عنها، الأمر الذي سيؤدي إلى دمارها في نهاية المطاف، وهذا أمر غير مستحيل".

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية