شعار قسم ميدان

عصر الإنسان الممتلئ.. هل أصبحت السمنة وباء عالميا؟

midan - fat

تتربع ست دول عربية على قائمة الدول العشر الأكثر بدانة في العالم، فتأتي الكويت أولا، حيث يعاني 42.8% من السكان من فرط الوزن، تليها السعودية بنسبة 35.2%، ثم مصر بنسبة 34.6%، ثم الأردن 34.3%، تليها الإمارات العربية المتحدة 33.7%، ثم قطر في المرتبة الثامنة بنسبة 33.1%، ورغم ضخامة المشكلة التي نواجهها في العالم العربي فإننا لا نجد الكثير من الكتابة حول تلك القضية المهمة.

 

لذلك، سوف يكون هذا التقرير بجزئيه عرضا لكتاب مهم بعنوان "قضايا السمنة: بين علم الاجتماع والعلوم الأخرى" والصادر مترجما للعربية في 2015 من المركز القومي للترجمة – مصر. الكتاب من تحرير جينا تشيليا اختصاصي الحميات والمحاضر بجامعة روبرت جوردن في أبردين وألكساندرا جونسون أحد كبار العلماء في قسم التمثيل الغذائي والسمنة المفرطة بنفس الجامعة، وتنبع أهمية الكتاب من بساطته وتنوعه، فهو يتنقل بين عدة موضوعات مهمة متعددة النطاقات بين الاجتماع، والطب، والتكنولوجيا المتعلقة بالسمنة، لها علاقة أساسية بتلك القضية المهمة يمكن لكل منها أن يكون مفتاحا لكي توسّع اطلاعك فيما بعد.

 

علم اجتماع السمنة!

لنبدأ بتساؤل مهم: هل يمكننا إلقاء جزء من اللوم على وسائل الإعلام فيما يتعلق بمشكلات النحافة/البدانة؟ حيث تفتح محاولاتنا للإجابة عن هذا التساؤل بابا واسعا أمام فهمنا لتأثير الإعلام في قضايا السمنة، ويبدو أن للإعلام تأثيرا قويا بالفعل، خذ مثلا تطور ما يعنيه اصطلاح "الجسم المثالي" للجمهور بتطور ظهور نجمات السينما بداية من عشرينيات القرن الفائت مرورا بما نسميه "جسم الساعة الرملية" -مارلين مونرو- حتى نصل في أواخر نفس القرن إلى عارضات الأزياء اللاتي بالغن في النحافة حتى تمت تسمية هذا النوع من النحافة بـ "أناقة الهيروين"، حيث يشبهن متعاطي الهيروين بأجسادهن النحيفة للغاية وبشرتهن الشاحبة والشعر المجعد.

الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات متقدمة اقتصاديا أكثر عرضة للسمنة دون غيرهم في الدول النامية، فمشكلة "الجوع" في البلاد الفقيرة تقابلها مشكلة "زيادة الوزن" في الدول الغنية
الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات متقدمة اقتصاديا أكثر عرضة للسمنة دون غيرهم في الدول النامية، فمشكلة "الجوع" في البلاد الفقيرة تقابلها مشكلة "زيادة الوزن" في الدول الغنية

لتأكيد دور الإعلام يمكن أن نضرب مثالا بجزيرة فيجي، حيث دخل التلفزيون الأميركي هناك سنة 1995، قبل تلك الفترة كانت تقاليد أهل الجزيرة تُفضل النساء كبيرات الحجم حيث يعد ذلك دليلا على الصحة الجيدة، إلا أنه وبعد دخول برامج الحميات الغذائية إلى الجزيرة وبحلول عام 1998 كانت نسبة 11% من النساء بها يقمن بعمليات تقيؤ ذاتي من أجل خفض الوزن، وبدأ 69% من النساء هناك في اتباع حميات غذائية، واعتبرت 74% منهن نفسها "سمينة جدا".

 

في الحقيقة تحظى النحافة بتمثيل عال في المسلسلات التلفزيونية بفارق حوالي 27% عن الوضع الطبيعي للمجتمع، يمكن فهم هذا في إطار رغبة السينما/التلفزيون في إظهار ما يُعتبر أنه "الجيد" والمبهر، لكن المشكلة الأكبر تظهر دائما في تنميط الأشخاص السِمان حينما يلعبون دائما نفس الأدوار التي ترتبط بالكسل، وعدم القدرة على السيطرة على الذات، والشخصية المُنقادة، مثل الطهاة، الممرضات أو خدم المنازل، وفي أدوار ثانوية دائما.

 

هنا يظهر تأكيد تلفزيوني على ما نسمّيه "وصمة البدانة"، وهي التقليل من شأن شخص ما بسبب وزنه، فيتلقى العديد من التعليقات السلبية والساخرة ويتم تهميشه -النساء بشكل أكبر وأكثر وضوحا من الرجال- في أكثر المسلسلات والبرامج شعبية بين الشباب والمراهقين، وهذا واضح بدرجة -ربما- أكبر في الوطن العربي، وفي المقابل نجد أن هناك نوعا من إلصاق كل الصفات الإيجابية عموما بالنحفاء ومتوسطي الوزن.

 

من جانب آخر تتدخل الأخبار، وبرامج "ما ينبغي وما لا ينبغي ارتداؤه" لتحديد شكل نمطي واحد للمواطن العادي يقبله المجتمع ويقول له: إذا أصبحت بهذا الشكل سوف تكون أكثر ثقة في ذاتك وأكثر نجاحا في حياتك المهنية. يتدخل كل ذلك لإعطاء صور نمطية عن المواطن السمين ترفع من قدر المشكلات التي يواجهها بجانب المشكلات الصحية الموجودة أصلا، في تلك النقطة يمكن أن نستكمل الأسئلة فنقول: لماذا نعاني من السمنة إلى هذا الحد؟

السمنة

هناك في الحقيقة بعض الأسباب الاجتماعية ذات العلاقة بما نسمّيه "وباء السمنة"، وتجدر الإشارة هنا إلى نقطتين غاية في الأهمية، الأولى هي أهمية اعتبار السمنة مرضا اجتماعيا يحتاج إلى بحث مطول من وجهة النظر تلك بجانب كونه مرضا طبيا، والثانية ذات علاقة بتوضيح مدى تعقد قضية السمنة، دعنا نتأمل مثلا الأسباب الثقافية ذات العلاقة بهذا المرض، فهؤلاء الذين يعيشون في مجتمعات متقدمة اقتصاديا أكثر عرضة للسمنة دون غيرهم في الدول النامية، فمشكلة "الجوع" في البلاد الفقيرة تقابلها مشكلة "زيادة الوزن" في الدول الغنية.

 

هنا يمكن القول إن أحد الأسباب في ذلك -ربما- هي ذات علاقة بمجموعة التغيرات الاجتماعية التي حدثت أثناء تحول الدول من تقليدية إلى حديثة، التحول الذي ربما يتضمن انتقالا من استخدام القوى العضلية إلى قوة الآلة، الأمر الذي ربما ساهم في زيادة الوزن. لذلك، تحتاج ظاهرة السمنة -ربما بشكل أكبر- إلى دراسات ثقافية موسعة تستهدف التطور التاريخي لحالات السمنة وعلاقاتها بالتغيرات الثقافية في المجتمعات وتأثير كل ذلك على تشكيل المواطن لمفهومه عن ذاته، فبجانب الدراسة البيولوجية هناك معايير عدة نحتاج أن نتأملها من أجل إيجاد حلول.

 

خذ مثلا علاقة السمنة بالنوع، فالاهتمام ينصب في المجتمع على شكل ووزن المرأة مما يرفع من انتشار "وصمة البدانة" بين النساء بشكل أكبر، أضف متغيرا آخر وهو العمر، حيث تشير المرحلة العمرية للشخص إلى الأدوار الاجتماعية الممكنة له، ويرتبط وزنه بتلك الأدوار، أضف لذلك العرق، وارتفاع نسب السمنة في الأقليات، ارتفاع نسبة السمنة في مهن وحرف معيّنة دون غيرها، حجم الأسرة، نوع التعليم، الكثافة السكانية، المنطقة التي تسكن فيها، يوضح مات لنا أن متغيرات قد تبدو بديهية ولا علاقة لها بالأمر هي ربما واحدة من أكبر أسباب الإصابة بالسمنة، لكننا أيضا في حاجة إلى فهم السمنة بمعايير علمية،  حيث نحتاج قبل كل شيء أن نسأل مثلا: ما الدهون؟ وكيف نقيسها؟ وكيف يمكن أن نستخدم معرفتنا بتركيب الجسم في حل المشكلات المتعلقة بالسمنة؟

 

جسدك كآلة أيضية

دعنا هنا نبدأ بالقول إن هوليوود ربما قد جعلتنا نعتقد أنه من الطبيعي أن يكون الفرد نحيفا مثل نجومها، في حين أن الواقع يقول إن الدهون -مثلا- هي بدرجة ما مكون ضروري لأجسادنا، فهي بمنزلة عازل كهربائي للجهاز العصبي يمتص الصدمات المادية في أخمص القدمين، وهي منتج الهرمونات الأساسية وغيرها من المواد الكيميائية في الجسم، ومستودع لتخزين الطاقة الفائضة.

إن علاج حالات السمنة أو تجنب الوقوع في أسرها ربما يبدأ بقدرتنا على فهم أجسامنا بشكل صحيح، وفهم تحولات الطاقة فيها
إن علاج حالات السمنة أو تجنب الوقوع في أسرها ربما يبدأ بقدرتنا على فهم أجسامنا بشكل صحيح، وفهم تحولات الطاقة فيها

إن وجود الدهون بنسبة 2% فقط بالجسم ينبئ بوجود حالة مرضية، بينما من الطبيعي لذكر وزنه 70 كيلوجراما أن يحتوي على 3 كيلوجرامات من الدهون الأساسية و9 كيلوجرامات من الدهون الزائدة والتي من شأنها الحفاظ على حياة الفرد لمدة ثلاثة أسابيع، بينما تحتاج السيدات لنسب أكبر من الدهون من أجل دعم الصحة الإنجابية، لكن المشكلة تظهر حينما يظن البعض أنه حينما يخسر وزنا فهو يخسر دهونا فقط، في الواقع فإن تركيب الجسم المعقد وفيسيولوجيا تحولات الدهون فيه تعلمنا أنه حينما يخسر شخص بوزن 80 كيلوجراما 10 كيلوجرامات من وزنه فإن 5 كيلوجرامات منهم تكون من الدهون و5 كيلوجرامات أخرى من الأنسجة الرخوة الخالية من الدهون، يقدم لنا ذلك فكرة تستحق التأمل حول برامج الحمية الغذائية المنتشرة والتي غالبا لا يلجأ مصمموها والخاضعون لها لمتخصصين.

 

لشرح مدى تعقد الوضع دعنا نتأمل آليات قياس مستوى السمنة في شخص ما، والتي تتفق جميعها في أنها ربما غير دقيقة بالشكل الكافي، خذ مثلا مؤشر كتلة الجسم الشهير (Body mass index)، وهو يقيس نسبة الطول إلى الوزن، لكننا مع بعض التأمل نجد اختلافات واسعة النطاق في التركيب الدهني وغير الدهني عند فئات مختلفة من الناس، سواء في العرق، النوع، أو درجة تمثيل الدهون العامة في أجسام كل منهم حسب طبيعة أجسامهم التي شكّلتها مهنهم وممارساتهم الرياضية بتعدد أنواعها والتي تضيف المزيد من العضلات إلى الوزن. نصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن جميع الأساليب لها حدودها، والكثير منها -مما لا نعرفه في عالم التواصل الاجتماعي وصفحات "خسس نفسك"- لا يتم تقديره بشكل جيد، في تلك المرحلة من الكتاب سوف نحتاج أن نسأل:

 

ما الذي يتسبب في السمنة بالمقام الأول؟ دعنا نتعامل في تلك النقطة مع الجسد البشري كآلة أيضية، لكي يساعدنا على إدارة توازنات الطاقة لدينا بين الطاقة الداخلة والمستهلكة، فما كان الإنسان يحصل عليه من غذاء في فترات ما قبل التاريخ صنع آلة أيضية تتعامل فقط مع غذاء محدد، هنا يرى ريتشارد باتلر متخصص نظم التمثيل الغذائي بنفس الجامعة أن المشكلة واضحة للغاية، فأنت ببساطة ما تأكله، والسبب الرئيس في ظهور السمنة هو أن البشر يعيشون حاليا في زمن دائم الوفرة، به منتجات جديدة لم تتطور آلاتنا الأيضية خلال ثلاثة ملايين ونيف من الأعوام لتتعامل معها.

قياس الوزن - الميزان - السمنة - التنحيف

ما الحل إذن؟ أن يتوافق نظامنا الغذائي مع آلاتنا الأيضية التي تكيفت مع نظام غذائي من العصر الحجري القديم، لحوم خالية من الدهون، أسماك، خضروات، مكسّرات، جذور وفاكهة، في المقابل نجد أن 70% من سكان شمال أوروبا مثلا يستهلكون منتجات الألبان، الزيوت، السكر المكرر، والحبوب بشكل أكبر، وهو ما يجب تجنبه، ببساطة لأن آلاتنا الأيضية لم تتطور لتعامل مع تلك المنتجات.

 

المشكلة إذن -كما نفهم هنا- ليست فقط في كم الطعام، وإنما في كيفية تعاملنا مع الطاقة التي تدخل أجسامنا وكيفية تخزينها، يشبه الأمر في بعض الأحيان أن تمتلك الكثير من الأموال -الطاقة التي تحصل عليها- لكنها جميعا موجودة في البنك، لن تفيدك إذا أردت حالا شراء فنجان قهوة، إنها بالفعل موجودة لكنها ليست تحت يديك، كذلك يمكن لنا التعامل مع المخزونات طويلة وقصيرة الأمد الموجودة بجسمك.

 

هنا نستنتج نقطة غاية في الأهمية، وهي أن علاج حالات السمنة أو تجنب الوقوع في أسرها ربما يبدأ بقدرتنا على فهم أجسامنا بشكل صحيح، أقصد فهم تحولات الطاقة فيها، فحينما نسأل الأسئلة الصحيحة: كم كمية الوقود التي تحتاجها آلة الأيض الخاصة بي؟ كم كمية الوقود التي تحتاجها لكي تمشي 10 كيلومترات؟ كيف تعرف ما يجب أن تأكل لتحقيق النجاح في مباراة تنس؟ كم كمية الوقود في الأنواع المختلفة من الغذاء؟ ما حالة مخزون الطاقة الخاص بك؟ هنا يتمكن الفرد من إدراك المشكلات الرئيسة التي تواجهه.

إن الأرقام السنوية ذات العلاقة بارتفاع نسب الإصابة بالسمنة تنذر بخطر شديد قادم، وبجيل يموت فيه الأطفال قبل الكبار لانتشار سمنة الأطفال
إن الأرقام السنوية ذات العلاقة بارتفاع نسب الإصابة بالسمنة تنذر بخطر شديد قادم، وبجيل يموت فيه الأطفال قبل الكبار لانتشار سمنة الأطفال

لذلك فإن تطبيقات الهواتف النقّالة والحواسيب اللوحية والمكتبية التي تعطيها بياناتك الشخصية ونظام أكلك فتعدد لك آليات التعامل مع ذلك كله يجب أن يتم نشرها بين العامة من أجل تعامل صحيح وأخير مع هذا الوباء، ذلك ربما هو أفضل حل ممكن لمواجهة السمنة، وهذا هو ما تحتاج منظمة الصحة العالمية مثلا -وغيرها- أن تدفع النشاطات الداعمة باتجاهه.

 

كما يظهر لنا، فإن قضية السمنة هي نطاق غاية في التعقيد يتطلب تداخلا بين مناهج معرفية مختلفة لمحاولة فهمه والسيطرة عليه، كذلك يتطلب منّا اتخاذ قدر جيد من الحذر تجاه كل ذلك الكم الضخم المعروض أمامنا من برامج الحمية الغذائية والتي تنتشر في كل مكان بحياتنا، تلفزيون، إنترنت ووسائل تواصل، وحتى في صالات الرياضة، لكننا على المستوى الجمعي نعرف أن هناك مشكلة ضخمة.

 

إن الأرقام السنوية ذات العلاقة بارتفاع نسب الإصابة بالسمنة تنذر بخطر شديد قادم، بل إن لجنة الصحة في مجلس العموم البريطاني أشارت في تقريرها سنة 2003 قائلة إنه "لو تحولّت السيناريوهات الأسوأ الخاصة بالسمنة لتصبح حقيقة فإن منظر هؤلاء مبتوري الأطراف سيصبح مشهدا مألوفا في شوارع بريطانيا، سوف يكون هناك الكثير من المكفوفين، وسوف يكون هناك طلب كبير على غسيل الكلى… وسوف يكون هذا هو الجيل الأول حيث يموت الأطفال قبل آبائهم نتيجة لسمنة الطفولة"!

المصدر : الجزيرة