"الجريشة" تستعيد مكانها على المائدة الرمضانية في غزة

متطوعون يساعدون وليد الحطاب في طبخ الجريشة (الجزيرة)

عندما خاض وليد الحطاب تجربته الأولى في طبخ "الجريشة" وتوزيعها على فقراء منطقته ومحبيها في حي الشجاعية شرق مدينة غزة في شهر رمضان عام 2018، لم يكن يتوقع الاستحسان الكبير والطلب المتزايد على هذه "الأكلة" التقليدية القديمة التي تجهلها الأجيال الجديدة.

ومنذ ذلك الحين، وللعام الرابع على التوالي، يبدأ "أبو يوسف الحطاب" -كما يناديه سكان منطقته- قبيل حلول شهر رمضان المبارك بأيام بتجهيز معداته لطبخ "الجريشة" يوميا، ويقول للجزيرة نت: "هذه أكلة الآباء والأجداد، وأوصي أبنائي من بعدي بالحفاظ على هذه السنة الحسنة".

وتصنع "الجريشة" من القمح البلدي المجروش المحمص مع إضافة الملح والبهارات، وتوضع في وعاء على نار هادئة مع التحريك جيدا وبشكل مستمر لجميع المكونات حتى يتماسك قوامها، وتقدم عادة مع لحم الضأن المطبوخ باللبن.

إقبال كبير على الجريشة التي يطبخها وليد الحطاب (الجزيرة)

هاجس الصوت

في أحد أيام العشر الأواخر من رمضان قبل 3 أعوام، كان الحطاب (59 عاما) جالسا أمام منزله حين أتاه ما يصفه بـ"الهاجس"، صوت ينبع من داخله بأن بادر بعمل شيء يربطك بهذا الشهر الكريم، ويكون رحمة عن أمواتك وذكرى طيبة من بعدك.

ويقول للجزيرة نت: "انطلقت فورا واستخدمت طنجرة (قدرا) صغيرة من أواني البيت، وأشعلت نارا في الشارع، وإذا بي من غير تخطيط أطبخ الجريشة".

طبخ الجريشة يحتاج إلى تحريك جيد ومستمر حتى يتماسك قوامها (الجزيرة)

ويضيف "كانت كمية قليلة لا تتعدى 3 كيلوغرامات من القمح، وكنت أعدها ولا أعلم كيف سأوزعها، أو إن كانت ستنال رضا الناس أم لا، ولكنني فوجئت بإقبال كبير فور الانتهاء منها، وكانت كافية في ذلك الحين لإطعام 10 عائلات".

وقال: "الجريشة أكلة توارثها آباؤنا وأجدادنا، ويروى أنها تعود لزمن سيدنا إبراهيم عليه السلام، ولكنها اندثرت شيئا فشيئا مع مرور الزمن، حتى أن غالبية جيل اليوم لا يعرفونها مطلقا، لكنني فوجئت بالإقبال الكبير عليها، وعزمت على إحيائها، وأردت أن تصبح عادة وسنة رمضانية حسنة، وسأحافظ عليها ما حييت".

الحطاب فوجئ بالإقبال الكبير على الجريشة في غزة (الجزيرة)

استعداد مبكر

في رمضان التالي كان الحطاب أكثر استعدادا، حيث وفر قدرا كبيرة تستوعب كمية تكفي لإطعام 100 أسرة، وزادت في العام الماضي إلى 220 أسرة، إضافة إلى حرصه على إيصال وجبات إلى 100 شخص في دار المسنين تكفيهم لوجبتي الإفطار والسحور، وهو يتحمل كافة التكاليف من ماله الخاص طلبا "للثواب من الله"، كما يقول.

وتدفع كلمات المدح والثناء واستحسان ما يقدمه، الحطاب إلى تطوير فكرته الخيرية، ويقول: "شعرت بسعادة غامرة عندما حققت لأحد جيراني من كبار السن ما يتمنى، فقد كان في شوق لتذوق الجريشة منذ زمن، ولكن أهل بيته لا يجيدون صنعها".

ويروي الحطاب عن ذلك الرجل أن الجريشة كانت تُطبخ قبل النكبة عام 1948، واستمرت بعدها لسنوات طبقا رئيسيا على المائدة الرمضانية، قبل أن تندثر وتحل محلها أطباق غريبة عن المطبخ الفلسطيني التقليدي.

إرث الأجداد

ولأنها "أكلة من زمن الأجداد"، يقول الحطاب إنه حريص على إحيائها من جديد، وتوريث طبخها لأبنائه وبناته، وتعريف الجيل الشاب بها، وجبة مغذية ومريحة للمعدة، وغنية بكثير من العناصر المفيدة للصائمين في رمضان.

وللحطاب 3 أبناء يشاركونه في مهام طبخ الجريشة وتوزيعها على الفقراء والراغبين من سكان الحي، وهم يعملون جميعا من بعد العصر يوميا وحتى قبيل موعد الإفطار كخلية نحل.

كما تنشغل ابنتاه داخل المنزل في "غربلة" القمح وتنظيفه من الشوائب، بينما يتحمل نجله محمد وبمساعدة شبان متطوعين مسؤولية إيقاد النار بحطب من خشب الأشجار الذي يجمع الحطاب كميات كبيرة منه على مدى العام لاستخدامها في رمضان، ويضعون عليها قدر الطبخ ويتناوبون على تحريك الجريشة حتى تنضج ثم يوزعونها على المنتظرين.

وقد انتشرت في السنوات القليلة الماضية "تكيات خيرية" في مناطق مختلفة من قطاع غزة، تعد أصنافا تقليدية من الطعام الفلسطيني، وتوزعه على الفقراء، حيث تظهر بيانات محلية ودولية أن 80% من الغزيين يعتمدون على المساعدات الإنسانية، في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة.

المصدر : الجزيرة