قهوة بدران بالخليل تخنق الاستيطان.. ملتقى سياسي واجتماعي عمره 150 سنة

مقهى بدران من أقدم المواقع التاريخية في البلدة القديمة بالخليل، كانت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة "يونسكو" قررت عام 2017 إدراج البلدة القديمة، إضافة إلى المسجد الإبراهيمي، على لائحة التراث العالمي.

تنوعت استخدامات "قهوة بدران" على مدى أكثر من 15 عقدا، بين السياسة وشؤون المجتمع والترفيه، لكنها اليوم تكاد تلفظ أنفاسها نتيجة المشاريع الاستيطانية في قلب مدينة الخليل جنوبي الضفة الغربية.

يضفي وجود كبار السن في المقهى بالزي الفلسطيني التقليدي رونقا خاصا على المكان، وباستحضار ذكرياتهم يشعر الزائر بقيمتها وأهميتها التاريخية.

مقهى بدران بفلسطين.. ملتقى سياسي واجتماعي يخنقه الاستيطان
"قهوة بدران" في الخليل بفلسطين بناء معماري مملوكي تميزه الأقواس وتعلوها مساكن فلسطينية تاريخية (الأناضول)

القيمة التاريخية لقهوة بدران

وبناء المقهى مملوكي (1250-1517م) لا تزيد مساحته على 50 مترا مربعا، وهو ذو باب واحد يؤدي إلى سوق القزازين (بائعي الزجاج)، أما سقفه من الداخل فحجارة بارزة جرت صيانتها مؤخرا من قبل لجنة إعمار الخليل (حكومية).

وكما البناء المعماري المملوكي، تُميّز الأقواس بناء المقهى، وتعلوها مساكن فلسطينية لا تقل قيمة تاريخية عن القهوة، وإن كانت أحدث بناء.

ويحافظ المقهى على طاولات قديمة، وكراسي ذات أرجل خشبية، تصل بينها خيوط بلاستيكية، يعود عمر بعضها إلى حوالي 60 عاما.

مقهى بدران بفلسطين.. ملتقى سياسي واجتماعي يخنقه الاستيطان
راديو قديم من موجودات قهوة بدران في الخليل بفلسطين (الأناضول)

قهوة تقليدية

في صدر المقهى، يقف محمد التلبيشي (66 عاما) خلف طاولته يلبي طلبات الزبائن.

يغلب على رواد المقهى كبار السن ومتقاعدون يحضرون للعب الورق وقضاء الوقت، حتى حلول أذان الظهر لأداء الصلاة في المسجد الإبراهيمي على بعد مئات الأمتار.

بضاعة المقهى: قليل من الأرجيلة، إضافة إلى الشاي والقهوة اللذين يقدمان في كاسات شفافة تقليدية: صغيرة للقهوة، وأكبر قليلا للشاي مع النعناع.

وعلى طريقته المشابهة للشاي التركي، يضع التلبيشي السكر، ويصب عليه قليلا من الشاي المغلي، ثم يضيف إليه الماء الساخن.

وبمحاذاة المقهى يقع مسجد القزازين، ومؤرخ على لافتته السنة الهجرية 1040، لكن تقديرات باحثين تشير إلى أن بناء المقهى والمسجد كان قبل ذلك بكثير.

وكباقي المباني من حولها، تميَّز الأقواس المقهى، وتحيطه القباب والقناطر.

ولا يُعرَف بالتحديد الوقت الذي استخدم فيه المكان مقهى، لكن محمد التلبيشي الذي يدير المكان منذ نحو 23 عاما، ينقل عن أسلافه وزبائنه الذين يرتادون المقهى أنه كذلك منذ نحو 150 إلى 200 عام.

مقهى بدران بفلسطين.. ملتقى سياسي واجتماعي يخنقه الاستيطان
محمد التلبيشي يقف خلف طاولته يلبي طلبات رواد قهوة بدران (الأناضول)

شخصيات بارزة

اليوم يفتقد التلبيشي عشرات الزبائن الذين فارقوا الحياة وكانوا من رواد المقهى. ويقول إن من زواره سابقا كان ملك الأردن الراحل عبد الله بن الحسين (1882-1951)، والقيادي الفلسطيني الحاج أمين الحسيني (1895-1975).

كما كان المكان مجلسا لاجتماع سكان الخليل، وكان "أهالي الحي والجيران يجتمعون عند مرض أحدهم أو لعطوة (تقليد لحل الخلافات)، أو فرح أو غيره"، بحسب التلبيشي.

ومرّ التلبيشي بظروف صعبة وقاسية حين اضطر لإغلاقه نحو عام ونصف نتيجة المضايقات الإسرائيلية بعد عام 2000، ومنها اقتحام المقهى وتوقيف الزبائن حتى المسنين منهم، والتدقيق في هوياتهم وإخراجهم منه.

ويضيف أن عدد زبائنه قليل، ويعزو ذلك إلى القيود الإسرائيلية التي تحد من وصول الفلسطينيين إلى المنطقة المحاطة بالنقاط العسكرية والبؤر الاستيطانية.

ولا يتجاوز دخل التلبيشي من القهوة حاجز 6 دولارات في بعض الأيام، لكنه يعتبر وجوده ركيزة لحماية المنطقة من أطماع الاحتلال وخططه التهويدية.

وساهمت الإجراءات المرافقة لانتشار جائحة كورونا منذ مارس/آذار 2020 في غياب السياح الأجانب الذين كانوا يستمتعون بالجلوس في المقهى.

مقهى بدران بفلسطين.. ملتقى سياسي واجتماعي يخنقه الاستيطان
قهوة بدران بمثابة مجلس لاجتماع سكان الخليل (الأناضول)

المقهى لحل المشاكل

إلى جوار المقهى يملك الثمانيني عمران مَرَقة محلا لبيع المطرزات والأثواب التقليدية، وقد عاصر المقهى منذ ترك المدرسة، واتجه إلى التجارة مع والده عام 1950.

يقول مرقة إن عمر المقهى بين 150 و200 عام، وقد تَغيّر أصحابها، إذ كان يملكها منير بدران من سكان الخليل حتى ما قبل النكبة عام 1948.

ويقول مرقة إن المقهى كان تجمعا لكبار السن ووجهاء الخليل للتداول حول مختلف المواضيع، إضافة إلى العاملين الذين يتطلب عملهم الوصول إلى تلك المنطقة لغرض جباية الديون أو غيره.

ويتابع: "كان يجمع الختيارية (كبار السن). يحُطّوا كراسي ويقعدوا، (وأيضا) تاعون (موظفو) تحصيل الأموال للبلدية والحكومة".

لم يكن المقهى مكانا لتحصيل الديون فقط، بحسب مرقة، بل مكانا تجتمع فيه كبار شخصيات المدينة لحل مشاكلها، "إذا صار شيء كانوا ييجوا (يحضرون) ويمشون في مشاكل البلد، كانت تنحل على القهوة" وليست للعِب الورق أو تضيع الوقت، كما هو الحال اليوم.

وأشار إلى أن المقهى كان يستقبل الضيوف من مسؤولين وسياح وزوار وتجار وغيرهم.

مقهى بدران بفلسطين.. ملتقى سياسي واجتماعي يخنقه الاستيطان
طريقة تقديم الشاي على صينية نحاسية في قهوة بدران بفلسطين (الأناضول)

ندوة وصفقات تجارية

تقول لجنة إعمار الخليل (حكومية) في منشوراتها إن المقهى "من أقدم المواقع التاريخية في البلدة القديمة".

وتضيف أنه ليس "مكانا مقتصرا على جلوس الرجال فيه لشرب القهوة والشاي والتسلية، وإنما كان دار ندوة لكبار السن ولزعماء العائلات من مدينة الخليل وكل قراها وعشائرها".

وكان المقهى -وفق اللجنة- يشهد عقد الصفقات التجارية وتتداول فيه أخبار السياسة، فيستمع رواده للمذياع ويتناقشون ويحللون ما يدور حولهم من أمور سياسية.

كما كان المقهى دار فكر ثقافية، تقام فيه أمسيات شعرية ونثرية ومسرحا للحكواتي، وفق اللجنة.

وبحسب اتفاق الخليل عام 1997 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، قُسمت مدينة الخليل إلى منطقتين: الأولى "خ1" وتخضع لسيطرة فلسطينية، والثانية "خ2" وتخضع لسيطرة إسرائيلية، وتُقدر الأخيرة بنحو 20% من مساحة المدينة، وتقع فيها البلدة القديمة والمسجد الإبراهيمي.

مقهى بدران بفلسطين.. ملتقى سياسي واجتماعي يخنقه الاستيطان
قهوة بدران تقع في البلدة القديمة في الخليل وقد أدرجتها "يونسكو" على قائمة التراث العالمي (الأناضول)

الخليل على قائمة "اليونسكو"

وفي يوليو/تموز 2017، قررت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة "يونسكو" إدراج البلدة القديمة في الخليل، إضافة إلى المسجد الإبراهيمي، على لائحة التراث العالمي.

ووفق معطيات تجمع "شباب ضد الاستيطان" غير الحكومي، تنشر إسرائيل مئات الجنود في أكثر من 120 حاجزا عسكريا ملموسا أو مأهولا في البلدة القديمة.

​​​​​​​ووفق ذات المصدر، يوفر جيش الاحتلال كل سبل الراحة لنحو 800 مستوطن في 5 بؤر استيطانية بالبلدة القديمة، في الوقت الذي يغلق فيه نحو 1800 محل تجاري فلسطيني.

المصدر : وكالة الأناضول