"لامعة" وأخواتها بالريف التونسي.. عمل شاقّ وأجر زهيد

منيرة الحجلاوي_يوم اخر من العمل في جمع الخضر الموسمية_تونس-سيدي بوزيد
لامعة ورفيقاتها ويوم آخر من العمل في جمع الخضر الموسمية بسيدي بوزيد (الجزيرة)

منيرة الحجلاوي-تونس

مع لفحات البرد الأولى لفجر بلدة بوشيحة التي تقع وسط تونس، تحاول لامعة السّليمي أن تحجز مكانا لها في صندوق الشاحنة الخفيفة من بين 35 امرأة يقلّهن سمسار (وسيط) إلى إحدى المزارع للعمل بأجر يومي زهيد.

تقلّ شاحنة "الأيسوزو" الفلاحية العاملات في صندوقها الخلفي متراصّات مع بعضهن بعضا دون أدنى مقومات السلامة. يُجبرن أحيانا على الوقوف على قدم واحدة حتى يرفعهن الصندوق جميعهن، مما يجعلهن مهدّدات كل لحظة بالسقوط.

‪(الجزيرة)‬ لامعة وصديقاتها متراصات في الصندوق الخلفي للشاحنة مع بداية الفجر بسيدي بوزيد بتونس 
‪(الجزيرة)‬ لامعة وصديقاتها متراصات في الصندوق الخلفي للشاحنة مع بداية الفجر بسيدي بوزيد بتونس 

أشغال شاقة
تصل الشاحنة إلى محطتها النهائية، فتسارع النسوة إلى القفز منها الواحدة تلو الأخرى، وينطلقن بأياد تكسوها الجروح في جمع أكوام من الحطب وجرّها على الأكتاف لمسافات طويلة.

كخلية النحل التي لا تهدأ، تظل لامعة (45 عاما) ورفيقاتها يعملن منحنيات لساعات طوال حتى غروب شمس يومهن، تارة يجمعن الخضار والمحاصيل الموسمية ويقطفن الزيتون، وطورا يحملن معاول للحفر وغرس الأشجار وينثرن الأسمدة.

لا تُثني لسعات البرد القاسية أو أشعة الشمس الحارقة، ولا الغبار ولا حتى آلام الظهر القاتلة، والأرض الموحلة، لامعة وصديقاتها عن القيام بوظائفهن، فهن يضعن حاجة عائلاتهن نصب أعينهن.

عشر ساعات من العمل المتواصل تتخلّله نصف ساعة استراحة وغالبا أقل. ظروف لم تُفقد لامعة روح دعابتها، إذ تقول مبتسمة "الرجل في الأرياف لا يرضى بهذا العمل الشاقّ وأجره الزهيد الذي لا يتجاوز 10 دنانير (قرابة أربعة دولارات)".
‪لامعة وصديقاتها في انتظار شاحنة لنقلهن إلى مكان العمل‬ (الجزيرة)
‪لامعة وصديقاتها في انتظار شاحنة لنقلهن إلى مكان العمل‬ (الجزيرة)

قسوة المعاناة
بعينين دامعتين وشعور بالضّيم، تروي لامعة للجزيرة نت كيف تعرضت لحادث عمل أليم عام 2016، لم تتمكن لقلة حيلتها من أخذ حقها ولا الحصول على تعويضات تضمد بها جراحها وتضع بها حدا للآلام التي ترافقها إلى اليوم.

بعد يوم شاقّ تعود لامعة أدراجها منهكة، فهي مع مرور الوقت لم تعد اسما على مسمى وأفل بريقها، تستتر في غرفتين وحيدتين شُيّدتا من حجر رفقة عائلتها المعدمة التي تقتات على منحة متواضعة تقدمها السلطات لها والتي لا تسدّ الرمق.

تبذل لامعة وصديقاتها بشكل يومي مجهودات كبيرة بين الحرث والحصاد والزّرع والقطف والجني، فلا تشتكين حتى وإن أردن ذلك، فمجرد الحديث عن معاناتهن يفقدهن مصدر رزقهن الوحيد الذي يتحكم فيه السمسار (الوسيط) ومشغّلهن.

بوجوه شاحبة من آثار قسوة الشتاء وحرّ الصيف وقبل انبلاج فجر كل يوم، تواصل صديقات لامعة التنقل من مزرعة إلى أخرى، لا يشغل بالهنّ سوى تحصيل قوت يومهن بسبب تدنّي وضعياتهن الاجتماعية وتحملهن مسؤوليات عائلاتهن.

معاناة الريفيات مع النقل العشوائي كانت نتائجها كارثية في بعض الأحيان، من بينها حادث المرور الذي وقع يوم 3 يونيو/حزيران 2015 بمحافظة سوسة بالساحل التونسي، وراحت ضحيته امرأتان إضافة إلى إصابة قرابة 20 أخريات جراء انقلاب الشاحنة الخفيفة التي كانت تقلّهن.

كما تكررت المأساة يوم 23 مارس/آذار 2017 بمعتمديّة المكناسي بمحافظة سيدي بوزيد بإصابة خمس عاملات في الفلاحة كن في طريقهن إلى إحدى المزارع، في حادث مرور خلف حينها 27 مصابا.

إستراتيجية وطنية
ومع استمرار معاناة نساء الوسط الريفي من الفقر والفاقة والحرمان، يُطرح التساؤل عن جدوى تدخل الدولة لوضع حد للأطراف التي تستغل هذه الفئة المهمشة.

في هذا الإطار، يوضح المسؤول عن برنامج دعم المساواة بين الرجل والمرأة بوزارة المرأة التونسية فيصل الصحراوي للجزيرة نت، أن الوزارة أعدّت إستراتيجية وطنية للتمكين الاقتصادي والاجتماعي لنساء المناطق الريفية للمدة بين عامي 2017 و2020.

ويضيف أن الوزارة تعمل مع الأطراف المعنية على ضمان ظروف العمل اللائق ووسائل النّقل المحمي والآمن لهذه الفئة الهامة من المجتمع والتي تقدر بـ500 ألف امرأة، وتيسير انتفاعهن بالتغطية الاجتماعية.
‪عاملات تونسيات وهن يجنين الزيتون في إحدى الضيعات‬ (الجزيرة)
‪عاملات تونسيات وهن يجنين الزيتون في إحدى الضيعات‬ (الجزيرة)

أمراض خطيرة
في المقابل، يؤكد رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلّم للجزيرة نت أن 64% من النّساء العاملات في الفلاحة لا يتمتّعن بالتغطية الاجتماعية ويشتغلن دون عقود عمل، إضافة إلى التمييز بينهن وبين الرجال في الأجور وعدد ساعات العمل.

من جانبها، ذكرت الكاتبة العامة للجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات نائلة الزّغلامي أن المعدل العام للأجر للريفيات يقدر بـ10 دنانير (حوالي 8 دولارات)، في حين يبلغ 15 دينارا للرجال (12 دولارا)، علما أن القانون التونسي حدد الأجر الأدنى للجنسين بـ12 دينارا (10 دولارات).

وتوضح للجزيرة نت أن 59% من نساء الوسط الريفي يعانين من مشاكل صحيّة خطيرة جراء ظروف العمل غير الإنسانية، علاوة على تعرض قرابة 33% منهن إلى شتى أنواع التحرش.

بين هذا وذاك، تنتظر لامعة والكثيرات تطبيق القانون على أرض الواقع، خاصة وأن مجلة الشّغل التونسية تحظُر أيّ شكل من أشكال التمييز بين الجنسين، من بينها اتفاقية المساواة في الأجور التي صدّقت عليها تونس ودخلت حيّز التنفيذ بتاريخ 23 مايو/أيار 1953.
المصدر : الجزيرة