شعار قسم ميدان

صراعات القوى الكبرى.. أين تقف إسرائيل في الشرق الأوسط؟

رأت الدول العربية في "إسرائيل" منذ تأسيسها حالة معادية لا يمكن التعايش معها في المنطقة، لكنّ هذه الرؤية تعرضت للخرق تدريجيا عبر علاقات واتصالات سرية، ثم جاء التحول الأساسي عبر اتفاقية السلام الموقعة في كامب ديفيد مع مصر عام 1978، ثم اتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994، سبقهما اتفاقية أوسلو بين الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، والتي تم استكمالها في اتفاقية أوسلو 2 (اتفاقية طابا) عام 1995. وفي عام 2002، قدمت السعودية "مبادرة السلام العربية" وتبنتها الدول العربية في اجتماع القمة المنعقد في بيروت، والتي تنص على اعتراف الدول العربية بدولة "إسرائيل" وتطبيع العلاقات معها مقابل إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وحل مشكلة اللاجئين والانسحاب الإسرائيلي من الجولان السوري المحتل.

وفي عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب"، دخلت العلاقات العربية-الإسرائيلية مرحلة جديدة، حيث أدى شعور عدم الاستقرار الداخلي لدى العديد من الأنظمة في المنطقة نتيجة تداعيات ثورات الربيع العربي بالإضافة لتنامي "التهديد الإيراني" إلى التسويق للعلاقات مع "إسرائيل" من زاوية المنافع الأمنية والاقتصادية المشتركة، وليس من زاوية "القضية الفلسطينية". ظهر هذا في "اتفاقيات أبراهام" مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، والتي استندت إلى حوافز أمنية ودبلوماسية واقتصادية أميركية للدول المطبعة دون ربط مسار التطبيع بالقضية الفلسطينية. من جانب واشنطن وتل أبيب، تأتي هذه الاتفاقيات ضمن مساعٍ لبناء نظام أمني إقليمي جديد تلعب فيه "إسرائيل" دور القيادة بحكم تفوقها التكنولوجي، وبما يسد فراغ تراجع الالتزام الأميركي تجاه المنطقة.

من السلام البارد إلى الاندماج الإقليمي

نظرا لفقدان دولة الاحتلال الإسرائيلي لعمق إستراتيجي، وتمركز أغلب مواطنيها والمراكز الصناعية فيها في منطقة ضيقة على السهل الساحلي المطل على البحر المتوسط، فقد أولت تل أبيب للجغرافيا أهمية كبيرة، حيث تتخوف من قدرة الصواريخ التي قد يطلقها خصومها على تعطيل الحياة اليومية، وإلحاق أضرار فادحة بالمنشآت والأصول الحيوية الإسرائيلية، فضلا عن عرقلة عملية تعبئة قوات الاحتياط في حالة اندلاع القتال. ومن ثم يسهم تطبيع العلاقات مع الدول العربية على النمط الذي أسست له "اتفاقات أبراهام" في تدشين تعاون أمني يسهم في تأمين الداخل الإسرائيلي من خلال دمجه في محيطه الإقليمي، وتوسيع نطاق قدرات الإنذار المبكر الإسرائيلية، وتعزيز حصار الجهات المناوئة لتل أبيب، بالإضافة إلى خلق روابط اقتصادية إستراتيجية تجعل من "الاستقرار" مصلحة متبادلة بين "إسرائيل" وجيرانها العرب.

ساعد نقل إدارة "ترامب" في يناير/كانون الثاني 2021 لإسرائيل إلى نطاق عمليات القيادة المركزية الأميركية (في الشرق الأوسط) بدلا من القيادة الأميركية الأوروبية، على تشجيع التشغيل البيني العسكري والتدريبات العسكرية بين "إسرائيل" ودول عربية حليفة لواشنطن، والتي بدأت في نوفمبر تشرين/الثاني 2021 بتدريب عسكري مشترك في البحر الأحمر جمع قوات بحرية من الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي والإمارات والبحرين. وفي يناير/كانون الثاني 2022 وقعت "إسرائيل" مذكرة تعاون أمني مع البحرين تضمنت إجراء تدريبات مشتركة وتعيين ضابط ارتباط في المنامة ليعمل أيضا ملحقا عسكريا إسرائيليا على مقربة من إيران. كما اتفقت "إسرائيل" مع المغرب في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على تعزيز التعاون العسكري الثنائي، وتأسيس لجنة عسكرية مشتركة.

عقب شن الحوثيين هجمات على الإمارات في أوائل العام الجاري، فضلا عن هجماتهم المتكررة في الداخل السعودي؛ طُرح تبادل المعلومات الاستخباراتية بشكل آني بين "إسرائيل" ودول الخليج إزاء تهديدات الطائرات بدون طيار والصواريخ، فضلا عن مناقشة إنشاء منظومة دفاع صاروخي إقليمي تشمل "إسرائيل" ودول الخليج. يستهدف هذا المشروع الذي بدأ الترويج له منذ حكومة "نتنياهو" أن تلعب "إسرائيل" دورا أمنيا جوهريا في المنطقة عبر تصدير منظوماتها الدفاعية للخليج، وعلى الرغم من التحديات التي تواجه هذا المشروع، فإن نشر بطاريات باتريوت الإسرائيلية في دول بالمنطقة -بينها الإمارات والبحرين- يعزز من تنامي الدور الأمني للاحتلال.

بعد هواجس أمنية وجيوسياسية أزعجت القاهرة عقب توقيع "اتفاقيات أبراهام"، تحاول مصر الآن تجنب التخلف عن ركب التكامل الإقليمي المتزايد لإسرائيل، فقد وصل تطور العلاقات مع القاهرة ذروته مع السماح للجيش الإسرائيلي بشن غارات في سيناء ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ثم الاتفاق على ربط حقل ليفاثان الإسرائيلي بوحدتَي إسالة الغاز بدمياط وإدكو؛ ما عزز تقاسم القاهرة وتل أبيب بصورة إستراتيجية بنية تحتية تصديرية رئيسية للغاز بالمنطقة، وطوّر العلاقة بين البلدين إلى مستوى غير مسبوق من الشراكة.

من جانبها، تتمسك السعودية -حتى الآن- برفض توقيع اتفاق سلام مع "إسرائيل" منفصل عن حل القضية الفلسطينية، لكنّ وتيرة التعاون الأمني بين الجانبين تسارعت خلال السنوات القليلة الأخيرة، على وقع تنامي المخاوف المشتركة تجاه النفوذ الإيراني في المنطقة.

وفي ظل مساعي تركيا لاحتواء التوترات الخارجية وتطبيع علاقاتها مع منافسيها الإقليميين، تراجع الجمود في العلاقات الإسرائيلية-التركية خلال عام 2022 مع زيارة الرئيس الإسرائيلي "هرتسوغ" إلى تركيا، تمهيدا لتعزيز التعاون في ملف الطاقة والغاز في شرق المتوسط. كما ظهر لافتا تنامي التنسيق الأمني مجددا بين الجانبين على وقع المحاولات الإيرانية لاستهداف "إسرائيليين" على الأراضي التركية، وتُوّج هذا الاختراق مؤخرا باتفاق البلدين على تبادل السفراء.

من جانبها، تبدي الإدارة الأميركية التزامها بدعم جهود توسيع "اتفاقيات أبراهام"، لكن من غير المرجح أن يعطي "بايدن" الأولوية لهذه الأجندة إلى حد ممارسة ضغوط على دول المنطقة على غرار إدارة "ترامب"، وهو ما ظهر واضحا خلال زيارته للمنطقة، حيث تجنب طرح ملف التحالف الدفاعي الإقليمي الذي يشمل "إسرائيل" في القمة التي جمعته مع قادة 9 دول عربية في السعودية، واكتفى بتشجيع بعضهم على مزيد من التعاون مع "إسرائيل" خلال لقاءاته الثنائية معهم على هامش القمة.

هل أصبحت إسرائيل أكثر أمنا؟

في ظل عمليات التطبيع المتسارعة التي تجاوزت مفهوم "التطبيع" المعتاد إلى مستوى من الشراكة غير المسبوقة، لم تعد "إسرائيل" تواجه خصما يتكون من تحالف من الدول القومية العربية يشكل تهديدا عبر شن حروب نظامية، إنما أصبحت تواجه نوعا مختلفا من التهديدات غير التقليدية. فبخلاف التهديد التقليدي المتمثل في إيران وبرنامجها النووي ونفوذها الإقليمي المتزايد، تبرز التنظيمات دون الدول، مثل حركة "حماس" و"حزب الله" اللبناني والفصائل العراقية الموالية لإيران والحوثيين في اليمن. بالإضافة إلى ذلك، باتت عمليات المقاومة الشعبية الفردية داخل فلسطين المحتلة تربك أجهزة الأمن الإسرائيلية في ظل صعوبة اكتشافها وإحباطها قبل وقوعها، واتساع خريطتها لتشمل القدس والضفة وأراضي عام 1948.

على الجانب الفلسطيني، استخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي الاغتيالات والاعتقالات ومصادرة الأموال ضد الفصائل الفلسطينية، فضلا عن العقاب الجماعي للسكان في غزة والضفة، كما هدم منازل منفذي الهجمات ضد المستوطنين. ورغم ذلك، تواصلت هجمات الفلسطينيين؛ ما أدى خلال الثلث الأول من عام 2022 إلى سقوط نحو 20 قتيلا إسرائيليا، وهو رقم كبير عند مقارنته بأمثاله في السنوات السابقة.

وفيما يخص الصراع مع غزة، تشتد ضراوة كل جولة جديدة من القتال، ووصل مدى الصواريخ المنطلقة من غزة إلى تل أبيب وحيفا، ورسخت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" حضورها في الساحة الفلسطينية بوصفها أبرز مدافع عن القدس بالتوازي مع تعزيز قوتها وبنيتها التحتية في غزة. وفي الضفة الغربية، تتدهور مكانة السلطة الفلسطينية التي أصبحت تواجه المجهول مع اقتراب حقبة ما بعد الرئيس "محمود عباس". ورغم التنسيق الأمني، فقد تحولت جنين ونابلس إلى معاقل للمقاومة، كما سجلت حركة "حماس" مؤشرات لافتة على حضورها في الضفة من خلال الانتخابات الطلابية والنقابية.

وفي داخل أراضي الـ 48، أسفرت احتجاجات الفلسطينيين خلال معركة "سيف القدس" في عام 2021 عن مقتل 3 إسرائيليين (يهود) وإصابة 450 آخرين في المدن المختلطة بين العرب واليهود، وهو ما أثار مخاوف إسرائيل تجاه استقرار الجبهة الداخلية. كما استمر التوتر مع بدو النقب على خلفية سياسات الاستيطان والتهجير، ومن ثم لم تعد جبهة غزة بمفردها هي التي تمثل بؤرة ساخنة، إنما امتد الأمر لعموم الضفة والقدس وأراضي الـ 48.

تشير الأوضاع إلى أن المراهنة على التطبيع مع تجاهل القضية الأساسية ممثلة في الاحتلال وملفات القدس واللاجئين والاستيطان… إلخ، ليس من المتوقع أن يعزز أمن الاحتلال كما تطمح حكومته.

بالإضافة لذلك، ما زالت حكومة الاحتلال عاجزة عن احتواء التهديد الديمغرافي مع توقع وصول عدد الفلسطينيين في الأراضي ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن إلى 13 مليونا في عام 2050، مقارنة بنحو 10.6 ملايين يهودي. فمنذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تتراجع نسبة اليهود في مناطق "القدس الشرقية"، حيث بلغت 46٪ في عام 1996، وسجلت 39٪ في عام 2020. وبينما استهدفت سلطات الاحتلال خفض نسبة السكان العرب في القدس إلى 20٪ بحلول عام 2020، فإن نسبة السكان العرب في القدس تبلغ حوالي 40٪. ومن خلال فحص البيانات في الفترة من 2015-2020، تراوحت نسبة النمو السكاني العربي في القدس بين 2.4% و2.7%، بينما تراوحت نسبة نمو السكان اليهود بين 1.5% و2.2%. ويأتي تراجع النمو السكاني لليهود في القدس رغم ارتفاع معدل الخصوبة بين النساء اليهوديات ليبلغ 4.4 مقارنة بـ3.1 بين النساء العربيات؛ نتيجة تسجيل صافي هجرة بين اليهود بالسالب بلغ سالب 6 آلاف عام 2018 انتقلوا للعيش في المستوطنات أو مدن أخرى مثل تل أبيب.

تشير تلك الأوضاع إلى أن المراهنة على التطبيع مع تجاهل القضية الأساسية ممثلة في الاحتلال وملفات القدس واللاجئين والاستيطان… إلخ، ليس من المتوقع أن يعزز أمن الاحتلال كما تطمح حكومته، فضلا عن مساهمة المقاومة الفلسطينية بأشكالها المتنوعة في تعميق الانقسامات السياسية بين الإسرائيليين وزيادة تآكل الثقة تجاه المؤسسات الحكومية على خلفية اختلاف وجهات النظر تجاه إدارة العلاقة مع الفلسطينيين، وهو ما يتضاعف أثره مع عدم وجود ساسة إسرائيليين مخضرمين محل إجماع؛ ما أدى إلى تكرار انتخابات الكنيست 5 مرات خلال آخر عامين.

التهديد الإيراني

تضع تل أبيب التهديد الإيراني في مقدمة التهديدات التي تخشى منها، وبالأخص المشروع النووي الذي سيغير التوازنات بالمنطقة في حال تمكن طهران من امتلاك قنبلة نووية. فضلا عن ذلك، فإن التهديد الإيراني تصاعدت حدته في ظل مساعي إيران الحثيثة لتعميق نفوذها في المناطق القريبة من "إسرائيل" عبر دعم تنظيمات وجماعات متنوعة في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغزة، ومدها بصواريخ دقيقة وطائرات مسيرة وأسلحة تتيح فتح عدة جبهات متزامنة ضد "إسرائيل".

في مواجهة ذلك، تخوض "إسرائيل" ما تسميه بـ"الحملة بين الحروب" لردع الخصوم وتقويض قدراتهم، وهو ما يتضمن شن ضربات استباقية تعتمد على معلومات استخباراتية عالية الجودة داخل إيران تستهدف منشآت صناعة الصواريخ والطائرات المسيرة، والعلماء النوويين، فضلا عن الاستهداف المتواصل للوجود الإيراني في سوريا، وعمليات نقل الأسلحة المتطورة من إيران إلى "حزب الله" في سوريا والعراق، وأخيرا توجيه ضربات مكثفة أثناء جولات القتال مع غزة للحد من تطور قدرات المقاومة الفلسطينية.

في ظل استشعار تل أبيب باحتمال تدهور "الحملة بين الحروب" لصراع عسكري موسع، فقد دشن الجيش الإسرائيلي في مايو/أيار 2022 مناورة عسكرية واسعة النطاق لمدة أربعة أسابيع تهدف لمحاكاة القتال على عدة جبهات في وقت متزامن، وبالتحديد مع سوريا ولبنان وغزة وإيران، فضلا عن مواجهة اضطرابات داخل أراضي الـ48.

ورغم تلك الجهود، فإن المشروع النووي الإيراني يمضي قدما، ودقة الصواريخ الإيرانية تزداد رغم الحصار، والنفوذ الإيراني أصبح راسخا في سوريا، وتسليح "حزب الله" يتطور حتى إنه امتلك مؤخرا صواريخ مضادة للسفن يبلغ مداها 1000 كم، كما أن التحسّن المضطرد في قدرات فصائل المقاومة في غزة وقدرتها على تهديد الأمن الداخلي للاحتلال لم يعد محل شك.

الاستقرار الهش وصراعات القوى الكبرى

طلبت وزارة العدل الروسية من القضاء الروسي إغلاق فرع "الوكالة اليهودية للهجرة لإسرائيل"، وهي خطوة حذرت حكومة الاحتلال من أنها ستؤثر على علاقة البلدين. (رويترز)

بخلاف منظومة التهديدات المحيطة بدولة الاحتلال، يتسم الوضع السياسي في المنطقة بالهشاشة وإمكانية الانهيار المفاجئ في أي لحظة، حيث تواجه العديد من الأنظمة العربية التي تؤثر أوضاعها على "إسرائيل" تحديات داخلية كبيرة. وبخلاف ذلك، تخشى تل أبيب من أن تدفع الأزمة الاقتصادية العالمية الناتجة عن تداعيات انتشار فيروس كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا باتجاه سيناريو الانهيار الاقتصادي الذي يقود إلى اضطرابات مجتمعية تسفر عن تغييرات سياسية في الدول العربية المجاورة. ولذا، يوصي التقرير الإستراتيجي لإسرائيل الصادر عن مركز هرتسيليا في عام 2022 بضرورة إبقاء دول الخليج ومصر والأردن تحت مظلة الدعم الأميركي، باعتبار أن حماية هذه الأنظمة يمثل ضمانة للاستقرار الإقليمي كما تتصوره "إسرائيل".

بجانب ذلك، أدى تغيير أولويات واشنطن من مكافحة الإرهاب إلى كبح الصعود الصيني لنقل التركيز الأميركي من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ثم جاء اشتعال الصراع الروسي-الغربي في ملف أوكرانيا ليدفع باتجاه توريط "إسرائيل" في صراعات الدول الكبرى، والحد من قدرتها على توثيق علاقاتها مع خصوم الولايات المتحدة، وعرقلة المشاريع الاقتصادية المشتركة وعمليات التعاون العسكري مع الصين وروسيا.

تضغط واشنطن على تل أبيب لاتخاذ مواقف أكثر تقدما تجاه دعم أوكرانيا بأسلحة معينة، وهو ما ترفضه تل أبيب حتى الآن وتكتفي بالدعم السياسي خشية أن ترد موسكو بتفعيل منظومات الدفاع الجوي الروسية في سوريا؛ ما يحد من قدرة سلاح الجو الإسرائيلي على العمل في سوريا. لكن مؤخرا تصاعدت الأمور بين الجانبين، حيث طلبت وزارة العدل الروسية من القضاء الروسي إغلاق فرع "الوكالة اليهودية للهجرة لإسرائيل"، وهي خطوة حذرت حكومة الاحتلال من أنها ستؤثر على علاقة البلدين، كما أقر وزير دفاع الاحتلال "بيني غانتس" بتفعيل روسيا منظومة "إس-300" ضد طائرات إسرائيلية للمرة الأولى، أثناء تنفيذها هجمات في سوريا في مايو/أيار الماضي.

كذلك تضغط واشنطن على تل أبيب لتحجيم انخراط الصين في الاقتصاد الإسرائيلي، وأعادت البحرية الأميركية النظر في رسو سفنها بشكل دوري في القاعدة البحرية بحيفا إثر فوز شركة صينية بعقد تشغيل الميناء لمدة 25 عاما. وبالتزامن، تمارس واشنطن عمليا حق النقض على مبيعات الأسلحة الإسرائيلية إلى الصين، وهو ما يعرقل تعميق العلاقات الصينية-الإسرائيلية.

معضلة التراجع الأميركي

(وكالة الأناضول)

يقلل هذا الانشغال الأميركي بالصين وروسيا من اهتمام واشنطن بقضايا الشرق الأوسط. وقد أسهم الانسحاب الفوضوي للجيش الأميركي وحلفائه من أفغانستان، وخفض الوجود الأميركي في العراق وسوريا؛ في تعزيز شعور حلفاء واشنطن العرب بأنها تقلص التزامها بحماية أمنهم. ومع الانشغال العالمي بقضايا مثل انتشار كورونا، وحرب أوكرانيا، والتغير المناخي، وأزمة الغذاء وتضخم الأسعار… إلخ؛ أصبحت دول المنطقة مخولة بمواجهة التحديات الداخلية والخارجية بنفسها، حيث حصدت القوى الإقليمية نفوذا متزايدا أتاح لها التأثير أكثر من أي وقت مضى في سير الأحداث، كما أصبح لديها هامشا أوسع للتصرّف وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة، بغض النظر عن أهداف الولايات المتحدة وأولوياتها.

لا شك في أن "إسرائيل" تجد في هذه الحالة فرصة مواتية تعمل على استغلالها في كسر طوق العزلة وتوسيع نفوذها بغرض تعزيز أمنها، وذلك من خلال تقديم نفسها بوصفها شريكا أمنيا لدول الخليج ومصر خاصة في الملفات التي تشغل أمن هذه الأنظمة، مثل الملف الإيراني وملف الإسلاميين. تقدم "إسرائيل" نفسها باعتبارها عامل استقرار يمكن الاستفادة من مكانته الخاصة لدى واشنطن في أن تصبح رأس سهم التحالف الإقليمي الذي يتشكل لسد الفراغ الذي يخلفه تراجع الانتشار العسكري الأميركي بالمنطقة، وهو ما تجلى في استضافتها لقمة النقب بحضور وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والإمارات والمغرب والبحرين، والتي تمخض عنها منتدى للعلاقات يجمع هذه الدول، ويركز بصورة أساسية على قضايا التعاون الاقتصادي والتجاري، كما يتجلى في الترويج لمشروع التحالف الإقليمي الذي ستلعب فيه "إسرائيل" دور القيادة نظرا لتفوقها العسكري.

لكن في المقابل، يضع تراجع الالتزام الأميركي تجاه المنطقة كافة القوى الإقليمية أمام فرصة لممارسة نفوذ أوسع، ليس فقط "إسرائيل"، ولكن أيضا إيران وتركيا والسعودية ومصر. فإيران تقف في خانة العداء الصريح مع "إسرائيل"، وتبدو مساعي واشنطن ودول إقليمية لإضعافها غير كافية لاحتواء صعود طهران بوصفها قوة إقليمية. أما تركيا فموقعها بصفتها قوة إقليمية لم يعد محل شك، خاصة بعد ترسخه خلال السنوات القليلة الماضية، ومن المرجح أن يتعزز أكثر على وقع التغيرات الدولية المرتبطة بحرب أوكرانيا. وعلى المستوى الإستراتيجي، تمثل كل من تركيا وإيران تحديا أمام مساعي بناء نظام إقليمي تهيمن عليه "إسرائيل".

عربيا، وعلى الرغم من تراجع الدور المصري وحدود القوة السعودية، فإن الدولتين ليس من المرجح أن تقبلا بمعادلة تبعية إقليمية لإسرائيل، وستعملان على المدى الطويل للحد من النفوذ الإسرائيلي في المجال العربي؛ إن لم يكن لأسباب تتعلق بتعريف "إسرائيل" التقليدي بوصفه تهديدا، فسيكون ذلك لأسباب جيوسياسية تعتبر النفوذ الإسرائيلي مثل التركي والإيراني منافسا لموقع الدولتين ودورهما في العالم العربي.

من جهة أخرى، يحفز الموقف الأميركي أيضا توجها معاكسا لمساعي تنامي الدور الإسرائيلي في المنطقة، فبينما تمثل المخاوف من الدور الإيراني أحد مبررات العلاقات مع "إسرائيل"، فإن توجه الولايات المتحدة للتفاوض مع إيران وتأكيدها لحلفائها أنها ما زالت متمسكة بالتوصل لاتفاق نووي، لم يؤدِّ فقط إلى محاولة تحقيق توازن من خلال التعاون الأمني مع "إسرائيل"، ولكن في المقابل دفع أيضا دول المنطقة إلى أن تتبنى نهجا تصالحيا مع إيران وتحاول التوصل لتفاهمات ثنائية معها، وهو ما يظهر في الموقف الإماراتي والسعودي، فضلا عن تبني مصر الدائم لسياسة تقوم على عدم تحويل الخلاف مع إيران إلى مواجهة إقليمية. وإذا توصلت طهران والقوى الغربية إلى اتفاق نووي، فإن احتمالات أن يؤدي إلى مزيد من التفاهم بين دول المنطقة وإيران تبدو مرجحة أكثر من احتمالات أن يؤدي إلى تعزيز تحالف دول المنطقة مع "إسرائيل" في مواجهة إيران.

تمر علاقات "إسرائيل" ومحيطها العربي بتقدم غير مسبوق، يعيد تعريف العلاقة من مجرد التطبيع والعلاقات السرية، إلى "التحالف" والعلاقات الاقتصادية والأمنية ذات الطابع الإستراتيجي. (وكالة الأناضول)

والأهم من ذلك، فإن "إسرائيل" ليست مؤهلة عسكريا لملء كل فراغ تتركه واشنطن. فدول الخليج تنتظر من الولايات المتحدة استمرار التزاماتها تجاه حمايتها عسكريا من التهديدات الخارجية، وهي مهمة لا يمكن لإسرائيل القيام بها. وفي الواقع، تستهدف تل أبيب تعزيز التحالفات الأمنية مع دول المنطقة لتعزيز أمن "إسرائيل" نفسها وليس للقيام بدور واشنطن تجاه هذه الدول. وفي ظل احتدام التنافس الدولي بين واشنطن من جهة، وكل من بكين وموسكو من جهة أخرى، لا يبدو أن الولايات المتحدة بصدد التخلي عن هذا الدور أصلا، وهو الأمر الذي استهدف "بايدن" التأكيد عليه خلال زيارته للمنطقة منتصف يوليو/تموز الماضي.

إعادة تعريف

ختاما، تمر علاقات "إسرائيل" ومحيطها العربي بتقدم غير مسبوق، يعيد تعريف العلاقة من مجرد التطبيع والعلاقات السرية، إلى "التحالف" والعلاقات الاقتصادية والأمنية ذات الطابع الإستراتيجي. وقد يفتح هذا المجال لـ"إسرائيل" كي تمارس دورا إقليميا محوريا يستند إلى طبيعة الدعم الذي تتلقاه من الولايات المتحدة، والذي يضمن لها تفوقا عسكريا في المنطقة، بالإضافة إلى تفوقها التكنولوجي وخبراتها الأمنية التي تأمل بعض دول المنطقة الاستفادة منها. وسيواجه هذا الدور المحوري في المقابل بنفوذ قوى إقليمية أخرى، خاصة تركيا وإيران، فضلا عن حرص القوى العربية الرئيسية -خاصة مصر والسعودية- على عدم خصم الدور الإسرائيلي المتنامي في المجال العربي من نفوذهما التقليدي.

(وكالة الأناضول)

لكن استمرار مقاومة الفلسطينيين لفرض أمر واقع دون تسوية مُرضية، خاصة مع تكريس نموذج الفصل العنصري في الأراضي المحتلة والذي يغذي من دوافع المقاومة الشعبية حتى داخل "الخط الأخضر"، وتفاقم الصراعات بين اللاعبين الكبار في الحلبة الدولية، واستمرار مشروع التمدد الإيراني رغم الضغوط التي يتعرض لها، والاستقرار الإقليمي الهش، فضلا عن تفاقم الانقسامات السياسية والأيدولوجية والعرقية داخل كيان الاحتلال…، كل هذه أمور تُوجِد حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل الحضور الإسرائيلي في المنطقة، وتشير إلى أن الصعود الإسرائيلي يحمل في داخله عوامل ضعف مزمنة.

كذلك، فإن خطط الولايات المتحدة للتوصل إلى صفقة مع إيران، وتراجع أولوية منطقة الشرق الأوسط لديها، تترك للحلفاء الإقليميين هامشا أوسع للدفاع عن أنفسهم وتشكيل السياسة الإقليمية وفق مصالحهم الخاصة. وستستمر هذه الدول في اتباع نهج ذي مسارين لاحتواء التهديد الإيراني، فمن ناحية ستواصل التعاون مع "إسرائيل" باعتبارها قوة عسكرية وأمنية إقليمية فاعلة في جهود احتواء إيران، ومن ناحية أخرى تسعى هذه الدول إلى التوصل لتفاهمات ثنائية مع إيران، وهو ما قد يحد مع الوقت من وتيرة ومدى الاعتماد على "إسرائيل"، خاصة أن هذه الأخيرة لا تستطيع توفير الغطاء الدفاعي نفسه الذي توفره الولايات المتحدة لحلفائها العرب.

____________________________________________

  • هذا المقال منشور بالاتفاق مع موقع أسباب.. للاطلاع على المقال الأصلي من هنا.
المصدر : الجزيرة