شعار قسم ميدان

مُعضلة غزة الأكبر.. مَن يمتلك مفاتيح بوابات إعمار القطاع المحاصر؟

ما إن وضعت الحرب أوزارها بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في 21 مايو/أيار الماضي إثر جولة قتال استمرت قرابة أسبوعين، حتى بدأ الحديث عن عملية إعادة إعمار قطاع غزة الذي تركت الطائرات الحربية الإسرائيلية الآلاف من منازل ساكنيه وقد سويت بالأرض.

جذب الحديث حول تلك العملية الشاب محمد دهمان (33 عاما)، فرغم أنه غير مُتضرِّر مباشرة من الحرب الأخيرة، فإن مأساته تمتد لسبع سنوات قبل الحرب، يوم فقدت عائلته شقتين لها في برج المجمع الإيطالي الذي دمَّرته الطائرات الإسرائيلية في حرب غزة 2014. وشكَّل البرج آنذاك أحد المعالم المعمارية المميزة في حي النصر (غرب غزة)، حيث كان يحوي مجمعا للسكن يضم 48 وحدة سكنية، إضافة إلى مجمع تجاري شغل ثلاثة طوابق، ويضم عددا من المحال والمكاتب.

شُرِّدت آنذاك عائلة دهمان ضمن خمسين عائلة سكنت برج المجمع الإيطالي، ومن بين سكان أكثر من ألف وحدة سكنية دُمِّرَت عام 2014 ولم يُعَد إعمارها حتى اليوم، رُغم أن إيطاليا وفَّرت الأموال بالفعل لإعادة بناء البرج الشهير الذي يحمل اسمها. ويعود السبب في تعثُّر عملية إعادة الإعمار الخاصة بنحو 171 ألف منزل دُمِّروا في حرب 2014 إلى كون هذه العملية محكومة باتفاقية ثلاثية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والأمم المتحدة. تكفل هذه الاتفاقية تسهيل مرور مواد البناء إلى غزة مع ضمان معالجة المخاوف الأمنية الإسرائيلية في المقام الأول عبر فرض المجتمع الدولي نظام مراقبة للإشراف على جهود إعادة الإعمار، وكذلك لضمان ثقة الجهات المانحة.

برج المجمع الإيطالي (مواقع التواصل)

بالإضافة إلى ما فرضه الانقسام الفلسطيني من ركود في عملية إعادة إعمار غزة، فشلت تلك الآلية ولم تساهم في أي إعمار ملموس في غزة، بل أدَّت إلى مأسسة الحصار الإسرائيلي، ففرضت عبره دولة الاحتلال رقابة صارمة على دخول البضائع إلى القطاع، ورفضت تزويده بالعديد من إمدادات البناء التي اعتبرها الاحتلال قابلة للاستخدام من قِبَل المقاومة للأغراض العسكرية، ضمن ما يُعرف باسم "المواد ذات الاستخدام المزدوج".

عاد "ميدان" بالذكريات مع محمد دهمان سبع سنوات إلى الوراء حين هُدم منزله، فقال: "خرجنا بملابسنا فقط، وقد مرَّت سنوات ونحن نحاول أن نُعيد تأسيس حياتنا، فيما توقَّفت مسارات الحياة العادية، فحتى الآن لا أستطيع الزواج وتأسيس بيت مستقل عن أهلي". وتزيد معاناة الشاب الفلسطيني مع توقُّف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي "UNDP" عن دفع بدل الإيجار لسكان البرج منذ عدة سنوات، وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها قطاع غزة أصبح دفع إيجار شهري لا يقل عن مئتي دولار مسألة مُرهِقة اقتصاديا على عائلة دهمان والمئات ممَّن شردتهم الحروب المتكرِّرة.

ولكن في الوقت الذي كان الآلاف من سكان قطاع غزة المُحاصَر يبحثون فيه عن مساكن مُستقِرَّة عوضا عن بيوتهم المدمَّرة، شنَّت دولة الاحتلال الإسرائيلي عمليتها العسكرية الأخيرة على القطاع في مايو/أيار الماضي لتزيد الأمر سوءا، وتضع سكان غزة البالغ عددهم نحو مليونَيْ نسمة أمام معاناة جديدة أضافت الآلاف من أصحاب المنازل المدمَّرة الجديدة إلى قائمة انتظار طويلة يترقَّب أعضاؤها عملية إعادة إعمار حقيقية في غزة.

على مدار أكثر من عقد، شهد قطاع غزة أربع معارك عسكرية مع إسرائيل (2008، 2012، 2014، 2021)، تخلَّلتها هجمات عسكرية متفرِّقة، وتسبَّبت جميعها في هدم المزيد من الوحدات السكنية والمنشآت المملوكة لسكان القطاع. ففي الهجوم الأخير، دمَّرت الطائرات الحربية الإسرائيلية نحو 1800 وحدة سكنية بالكامل، فيما دمَّرت نحو 16800 وحدة تدميرا جزئيا، بالإضافة إلى تدمير خمسة أبراج سكنية كبيرة وسط مدينة غزة إلى جانب 74 منشأة حكومية.

من بين مَن هُدِّمت منازلهم في هذه الحرب، فقد "علاء شمالي" شقته الواقعة في عمارة أنس بن مالك بشارع اليرموك (وسط غزة). ورغم أن الرجل يرى كل ما يخص الإعمار "مُعلَّقا بالمجهول"، كما يقول لـ "ميدان"، فإنه يأمل أن تجري العملية بسرعة وأن يُعوَّض عن بيته الذي قُصف في مايو/أيار الماضي. ويُضيف علاء لـ "ميدان": "هناك قيود من الاحتلال قد تزيد سنوات الانتظار ما بين القصف وإعادة الإعمار، فهذه الفترة بالنسبة لأي متضرِّر مليئة بالتفاصيل، وتبدأ بالبحث عن سبل حياة جديدة من تعفيش (تأثيث) منزل وتوفير بدل الإيجار وصولا إلى بناء بيت من جديد".

لتلبية احتياجات الإنعاش الفوري وإصلاح المرافق الرئيسية للأشهر الثلاثة المقبلة، أطلقت الأمم المتحدة حملة طارئة بمبلغ 95 مليون دولار، كما خصَّصت 22.5 مليون دولار من المساعدات لتقديم الإغاثة وإيصال الخدمات الأساسية إلى الناس مثل الرعاية الصحية والمياه. فيما عكفت العديد من الدول على الإعلان عن تعهُّدات مالية لدعم جهود إعادة الإعمار في غزة، بما في ذلك مصر وقطر -ووعد كل منهما بتقديم 500 مليون دولار مساعدات- علاوة على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا.

تشهد غزة أيضا جهودا لإنشاء ما يُسمى بالمجلس الوطني لإعادة الإعمار، ويتألف المجلس المستقل من هيئات حكومية وخاصة. ويؤكِّد "أسامة كحيل"، رئيس اتحاد المقاولين بغزة، أنه لم تتبلور حتى اللحظة رؤية حول عملية إعادة الإعمار بشكل كامل، إذ تعمل الجهات الفلسطينية المختصة على تشكيل المجلس، بحيث يكون المدخل الرسمي والدولي لعمليات الإعمار على الأرض. وأهم ما تم التوصُّل له مبدأيا هو أن جميع المواد ستُستَورد من مصر، ثمَّ تتولَّى الشركات الفلسطينية ذات الخبرة عملية إزالة الأنقاض وإنشاء المباني الجديدة. ويُضيف كحيل لـ "ميدان": "شركاتنا هي مَن تقوم بمشاريع إعادة الإعمار، فهي قادرة على ذلك، ومن شأن جهودها أن تحل مشكلة البطالة التي تزيد نسبتها على 50%".

استمتع مجموعة من العُمال بطعم "البراد"، ذاك الشراب الشعبي المثلج الذي يعشقه الغزاويون، وقدَّمه لهم "كاظم"، صاحب محل البوظة الأشهر في قطاع غزة، ثم عادوا إلى مواصلة العمل في إزالة أنقاض برج الشروق الذي قصفته إسرائيل في حربها الأخيرة على غزة.

كان هؤلاء العُمال بكوفياتهم السيناوية المعروفة غرباء عن المكان على ما يبدو، فهم مصريون قدموا قبل أيام إلى غزة بآلياتهم ومعداتهم الهندسية، ضمن الأطقم الفنية المصرية المشارِكة في إزالة ركام المباني المهدَّمة، وهُم أول مَن وطأت أقدامهم قطاع غزة بعد الحرب، إبَّان تعليمات أصدرها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي "للمساهمة في إزالة الأنقاض وركام المنازل والأبراج المهدَّمة في إطار التخفيف عن مواطني القطاع وسرعة إعادة الحياة إلى طبيعتها"، كما جاء في بيان مصري رسمي.

لم يكتفِ النظام المصري بذلك، بل أعلن في 18 مايو/أيار الماضي عن تقديم 500 مليون دولار من أجل إعادة إعمار غزة، وتبع ذلك خطاب مصري رسمي وشعبي وُصف بالإيجابي وغير المعتاد تجاه حركة حماس وقطاع غزة. ويعود التغيير في الموقف المصري إلى جملة تحوُّلات في الموقف العربي من إسرائيل إثر توقيع اتفاقيات التطبيع بين دول الخليج وإسرائيل العام الماضي، وهي تحوُّلات أثارت مخاوف مصر من تقليص دورها الإقليمي في القضية الفلسطينية. ولذلك عملت مصر بسرعة لاستعادة دورها وسيطا حيويا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن خلال وساطتها النشطة في اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل.

إذا ألقينا نظرة سريعة على الدور المصري بعد الحرب الإسرائيلية على غزة عام 2009، التي دعا أثناءها الرئيس المصري الراحل حسني مبارك إلى إدخال المواد اللازمة لإعمار غزة، فسنجد أن القاهرة استضافت مؤتمر إعادة إعمار غزة في مدينة شرم الشيخ، حيث تعهَّد المانحون الدوليون آنذاك بتقديم أكثر من أربعة مليارات دولار، رغم الدور الذي لعبه نظام مبارك نفسه في حصار غزة. أما في حرب عام 2012، ففور انتهائها أرسل الرئيس المصري الراحل محمد مرسي مواد بناء ومعدات إلى غزة عبر معبر رفح الحدودي تم شراؤها بأموال قطرية، حيث تبرَّعت الدوحة بـ254 مليون دولار واعتبرت تلك الجهود الأولى لتنفيذ مشروعات ضخمة لإعادة الإعمار، منها على سبيل المثال بناء مدينة حمد السكنية في خان يونس التي تحتوي على قُرابة 3000 وحدة سكنية.

ثم أتت حرب عام 2014، ولعبت فيها مصر دورا سلبيا أكثر من أي وقت مضى نتيجة التوتر بين النظام الجديد آنذاك بقيادة الرئيس السيسي من جهة، وحركة حماس من جهة أخرى. وتقول دراسة نشرها معهد "بروكينغز" في هذا الصدد إن "جهود إعادة الإعمار (بعد 2014) فشلت إلى حدٍّ كبير بسبب المعارضة السياسية المستعصية لحماس، ليس فقط من إسرائيل، ولكن أيضا من مصر التي تعارض علاقات المسلحين بجماعة الإخوان المسلمين".

وخلص التحليل أيضا إلى أن الحصار الخانق على غزة -الذي فرضته مصر وإسرائيل- أدَّى إلى تقييد إمدادات البناء والمساعدات الإنسانية، ومن ثمَّ إلى تأجيج التوترات بين حماس وخصومها السياسيين في السلطة الفلسطينية، الذين ضغطت عليهم مصر لتولّي العمليات الأمنية في غزة شرطا لإمداد القطاع بما يحتاج إليه. أما المانحون الدوليون فاتَّسموا بالبطء في إرسال الأموال التي التزموا بها، ولم يصل معظمها في الحقيقة. ولذا، اضطر الغزاويون إلى الاعتماد على المساكن المؤقتة طوال تلك السنوات وسط ارتفاع معدلات البطالة وتراجع الخدمات في مجالات الكهرباء والمياه النظيفة وإدارة النفايات.

"أؤكِّد التزامنا في حماس أننا لن نأخذ قرشا واحدا جاء للإعمار في قطاع غزة، وستحرص الحركة ألا يذهب أي قرش لحماس أو لكتائب القسام".

(يحيى السنوار)

بتلك الكلمات، وجَّه رئيس حركة حماس في غزة "يحيى السنوار" كلماته إلى المجتمع الدولي في أول لقاء له مع الصحافيين بغزة عقب انتهاء الحرب الأخيرة. وقد أتت تصريحات السنوار ردا على الإدارة الأميركية التي اشترطت أن يكون دعمها لعملية إعمار غزة بالشراكة مع السلطة الفلسطينية في رام الله، جنبا إلى جنب مع الأمم المتحدة ومصر ودول الخليج، إذ قالت واشنطن إنها ستعمل على ضمان نقل أموال الإعمار إلى غزة مع ضمان ألا تستفيد حماس من الـ360 مليون دولار التي تعهَّدت بها واشنطن لإعادة الإعمار والتنمية الفلسطينية.

لم يكن الموقف الأميركي والدولي، الذي طالما تعامل مع السلطة الفلسطينية بصفتها المُمثِّل الفعلي للفلسطينيين، وليد التطورات الأخيرة في غزة، إذ تَعتبر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بوضوح أن حماس "منظمة إرهابية" منذ فازت في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006. وقد تلت تلك الانتخابات حالة انقسام داخلي فلسطيني دارت فصولها المعروفة للجميع على مدار 15 عاما، وألقت بظلالها على علاقة الفلسطينيين بالمجتمع الدولي، وأهم تلك الفصول ملف المساعدات التي أُدير عبر آليات معقَّدة بُغية الالتفاف على القنوات المرتبطة بحماس التي تحكم غزة فعليا، ومن ثمَّ تباطأت جهود الإعمار أو توقَّفت في معظم الأحيان.

يقول "ماهر الطباع"، الخبير الاقتصادي والمتحدِّث باسم غرفة التجارة والصناعة لمحافظة غزة، "إن اعتبار حركة حماس المسؤولة بحكم الواقع عن إدارة غزة جماعة إرهابية يجب ألا يكون سببا في حرمان القطاع من أموال الإعمار، فهناك طرق عديدة لإيصال الأموال، منها الاستعانة بالأونروا وغيرها من مؤسسات الأمم المتحدة". ويُشدِّد الطباع على أن الإعمار الحقيقي يتطلَّب ضمانات دولية بألا تُعيد إسرائيل قصف ما جرى إعماره مستقبلا، ومن ثمَّ يجب أن يكون هناك حل سياسي للأزمة الفلسطينية مع ضرورة إنهاء الحصار على القطاع. ويتوقَّع الطباع أن يكون هناك عزوف من قِبَل المانحين عن تمويل عملية الإعمار بغزة، بسبب سياسة "الهدم المتكرِّر" التي تقوم بها إسرائيل عن عمد.

في السياق ذاته، يقول "عمر شعبان"، مؤسس ومدير مؤسسة "بال ثينك للدراسات" الإستراتيجية، إن ما يمكن استخلاصه بعد مرور قطاع غزة بعدة عمليات إعمار خلال 12 عاما مضت هو أنه يلزم وجود ورشة عمل وطنية يشارك فيها الجميع، ثم توضع الأموال التي تخص إعادة الإعمار من الدول المانحة ضمن صندوق مستقل يُشرف عليه ممثلون عن المجتمع الأهلي، وهذا أيضا سيُطمئن الدول المانحة أن أموال تبرعاتها تذهب نحو الهدف المرصود لها.

في نهاية المطاف، تُطوى صفحة حرب أخرى في غزة، ولكن هذه المرة بفتح ملف إعادة الإعمار وتسليط الضوء على الحاجة إلى بناء حقيقي بصورة غير مسبوقة. ويعود الفضل في ذلك إلى تغيُّرات عدة، أهمها تراجع السلطة الفلسطينية، والمركزية التي تتبوأها حماس في العملية السياسية الفلسطينية رُغم تصنيفها الدولي جماعة إرهابية، ومنها أيضا تحوُّل الموقف المصري نحو الرغبة في تخفيف الحصار عن غزة مقابل اضطلاع مصر بدور مركزي في الإعمار، ومنها كذلك التآكل التدريجي للدعم الغربي لإسرائيل نتيجة سياساتها المتجاوزة لأُطر 1967 وتعهُّداتها للسلطة الفلسطينية في وقت سابق. وبينما ينتظر الغزاويون بشغف تحقُّق وعود الإعمار هذه المرة، تقف الأموال المصرية والشركات الفلسطينية بانتظار مسار واضح للمُضي قُدما، وهي تأمل أن تمضي الجرارات ومعدات البناء في طريقها هذه المرة، وألا يساهم التعنُّت الإسرائيلي، والموقف الدولي من حماس، في إبقاء غزة تحت الرماد والحصار كما هي منذ عام 2006.

المصدر : الجزيرة