شعار قسم ميدان

سيناريو أفغاني أم إيراني.. ماذا لو انسحبت أميركا من العراق اليوم؟

"لا نعتقد أن قوات التحالف ستغادر العراق، لكن إذا فعلوا ذلك فإن تكوين العراق سيكون مختلفا. العراق لديه قوات مسلحة وأمنية في وزارتي الدفاع والداخلية، وفي إقليم كردستان لدينا جيش قوي من البشمركة". بهذه الكلمات حاول "جعفر شيخ مصطفى"، نائب رئيس إقليم كردستان العراق، طمأنة مواطنيه الأكراد بأن ما حدث في أفغانستان لن يتكرَّر في بلادهم، فقد هزَّت مشاهد انسحاب الولايات المتحدة من كابل العالم أجمع، لكن أثرها أتى مُضاعفا في العراق الذي دخله الأميركيون بعد عامين فقط من غزوهم أفغانستان. وبينما انتشرت مشاهد استيلاء مسلحي طالبان على مرافق الدولة بسهولة شديدة في نهاية أغسطس/آب الماضي، تساءل الجميع ما إذا كانت بغداد ستلقى المصير نفسه حال انسحاب الجيش الأميركي.

في مواجهة هذه الشكوك، جدَّد مسؤولو الولايات المتحدة، التي تملك أكبر قنصلية لها في العالم بإقليم كردستان، تأكيداتهم في الأسابيع الماضية لحُكَّام كردستان، وطمأنوهم بأنهم لن يتخلوا عن حليفهم الكردي، حتى إذا ما قرروا تقليص وجودهم العسكري مستقبلا أو الانسحاب بالكامل. بيد أن أيا من تعهدات واشنطن أو كلمات جعفر لم تفلح في التخفيف من وطأة المخاوف التي تنتاب أكرادا كثيرين ممّن يعتبرون وجود القوات الأميركية ضرورة لحمايتهم، أو حتى عامة العراقيين ممن تابعوا أحداث أفغانستان بتوجُّس شديد، لا سيما أن مشاهد انهيار الجيش العراقي في ساعات أمام عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام 2014 لا تزال حاضرة في الذاكرة.

سيناريو الخروج

رغم هزيمة التنظيم عام 2017، استمر بقاء معظم القوات الأميركية ضمن إطار التحالف الدولي، وهو ما أقلق إيران وحلفاءها.

ثمة مخاوف إذن من احتمالية انهيار الدولة العراقية، خاصة أن نقاط التفتيش الأميركية المنتشرة سابقا في كل مكان قد اختفت مؤخرا، وحلَّ محلَّها الجنود العراقيون وقوات الحشد الشعبي، ما يعني أن المجال لن يكون مفتوحا لسيناريو طالباني، بل يُمكن أن يكون مفتوحا في الحقيقة لسيناريو ميليشياتي، إذ إن الحشد الشعبي ومن على شاكلته من تشكيلات مسلحة شيعية لا تزال تُحكم قبضتها بصورة كبيرة، ومن ثَم فإن انسحابا أميركيا يمكن أن يستجلب نموذجا إيرانيا، لا أفغانيا، في بغداد.

رغم أن القوات الأميركية هي من قادت التحالف الدولي لغزو العراق عام 2003 للتخلص من نظام صدام البعثي السُّني، فإن إيران تمكَّنت من تعزيز وجودها في العراق عبر ملء الفراغ الديني والاجتماعي-السياسي، مستخدمة نفوذها في الأوساط الشيعية، لا سيما تلك المناوئة للاحتلال الأميركي. وقد نجحت طهران في صناعة ميليشيات شيعية عدة باتت جزءا لا يتجزأ من نسيج الأمن والسلاح في العراق، ثم ضاعفت مشاركتها في الحرب السورية من تعميق وجودها العسكري في المنطقة ككل، من البصرة إلى بيروت، بما يعني أنها باتت المستفيد الأبرز من أي انسحاب محتمل للأميركيين من العراق.

لم يعد ذلك الانسحاب خيارا مستبعدا اليوم، فقد انسحبت واشنطن جزئيا بالفعل من العراق عام 2011 تاركة عددا صغيرا من قواتها لحماية سفارتها وتدريب القوات العراقية ومساعدتها، لكنها عادت بقوات ضخمة عام 2014 لدعم الحكومة العراقية في حربها ضد مقاتلي تنظيم الدولة الذين سيطروا آنذاك على مساحات واسعة من العراق وسوريا. ورغم هزيمة التنظيم عام 2017، استمر بقاء معظم القوات الأميركية ضمن إطار التحالف الدولي، وهو ما أقلق إيران وحلفاءها، ودفع بالسياسيين والميليشيات الشيعية المرتبطة بها إلى المطالبة برحيل القوات الأميركية مرارا وتَكرارا على مدار السنوات الماضية. ثم أتى القرار الأميركي عام 2019 بخفض عدد الجنود في العراق إلى 2500 جندي، والإبقاء على عدد صغير وغير معلوم من قوات العمليات الخاصة، لكنه لم يُرضِ الإيرانيين.

بيد أن مطلب رحيل الأميركيين بشكل كلي أضحى مُلِحّا للغاية بعد اغتيال الولايات المتحدة "قاسم سليماني"، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، الذي عُّد نقطة تحوُّل كبيرة في مسار العلاقة بين الطرفين. فمنذ تلك اللحظة، زادت إيران من الهجمات الصاروخية على القواعد الأميركية في العراق، ودعمت الاحتجاجات الشعبية العراقية المنددة بالوجود الأميركي، فيما ركزت واشنطن تركيزا متزايدا على حماية قواتها بعد أن انسحبت من القواعد المعرَّضة للخطر في البلاد، وعزَّزت وجودها في 3 منشآت عسكرية عراقية فحسب. ثم أتت الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في العراق لتعقِّد المسار الإيراني وتضعف القبضة الأمنية الميليشياتية المدعومة من جانبها تحت ضغط كبير، ما أفضى إلى صعود الكاظمي القريب من الولايات المتحدة رئيسا للوزراء رغم علاقاته الجيدة سياسيا مع أطراف أخرى منها طهران نفسها.

فقبل نحو شهر من خروج القوات الأميركية من أفغانستان، زار الكاظمي البيت الأبيض، ولم يتردد عقب لقائه بالرئيس الأميركي جو بايدن في الإعلان عن أن الولايات المتحدة ستخرج خروجا كاملا من العراق، حيث جاء في بيان مشترك أن "العلاقة الأمنية ستنتقل بالكامل إلى دور التدريب والإرشاد والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ولن تكون هناك قوات أميركية ذات دور قتالي في العراق بحلول 31 ديسمبر (كانون الأول) 2021".

ما يحمل الرئيس العراقي على موقفه السابق هو أنه واقع تحت وطأة ضغط داخلي كبير يطالبه بدفع الأميركيين إلى الخروج، لكن بالرغم مما يظهره مع كبار المسؤولين العسكريين العراقيين من إلحاح لإتمام الخروج الأميركي، فإنه يفضّل فعليا بقاء حوالي 2500 جندي أميركي في العراق. وكما يقول "صفاء خلف"، الباحث في الاجتماع السياسي وتحليل الأزمات، فإن الحكومة الحالية محسوبة على المحور الأميركي، ولذا تتمسك بواشنطن، إذ توفِّر لها الأخيرة المقبولية الدولية والشرعية اللازمة التي تحميها من السقوط في قبضة الميليشيات الشيعية، على الأقل حالما ينجح مشروع الكاظمي في تقويض قواعد هيمنة تلك الميليشيات، وتعزيز الأجهزة الأمنية والجيش بما يكفي ليصبح للدولة العراقية درعها المستقل.

من سيملأ الفراغ؟

لكن هذه المهمة تبدو أعقد مما يتصور الجميع. ففي بداية سبتمبر/أيلول الماضي، شنّ عناصر من تنظيم الدولة هجومين في محافظتي كركوك ونينوى شمالي العراق، وأسقطوا بأسلحة القنص قتلى وجرحى من الجيش والمدنيين، وقد وقع أولهما في قرية "شعل" التابعة لمدينة الدبس جنوب غربي كركوك، وثانيهما عند نقطة تفتيش تابعة للجيش العراقي في مدينة "مخمور" جنوب شرقي نينوى.

بالنظر إلى أن بقاء القوات الأميركية يعود إلى التهديد المستمر الذي تمثله داعش، وكذلك جهود تدريب القوات العراقية، فإن التنظيم الذي تصاعدت هجماته الفترة الأخيرة لن يصعب عليه أن يعزز حضوره في المحافظات القريبة من سوريا حال خرجت الولايات المتحدة من العراق سريعا كما فعلت في أفغانستان. أما القوات الجوية العراقية فما تزال ضعيفة، ولا تستطيع التصدي لهجمات بطائرات مُسيَّرة دون الغطاء الجوي الأميركي. وقد ذكر تقرير لفريق مراقبة العقوبات التابع للأمم المتحدة أن تنظيم الدولة قادر على شن هجمات في بغداد نفسها، وكذلك في محافظات ديالى وصلاح الدين وكركوك. واستند التقرير الذي صدر في 23 يوليو/تموز الماضي إلى معلومات استخباراتية مؤكدا أن داعش "تطور إلى تمرد راسخ، مستغلا نقاط الضعف في الأمن المحلي للعثور على ملاذات آمنة واستهداف القوات المشاركة في عمليات مكافحته".

علاوة على ذلك، هناك خطر الميليشيات العراقية المرتبطة بطهران، التي تشكَّلت عام 2014 في خضم التعبئة لمواجهة تنظيم الدولة ثم تم استيعابها لاحقا في صفوف قوات الأمن العراقية، إذ أثبتت تلك الميلشيات قدرتها على مواصلة هجماتها ضد المصالح الأميركية، ومن السهل أن تنخرط في صراع ضارٍ مع فصائل منافسة لها في العراق للسيطرة على السلطة السياسية وموارد الدولة، بل ويمكن لخفض بسيط في التزامات واشنطن العسكرية أن يغير ميزان القوى لصالح تلك الميليشيات، ما يؤدي إلى خلق بيئة أكثر تشرذما تُسهم في عودة داعش، لا سيما إذا تفاقمت المظالم التي يعانيها السُّنة على يد الميليشيات الطائفية في حال انحسرت قدرة الحكومة على ضبط الشارع.

في هذا السياق، يقول "شاهو القره داغي"، الكاتب العراقي المهتم بحقوق الإنسان والعلاقات الدولية، إن المخاوف من تكرار التجربة الأفغانية في العراق واقعية، خاصة أن الولايات المتحدة انسحبت من العراق عام 2011 وتسبب ذلك بانتشار الجماعات الإرهابية بالفعل، والتي انتهت بسيطرة داعش على ثلث العراق بعد انهيار القوات الأمنية والعسكرية العراقية، وعجزها عن إدارة المشهد في ظل الغياب الأميركي. ويبين القره داغي لموقع "ميدان" أن هناك تطورا لدى الأجهزة الأمنية التي اكتسبت خبرات كثيرة أثناء الحرب على تنظيم الدولة، "لكن هذا لا يعني أن السيناريو الأفغاني لن يتكرَّر في العراق. فهناك فصائل مسلحة وميليشيات تهدد الدولة باستمرار، وتستعرض عضلاتها عسكريا وتلوح بتكرار النموذج اليمني في العراق، وهي تمتلك أجهزة أمنية وعسكرية واستخباراتية قوية تنافس أجهزة الدولة، ومن ثم تستطيع استغلال أي ضعف من الدولة لبسط سيطرتها".

يشير القره داغي إلى أن الجانب الأميركي يفكر في مصالحه ويضعها فوق كل اعتبار، دون الاكتراث للكوارث التي قد تقع حال إتمام الانسحاب العسكري دون تنسيق كافٍ مع الأجهزة الأمنية، وفي موعد مناسب لواشنطن فقط ولكن ليس لبغداد. ويؤكد: "هناك إصرار مستمر من الفصائل والميليشيات الموالية لإيران على ضرورة الانسحاب، وقد تكون أميركا أمام خيارين، إما التصعيد العسكري والرد على هجمات الجماعات المسلحة، وإما الانسحاب".

العراق.. هل من مسار ثالث بين كابُل وطهران؟

الفصائل الموالية لإيران في الحشد الشعبي بالعراق (رويترز)

رغم التشابه مع أفغانستان، يبقى العراق بلدا مختلفا وبعيدا نسبيا عن مصير أفغانستان، إذ إن مؤسساته القومية لها تاريخ طويل يفوق رسوخها نظيرها في أفغانستان. ويقول "فاضل أبو رغيف"، الباحث العراقي في الشؤون السياسية وتاريخ الجماعات الإرهابية، إنه لا يمكن للسيناريو الأفغاني أن يحدث في العراق، فهو دولة لديها قوة جوية أثقل بكثير، وصنوف متعددة من الوحدات القتالية، ولديها جهاز لمكافحة الإرهاب، وكذلك قيادة للعمليات المشتركة. ويعتقد أبو رغيف أن العراق نجح إلى حد كبير في مباحثات الإطار الإستراتيجي التي اختتمت قبل نحو أقل من شهرين في الولايات المتحدة، حيث تمخض عن هذه المباحثات انسحاب تدريجي بدأ العام الماضي، وسُلِّمت على إثره أكثر من 9 قواعد أميركية إلى العمليات المشتركة العراقية فضلا عن الانسحاب التام للوحدات القتالية الأميركية.

بيد أن "صفاء خلف" يسلِّط الضوء على سيناريو آخر مرتبط بالميليشيات الشيعية المدعومة إيرانيا، فيقول إن واشنطن "تعي تماما مدى قوة ونفوذ جماعات السلاح الشيعي المرتبطة بطهران، وتعي أن النظام السياسي العراقي قائم على التناقضات والتوازنات المصلحية وتداول الفساد داخل السلطة، ومن ثم فإن التمايزات بين القوى الشيعية والتنافس السني والانفصالية الكردية، كلها عوامل تجعل من الصعب سيطرة فصيل معين على السلطة، ويعني ذلك أن محاولة أي جماعة إقصاء الجماعات الأخرى، سوف تتسبب في اقتتال مُدمر، لذا ستبقى الانتخابات صيغة تداول أساسية، لا لأنها تمثيل صادق وحقيقي للشعب، بل لأنها صيغة توافق بين تلك الجماعات". يبدو ذلك المسار أقرب إلى النظام الإيراني متعدد الأقطاب، لكنه لا يحول دون قيام تلك الميليشيات المسلحة كافة بالاستيلاء على السلطة رسميا وتدشين جمهورية إسلامية تحافظ على تلك الصيغة الانتخابية المحدودة.

تحتاج بغداد إلى تقوية أجهزتها الأمنية، وتحجيم الأذرع المسلحة للأحزاب الطائفية والميليشيات، وتعزيز قدرات الجيش العراقي واحترافيته (رويترز)

بيد أن مسارا ثالثا بعيدا عن أشباح السيناريو الأفغاني والإيراني يظل ممكنا، إذ يشير "خلف" إلى أن واشنطن تمارس نفوذا عبر مؤسسات الدولة الرسمية وبعض القوى السياسية التي تخشى صعود جماعات إيران إلى السلطة، وأيضا عبر إقليم كردستان الذي لا يوجد مثيل له في أفغانستان أو إيران. ويرجح "خلف" أن تحتفظ واشنطن بوجود عسكري ولو محدودا بعد انسحابها؛ لحماية هذا التوازن بين مؤسسات الدولة العراقية من جهة، وشبكات الميليشيات المدعومة إيرانيا على الأرض من جهة، لا سيما أن العراق دولة ثقيلة إقليميا وقريبة من الخليج وسوريا، والأهم أنها تظل نقطة إستراتيجية في المواجهة الأميركية مع إيران.

في نهاية المطاف، وبغض النظر عن سيناريو الانسحاب الأميركي المرتقب من العراق، تقع المسؤولية الكبرى في تجنب مصير أفغانستاني أو إيراني على الدولة العراقية والكوادر التي تحمل لواءها اليوم بعيدة عن الانتماءات الطائفية. تحتاج بغداد إلى تقوية أجهزتها الأمنية، وتحجيم الأذرع المسلحة للأحزاب الطائفية والميليشيات، وتعزيز قدرات الجيش العراقي واحترافيته وتمثيله لأطياف الشعب العراقي كافة، بما يضمن له الوقوف بحزم أمام أي محاولات تمدُّد جديدة قد يشنها تنظيم الدولة إثر انسحاب واشنطن، وكذلك أمام أي طموحات لسيطرة تامة قد تسعى إليها المجموعات الطائفية الشيعية المسلَّحة، وحينها فقط سينجح العراق في العبور بسلام من فخ السيناريوهات المظلمة، وسيبدأ انتقاله السلس بوصفه دولة ذات سيادة لن تحتاج إلى واشنطن إلا كحليف عادي كما تفعل دول عدة بالمنطقة من جنوبها إلى شمالها.

المصدر : الجزيرة