شعار قسم ميدان

"الأجندة الإسرائيلية".. لماذا اعترف بوتين بالقدس عاصمة لإسرائيل؟

midan - إسرائيل
أعلنت وزارة الخارجية الروسية في السادس من (أبريل/نيسان) أن موسكو اعترفت رسميًا بالقدس الغربية عاصمةً لإسرائيل. أكدت روسيا في هذا الإعلان على التزامها بمبادئ الأمم المتحدة للوصول إلى تسوية فلسطينية إسرائيلية مرتقبة، وقالت إنها ارتأت أن القدس الشرقية عاصمةٌ لدولة فلسطينية مستقبلية. وقد جاء في البيان: "في الوقت ذاته، يجب علينا أن نقرّ في هذا السياق بأننا نرى أن القدس الغربية عاصمةٌ لإسرائيل". على الرغم من أن إسرائيل تستمر في اعتبار القدس بأكملها عاصمةً للبلاد، لا يوجد دولة في الوقت الحالي تُبقي على سفارتها في المدينة. فقد نقلت السلفادور وكوستاريكا سفارتيهما إلى تل أبيب منذ عقد من الزمان -وكانتا آخر البلاد التي تتبع هذا التحرك-. وعلى الرغم من الإعلان، لم تأخذ روسيا في عين اعتبارها حتى الآن أن تنقل سفارتها.

 

بيد أن بيان موسكو، الذي قال عنه المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية إيمانويل نحشون إن إسرائيل "تدرسه"، يمثل تغيرًا جوهريًا. إذ إن روسيا هي الآن الدولة الوحيدة في العالم التي تعترف بأن أي جزء من القدس عاصمةٌ لإسرائيل، رغم المباحثات التي جرت خلال الأشهر الأخيرة داخل دوائر إدارة الرئيس دونالد ترمب حول نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

 

يوجد كثير من الأسباب التي يمكنها تفسير التحرك الروسي. ويكمن أحد هذه الأسباب في توقيت التحرك من أجل تشتيت الانتباه بعيدًا عن الإدانة الدولية ضد روسيا لدعمها المستمر للرئيس السوري بشار الأسد. فقد جاء الإعلان بعد يومين من إطلاق الأسد هجومًا، هو الأسوأ منذ أعوام، بالأسلحة الكيميائية ضد شعبه، ولكن قبل الغارة الجوية الأمريكية التي جاءت ردًا على الهجوم. لا تزال الاحتمالات تسير في اتجاه أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى وراء أجندة تقدم له خدمة أكبر وأكثر ذاتية.

 

التدخل الإقليمي المتجدد لبوتين
فلاديمير بوتين أعيد انتخابه رئيسا  لجمهورية روسيا الاتحادية في مايو 2012  (رويترز)
فلاديمير بوتين أعيد انتخابه رئيسا  لجمهورية روسيا الاتحادية في مايو 2012  (رويترز)

عندما تولى بوتين مقاليد السلطة بصورة رسمية في (مايو/أيار) عام 2000، سعى نحو زيادة الدور الروسي في الشرق الأوسط بعد أن تخلى سلفه، الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، تخلياً كبيراً عن المنطقة من أجل التركيز على الشؤون الداخلية. كانت النظرة التي ينظرها الاتحاد السوفيتي إلى الشرق الأوسط ذات طابع إيديولوجي، لكن نظرة بوتين كانت براغماتيةً خالصة، فكان مستعدًا للعمل مع أي شخص في المنطقة ما دام يتفق مع المصالح الروسية، حسب ما يُعرِّفها بوتين. وبدوره، سعى الرئيس الروسي لتطوير العلاقات مع إسرائيل. فقد أشار بوتين مرارًا وتكرارًا إلى التشابه بين النضال الروسي ضد تطرف الإسلام السني وبين نضال إسرائيل الخاص بها ضد الإرهاب.

 

كما سعى أيضًا إلى تطوير العلاقات التجارية مع إسرائيل. إذ إن حجم التجارة الثنائية بين البلدين زاد ثلاثة أضعاف خلال الفترة بين عام 2000، وهو العام الذي صعد فيه إلى سدة الحكم، وعام 2014، ليصل إلى ثلاثة مليارات دولار. بالإضافة إلى أن أكثر من مليون مهاجر روسي يعتبرون إسرائيل وطنًا لهم، وكثيرًا ما يتحدث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن "مواطني" روسيا في هذا البلد. فيما تدخل إحدى الاتفاقيات حيز التنفيذ هذا العام، والتي تقضي بأن تدفع روسيا 83 مليون دولار قيمة معاشات تقاعدٍ إلى مواطني الاتحاد السوفيتي الذين يعيشون الآن في إسرائيل، حتى في ظل عدم امتلاكها أموالًا لتعديل معاشات التقاعد للمواطنين الروس، في ظل حالة التضخم.

 

وبوجه عام، سعى بوتين إلى تقييد التأثير الأمريكي في الشرق الأوسط والعمل مع الجميع داخل المنطقة، سواء كان عدوًا أو صديقًا تقليديًا. كما ساعد تعزيز أواصر العلاقات مع الدول الأخرى في المنطقة، والتحالف المتقارب مع الولايات المتحدة في هذا المنحى على بلوغه نظرته الصفرية التي يتوجه بها نحو العالم. علاوة على أن تعزيز أواصر العلاقات مع إسرائيل "والقوى السنية"، من شأنه أن يحصنه أمام الاتهامات بأنه مؤيد للشيعة.

 

ولعل إسرائيل، نتيجة لاتساع نطاق ما يصل إليه بوتين، كانت أحد البلاد القليلة -والمثير للسخرية أن إيران كانت من ضمن هذه البلاد أيضًا- التي لم تنتقده على أفعاله في الشيشان، بينما انتقدت معظم الدول الأخرى انتهاكات موسكو لحقوق الإنسان، التي ساعدت في تحوُّل ما بدأ في هيئة نضال علماني انفصالي ليصير فيما بعد ذا طابعٍ إسلاميٍ متطرف. كما كانت إسرائيل بين أوائل البلاد التي قدمت الدعم لموسكو في (سبتمبر/أيلول) 2004 بعد أن استولت مجموعة شيشانية مسلحة على مدرسة في "بيسلان" بأوسيتيا الشمالية، لتجلب إثر ذلك 18 طفلًا وآباءهم إلى إسرائيل في رحلة استشفاء لمدة ثلاثة أسابيع. وعلى الرغم من أن بلادًا أخرى أدانت أيضًا التحرك الإرهابي الشنيع، انتقد كثيرون من داخل روسيا، خاصة أقارب الرهائن، المحاولة الخرقاء التي نفذتها الحكومة لإنقاذ الرهائن، والتي أدت إلى مقتل 380 رهينة من بينهم 186 طفلًا. -استخدم بوتين "بيسلان" في أعقاب ذلك مبررًا لتردي الوضع الديمقراطي في روسيا-.
 

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي آريل شارون أثناء زيارته للقدس في 2005 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح رئيس الوزراء الإسرائيلي آريل شارون أثناء زيارته للقدس في 2005 (رويترز)

 

في (أبريل/نيسان) 2005، صار بوتين أول قائد في الكرملين يزور إسرائيل. جاءت الزيارة مع بدء روسيا ملاحقة سياسة خارجية أكثر عدوانية في العموم، وذلك في أعقاب الثورات الملونة في جورجيا، وأوكرانيا، ودول أخرى ضمن دول ما بعد الاتحاد السوفيتي، وأيضًا في الشرق الأوسط؛ وهي ما ألقى بوتين باللوم في حدوثها على كاهل الغرب. استفاد بوتين في السنوات الأخرى مما يبدو انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وتردي العلاقات مع الحلفاء التقليديين، بما فيهم إسرائيل. على سبيل المثال، زار بوتين إسرائيل في (يونيو/حزيران) 2012 للمرة الثانية قبل تسعة أشهر من الزيارة الأولى لباراك أوباما، الرئيس الأمريكي آنذاك. ومن جانبه زار بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، موسكو أكثر من عدد زياراته إلى واشنطن خلال الفترة الرئاسية لأوباما.

 

أبدى بوتين اهتمامًا في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، في جزء من التدخل الروسي الأعمق في شؤون الشرق الأوسط. فبعد انهيار محادثات كامب ديفيد في (يوليو/تموز) عام 2000، اضطلعت روسيا بدور أكبر من الوساطة. سافر ياسر عرفات إلى موسكو في الشهر التالي لمقابلة بوتين، الذي قال إن روسيا على استعداد أن "تشارك في رعاية" التسوية في الشرق الأوسط. أتبع ذلك تلاحق الزيارات والمكالمات الهاتفية بين القادة الفلسطينيين والقادة الإسرائيليين على مدى السنوات. وقال بوتين خلال اجتماعه مع نتنياهو في موسكو خلال شهر (يونيو/حزيران) 2016 "إننا نتحدث من أجل تسوية قوية وعادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي". وقد سعى بوتين، من خلال إدخال نفسه في المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية، إلى تقديم نفسه على أنه ذو رؤية أكثر اتزانًا من الولايات المتحدة، وإلى تقديم روسيا على أنها بلدٌ سوف ينجح فيما فشلت فيه واشنطن. على الرغم من أن بوتين لم يحقق هذا النجاح بعد، فقد اكتسبت روسيا أهميةً ملحوظةً باعتبارها لاعباً رئيسياً في الأحداث العالمية العصيبة؛ وهي المكانة التي يتوق بوتين إلى الوصول إليها.

 

حدود الاستراتيجية الروسية
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الروسي بوتين 2012 (رويترز)
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الروسي بوتين 2012 (رويترز)

سيكون دائمًا ثمة حدود للعلاقة الروسية الإسرائيلية. فربما ينظر بوتين إلى الدبلوماسية باعتبارها لعبةً صفرية، إلا أن القادة الإسرائيليين لن يخفضوا مستوى العلاقات مع واشنطن لاسترضاء موسكو. فقد أخبر نتنياهو الصحفيين في موسكو خلال (يونيو/حزيران) 2016 قائلًا "لا يوجد بديل للولايات المتحدة، وأنا لا أبحث عن أحد البدائل. ولكن سياستي هي البحث عن شراكات أخرى مع قوى عظمية مثل الصين والهند وروسيا والبلاد الأخرى". من المشكوك فيه أن بوتين يتوقع استبدال بلاده بالولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل؛ لأن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة عميقة وثابتة. كما أن إسرائيل لديها أسبابٌ لأن ترتاب من روسيا، ويكمن أحد هذه الأسباب في الإشكالية التي يسببها دفء العلاقات المتزايد بين موسكو وطهران. فضلًا عن أن تدخل بوتين في الشأن السوري رسخ فقط من فكرة ميل روسيا نحو دعم الشيعة في الشرق الأوسط. رفضت موسكو أيضًا أن تصنف حزب الله وحماس منظمتين إرهابيتين. وعلى أقل تقدير، يشيح المسؤولون الروس برؤوسهم بعيدًا عندما يتعلق الأمر بحيازة حزب الله لأسلحة روسية متقدمة، بالإضافة إلى أن الكرملين استضاف قادة فتح وحماس في موسكو خلال (يناير/كانون الثاني) الماضي لإجراء محادثات حول تشكيل حكومة وحدة وطنية.

 

يستمر بوتين في اتباع سياسته المرنة سعيًا منه لحيازة مزيد من النفوذ في الشرق الأوسط والإبقاء على جميع الخيارات متاحة أمامه. قد يكون هدفه الحقيقي من التحرك متعلقًا بالولايات المتحدة أكثر من تعلقه بإسرائيل

وفي السابع عشر من (مارس/آذار)، وجهت القوات الجوية الإسرائيلية ضربات عديدة إلى أهداف في سوريا لمنع وصول أسلحة متطورة إلى حزب الله. على الرغم من أن إسرائيل تنفذ مثل هذه الهجمات بشكل روتيني، فقد طالبت وزارة الخارجية الروسية من السفير الإسرائيلي لديها، غاري كوهين، "توضيح" سبب هذا التحرك الأحادي من جانب إسرائيل. لا تزال التفاصيل المتعلقة بالحادثة ضبابية، كما أن نتنياهو شدد على استمرار إسرائيل في سياستها لمنع محاولات نقل الأسلحة المتطورة إلى حزب الله. إلا أن لافروف حذر في الثاني والعشرين من (مارس/آذار) من موسكو قائلًا "سوف نحكم على الأفعال وليس الأقوال كي نقرر ما إذا كان نظراؤنا الإسرائيليون ملتزمين بـ"الاتفاقات الروسية الإسرائيلية" فيما يتعلق بالتعاون العسكري في سوريا". لا تسعى روسيا أو إسرائيل لإحداث صدع في العلاقات بينهما، لكن تعليق لافروف يعكس ميل الكرملين للنظر إلى الحلفاء على أنهم تابعون وليسوا شركاء.

 

تدين إسرائيل بجزء من وجودها إلى الاتحاد السوفيتي وتصويتها بالوكالة خلال الحرب الباردة منذ سبعين عامًا؛ لدعم قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وقيام الدولة اليهودية، لكن الكرملين سرعان ما قطع العلاقات معها بمجرد أن اتضح له وقوف إسرائيل إلى جانب المعسكر الغربي. لم تستعد روسيا العلاقات حتى عام 1991، فطالما كانت العلاقات بين موسكو وإسرائيل معقدة ومتعددة الأوجه، وهي تبقى على هذا النحو في الوقت الحالي. ربما تمتلك روسيا مبررًا جيواستراتيجيًا للاعتراف بالقدس الغربية عاصمةً لإسرائيل. لكن هذا التحرك -حتى وإن كان مثيرًا للدهشة- يلزم موسكو إلزامًا طفيفًا، لا سيما إن ظلت السفارة الروسية في تل أبيب.

 

يستمر بوتين في اتباع سياسته المرنة سعيًا منه لحيازة مزيد من النفوذ في الشرق الأوسط والإبقاء على جميع الخيارات متاحة أمامه. قد يكون هدفه الحقيقي من التحرك متعلقًا بالولايات المتحدة أكثر من تعلقه بإسرائيل؛ إذ إن البيان قد يعطي إشارة واضحة على أن ترمب في حاجة إلى أن يتعامل مع بوتين في الشرق الأوسط ليس فيما يتعلق بسوريا وحسب، بل أيضًا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. فقد جعل ترمب، مثل جميع أسلافه تقريبًا منذ الرئيس الأمريكي الراحل دوايت أيزنهاور، سلام الشرق الأوسط أولوية لدى واشنطن. ينبغي أن يعطي اعتراف بوتين بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل إشارةً إلى ترمب وجاريد كوشنر، وصهره وكبير مستشاريه -الذي كلفه ترمب بمهمة الوساطة في اتفاق سلام بالشرق الأوسط- بأن الكرملين يخطط لأن يضطلع بدور أكبر في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وقد يلعب ترمب دور صانع السلام، لكنه لن يجد نفسه وحده في الملعب.

================================================

المقال مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة