شعار قسم ميدان

من البطيخ إلى خفض التقييمات.. كيف خطط الفلسطينيون لمقاومة قيود فيسبوك؟

بسّام هو صحفي فلسطيني يعمل في منصة رقمية متنوعة، اعتاد أن يستخدم حساب فيسبوك الخاص به للترويج للمواد التي يُنتجها وتتحدَّث بالأساس في الجوانب التقنية والهندسية، لكن على الرغم من ذلك، حُذف حسابه على فيسبوك أكثر من مرة خلال السنوات الثلاث الماضية، وفي كل مرة كان يبدأ من جديد في بناء جمهوره، الأمر الذي يتطلَّب كثيرا من الجهد.

لن يكون ذلك مفاجئا لك، أنت تعرف هذه العقوبات التي تُجبرك في بعض الأحيان على التخلّي عن أي محتوى يعتبره فيسبوك تحريضا أو خطاب كراهية، لكن بالنسبة لبسّام وزملائه من الصحفيين الفلسطينيين فإن ذلك هو كل شيء، لأنك بالضرورة -كونك مُحرِّرا يغطي الشأن الفلسطيني- ستأتي على ذكر شيء يُثير خطوط فيسبوك الحمراء وينتهي بإبعادك، حتّى لو كانت مجرد كلمة "حماس" أو "غزة" في سياق تقول فيه إنّ هناك "حربا" على الجهل في القطاع!

بدأ حذف المحتوى الفلسطيني -حسابات أو منشورات- من منصة فيسبوك لأول مرة في عام 2016، وسرعان ما حذت منصات أخرى مثل تويتر وإنستغرام حذوها بذريعة قانون مكافحة الإرهاب الأميركي، كما أوضح إياد الرفاعي، مدير مركز صدى الاجتماعي، وهي مبادرة شبابية تدافع عن حقوق المستخدمين الرقمية في فلسطين، مُشيرا إلى أن "كل 66 ثانية هناك منشور تحريضي واحد ضد العرب والفلسطينيين ينشره إسرائيليون، لكن فيسبوك لا يفعل شيئا". (1)

بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من تلك النقطة، طُلب من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في فلسطين، وخاصة الصحفيين والشخصيات العامة، إعادة النظر في بعض المنشورات لتجنُّب حذف المحتوى أو حظره، لا سيما المحتوى الذي يشمل القضايا والمشاعر الوطنية. في الواقع، وثَّق مركز صدى الاجتماعي خلال العام الماضي فقط أكثر من 950 انتهاكا للمحتوى الفلسطيني عبر الإنترنت في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أغسطس/آب 2020، منها 641 انتهاكا على وسائل التواصل الاجتماعي، معظمها على موقع فيسبوك، وسجَّل شهر مارس/آذار أعلى معدل بواقع 226 مخالفة. (2)

أمين عابد هو ناشط في المجتمع المدني في مخيم جباليا، شمال غزة، وغالبا ما يخضع حسابه على فيسبوك لحظر مؤقت لمدة 24 ساعة في كل مرة ينشر فيها عن "التضامن مع الأسرى في السجون الإسرائيلية"، في المرة الأخيرة التي حاول فيها استعادة حسابه على فيسبوك قبل شهر، تلقَّى رسالة تُفيد بأنه "لم يعد بإمكانه استخدام فيسبوك". واجه عابد المشكلة نفسها مع بعض المنشورات على تويتر والصور على إنستغرام، قبل أن تُعطَّل حساباته على جميع المنصات الثلاث إلى الأبد ويُمنع من استعادتها. (3)

يسعى الفلسطينيون إلى استعادة حساباتهم والتعبير عن احتجاجهم بطرق مختلفة، وتمكَّن مركز صدى الاجتماعي من استعادة عشرات حسابات فيسبوك بعد مساعدة المستخدمين في تقديم استئناف للشركة (4)، ولا يزال المركز ينتظر استجابة فيسبوك لأكثر من 400 طلب آخر، فيما تُعلِّل الشركة تأخُّرها في الاستجابة بالقيود التي تفرضها جائحة "كوفيد-19".

هل هذا الأمر ناتج عن مجرد اضطراب في طبيعة الخوارزميات على منصة فيسبوك أم أنه مُتعمَّد؟ نعرف أن هناك تعاونا وثيقا لفيسبوك مع السلطات الإسرائيلية، نعرف كذلك أن فيسبوك يستجيب لنحو 85% (5) من الطلبات الإسرائيلية لحذف المحتوى الذي يعتبرونه "مسيئا أو مرتبطا بالإرهاب"، وقد ارتبطت الدفعات الأخيرة من الحذف وحظر الحسابات بقيود على المنشورات التي تحتوي على كلمات شائعة تتعلَّق بمقاومة الاحتلال.

عزا تويتر هذه النوعيات من الحذف إلى أخطاء فنية بسبب الخوارزميات (6)، وصرَّح إنستغرام في بيانه أن التحديث الآلي تسبَّب في ظهور المحتوى -الذي أعاد عدة مستخدمين مشاركته- على أنه مفقود، وأعرب عن أسفه لسماع أن الفلسطينيين شعروا أنهم مستهدفون.

لو تأمَّلت شهادة المديرين التنفيذيين لشركات التكنولوجيا الكبرى، مثل فيسبوك أو آبل مثلا، الذين عادة ما يُستَدعون أمام البرلمان البريطاني أو الكونغرس الأميركي لشرح آلية عمل خوارزميات البيانات، أو تفسير انتهاكاتها، فإنك ستجد أنها لا تشي بالكثير عن سياسة هذه الشركات (7) لسبب واحد بسيط؛ وهو أن الخوارزميات التي تُغذي وسائل التواصل الاجتماعي محمية كأسرار تجارية، ولا يُعثَر عليها في سجلات متاحة للجمهور مثل مكتب براءات الاختراع في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة. (8)

تقول تانيا أبلين، أستاذة قانون الملكية الفكرية في كينجز كوليدج: "تعمل براءات الاختراع على أساس الكشف الكافي عن الابتكار العلمي للمخترع لصالح المجتمع، على العكس من الأسرار التجارية التي تحافظ على سرية معرفة الصيغ والتطورات التقنية". (9) أصبحت حماية "الخلطات السرية" للخوارزميات من خلال قانون سر التجارة أمرا ضروريا خلال السنوات القليلة الماضية (من المفارقات أن نقيض هذا النهج -خوارزمية المصدر المفتوح- هي ترياق محتمل ضد السرية المُعتمة).

لكن في هذا السياق يمكن لنا فهم بعض تلك الأسرار، كان فيسبوك قد اندفع في عام 2016 إلى توقيع مذكرة تفاهم مع الحكومة الإسرائيلية لمكافحة "معاداة السامية"، وهو مصطلح يُفترض أنه يشير إلى العداء غير المُبرَّر لليهود بناء على دينهم، لكنه في هذه الحالة تحديدا توسَّع وشُحِذ لمنع انتقاد الممارسات الجائرة لدولة الاحتلال الإسرائيلي وتقويض شعب يبحث عن حريته، يكفيك أن تعرف أن كلمة "صهيونية" تُعتبر محمية بموجب سياسات خطاب الكراهية، وبالتالي يُحظر المحتوى المعادي للصهيونية والمنتقد لإسرائيل على جميع تطبيقات فيسبوك الفرعية على أساس أنه "مُعادٍ للسامية".

تقول ضيا كيّالي، المستشارة والكاتبة المستقلة في مجال حقوق الإنسان: "فيسبوك يَعُدُّ معظم الفلسطينيين من حماس، وهذه هي الطريقة التي يتعاملون بها مع المحتوى القادم من المنطقة. عليهم أن يُخصِّصوا المزيد من الموارد لهذا الأمر".

رسم ساخر يصور رئيس فيسبوك بلباس جندي إسرائيلي يمنع فلسطينيا من دخول بوابة قلعة فيسبوك (مواقع التواصل الاجتماعي)

لكن كيّالي تختلف مع الادعاء القائل إنّ ما يحدث مجرد أخطاء فنية، وتقول: "إذا كنت ستُجري نوعا من التحديث على الخوارزميات وأنت تعرف كيف يستخدم الأشخاص النظام الأساسي الخاص بك، فهل هذه هي اللحظة -أي عندما احتد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مؤخرا- التي اخترتها للقيام بذلك؟ بالطبع لا. كما أنها ليست طريقة لطرح التحديثات".

تُضيف كيالي قائلة: "الشركات لا تنشر تحديثا دون اختباره في أماكن مختلفة، لذلك في كل مرة، على سبيل المثال، يُجري فيسبوك أو إنستغرام بعض التغييرات الصغيرة، مثل تغيير تدفُّق التقارير، فإنهم يختبرون ذلك في مكان صغير. حتى لو كان خطأ، وهو ما لا أصدقه، فإنه لا يزال يعكس إهمالا تاما لحقوق الإنسان الفلسطيني". (10)

عندما نذكر الرقابة فإن أول ما يخطر على بالنا هو الرقابة بوصفها إجراء حكوميا، ومن الصعب التحدث عن الرقابة عندما نتحدث عن المنصات. لكن في هذه الحالة، يمكن أن نتعرّف إلى مدى قرب علاقة فيسبوك مع الحكومة الإسرائيلية عن طريق سرعة استجابة المنصة لطلبات دولة الاحتلال. (11)(12)

كما أثار موظفو فيسبوك بالفعل مخاوف تجاه الشبكة بشأن تحيُّزها ضد العرب والمسلمين، بحجة أن "أعدادا كبيرة من السكان يُعتبرون إرهابيين". (13) كان موظف سابق آخر قد أشار إلى محاولات فيسبوك إزالة وصف "الأراضي المحتلة" عن المناطق التي تحتلها إسرائيل في الضفة الغربية.

من عام 1980 حتى 1993، منعت الحكومة الإسرائيلية الفنانين الفلسطينيين من استخدام ألوان العلم الفلسطيني في أعمالهم. (وهكذا أصبح البطيخ رمزا للمقاومة في فلسطين)

في مواجهة كل هذا التضييق، تولّى المستخدمون في فلسطين زمام الأمور بأيديهم عن طريق بعض المبادرات الاحتجاجية. خلال الثمانينيات والتسعينيات، حين منعت الحكومة الإسرائيلية الفنانين الفلسطينيين من استخدام ألوان العلم الفلسطيني في أعمالهم، فإنهم استخدموا البطيخ رمزا للمقاومة. هناك طريقة مماثلة من المقاومة الرقمية تتبلور الآن في صورة إجراءات مبتكرة، مثل منح تقييمات منخفضة لتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي في متاجر التطبيقات، وبالأخص فيسبوك (14)، لتقليل ظهورها والحد من التفاعلات، وتوصيل رسالة إلى العالم حول قدر الانحياز الذي تمارسه هذه الشركات.

"الحملة أثَّرت على فيسبوك، وكان هذا واضحا في شكلين؛ الأول هو اهتزاز قيمة سهم فيسبوك في هذه الفترة بسبب التراجع الحاد في تقييم التطبيق على متاجر التطبيقات، لدرجة دفعت فيسبوك لتقديم طلب لحذف التقييمات "السياسية" الداعمة لفلسطين كما قالوا، ولكن شركة آبل رفضت الطلب". هكذا يجيب عُمر الشال، الكاتب التقني والمقدم الإعلامي بقناة الشرق، على سؤال لـ "ميدان" حول ذلك الأمر، قبل أن يتابع قائلا: "الشكل الثاني هو تقديم فيسبوك اعتذارا للسلطة الفلسطينية وتعديلهم بالفعل للخوارزميات وتخفيف الإجراءات ضد المنشورات الداعمة لفلسطين".

داخل فيسبوك، يُتعامَل مع الحملة على محمل الجد، وصُنِّفت خطورتها بالدرجة "SEV1″، التي تعني "الخطورة 1″، وهو وصف يُستخدم داخليا عند وجود مشكلة كبيرة في موقع الويب، يُعَدُّ "SEV1" ثاني أعلى حدث ذي أولوية بعد "SEV0″، الذي يُستخدم عندما يكون موقع الويب نفسه معطلا (15). الأمر الآخر الذي أظهر اهتمام فيسبوك بالتقييمات هو إنشاء "مركز عمليات خاص" يعمل على مدار 24 ساعة في اليوم لتخفيف خطاب الكراهية والمحتوى العنيف المتعلِّق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر. (16)

يُعقِّب الشال لـ "ميدان": "فيسبوك على وجه الخصوص، وشبكات التواصل الاجتماعي على وجه العموم، يجب أن تأخذ اتجاها أكثر حيادية بالنسبة للأمور السياسية الجدلية، وألا تتبنَّى موقف أميركا دائما،

الجدير بالذكر أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يتعرَّض فيها فيسبوك لهذا النوع من الانتقادات. فقبل عدة سنوات، تعرَّضت المنصة لانتقادات كبيرة بسبب فشلها في ملف ميانمار (17)، لكن هذه الانتقادات دفعتها للعمل مع المجتمع المدني في ميانمار ووضع بعض الأدوات والسياسات التي كانت مفيدة. هل يمكن أن يحدث ذلك في حالة فلسطين بينما يستمر فيسبوك في إقامة علاقات وثيقة مع الحكومة الإسرائيلية وتجاهل أخذ الجانب الآخر من المحادثة على محمل الجد؟

يُعقِّب الشال لـ "ميدان": "فيسبوك على وجه الخصوص، وشبكات التواصل الاجتماعي على وجه العموم، يجب أن تأخذ اتجاها أكثر حيادية بالنسبة للأمور السياسية الجدلية، وألا تتبنَّى موقف أميركا دائما، وبحكم كونها شبكات عالمية، يتعيَّن عليها أن تكون أكثر مرونة فيما يخص القضايا الإقليمية، وأن تأخذ في الاعتبار وجهات النظر الإقليمية على أقل تقدير"، مُضيفا: "كان من المفترض أن تقوم المكاتب الإقليمية لفيسبوك، وشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، بهذا الأمر في المنطقة العربية".

مؤخرا، تواصل فريق إنستغرام الشرق الأوسط مع صانعة الأفلام آلاء حمدان للتوصُّل إلى حل بخصوص العقبات التي تواجه المحتوى الفلسطيني على إنستغرام بالفعل، لكن هذا بالطبع غير كافٍ، ويبدو أن الأمر سيعتمد على النَّفَس الطويل للناشطين الفلسطينيين في مقاومة انتهاكات وسائل التواصل الاجتماعي، وقدرتهم على الضغط المتواصل بالاتجاه المقابل.

يُؤكِّد الشال لـ "ميدان": "حتى بخصوص تطبيق سياسات الخصوصية الجديدة في واتس آب، فإن فيسبوك تراجع في النهاية عن حذف حسابات مَن لم يوافقوا على السياسات الجديدة. إلى جانب عدم قدرته على تطبيق السياسة في بعض الدول مثل دول الاتحاد الأوروبي من الأساس، عموما التحرُّك الجماعي والضغط المنظَّم يؤتي ثماره بلا شك حتى ولو جزئيا".

لكن في النهاية، يبدو إلى الآن أن وعود الديمقراطية الغربية، تلك التي تُحلِّق في آفاق مثالية يمكن فقط أن تجدها على الورق في كتب الفلسفة السياسية، قد خذلت الفلسطينيين، فأصبح التعبير عن الرأي والتمثيل العادل للحقوق يواجه معضلة هائلة، الأغرب أن هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها، حيث تواجه المجتمعات المضطهدة والمُهمَّشة في جميع أنحاء العالم تحيُّزا ورقابة مماثلة!

___________________________________________________________

المصادر: 

  1. ?How Does Palestinian Content Counter the Bias of Social Media Companies
  2. التقرير السنوي لانتهاكات وسائل التواصل  الفلسطينية لعام
  3. ?How Does Palestinian Content Counter the Bias of Social Media Companies
  4. صدى سوشال: 770 انتهاكا خلال شهر مايو والمركز يقاضي فيسبوك – Sada Social 
  5. في تصريح خاص للجزيرة نت.. فيسبوك ترد على تهم الانحياز لإسرائيل
  6. Instagram, Twitter blame glitches for deleting Palestinian posts
  7. Zuckerberg’s European Parliament testimony criticised
  8. The secret system controlling your Facebook News Feed
  9. Social media platforms must abandon algorithmic secrecy 
  10. Dia Kayyali on how Facebook, Twitter, and Instagram have failed on Palestinian speech
  11. The secret system controlling your Facebook News Feed
  12. Facebook’s Secret Rules About the Word “Zionist” Impede Criticism of Israel
  13. Amid Israeli–Palestinian Violence, Facebook Employees Are Accusing Their Company Of Bias Against Arabs And Muslims
  14. Pro-Palestinian activists target Facebook with 1-star app store reviews nbcnews.com
  15. المصدر السابق
  16. Facebook set up ‘special operation center’ for content related to Israeli–Palestinian conflict
  17. The countries where democracy is most fragile are test subjects for platforms’ moderation policies
المصدر : الجزيرة