ترمب و"حياد الإنترنت".. وداعا للسرعة التي نعرفها فالقادم أبطأ!
يُمكن فهم القوانين الصارمة التي تفرضها بعض الدول على محتوى شبكة الإنترنت، فالصين على سبيل المثال تمنع مُستخدميها من الولوج إلى شبكات مثل فيسبوك أو "سناب شات"، دون نسيان خدمات غوغل المحظورة هناك منذ 2010، وهذا يأتي حفاظا على الأمن القومي وبسبب تعارض سياسة تلك المواقع مع سياسة الدولة.
لكن ابتداء من 15 (ديسمبر/كانون الأول) تلك القيود ستتغيّر وسيضاف إليها قيد جديد، على الأقل في الولايات المتحدة الأميركية، وهذا بعدما صوّتت هيئة الاتصالات الفيدرالية (FCC) على إلغاء قانون حياد الإنترنت الذي وضعته في 2015، الأمر الذي قد يُغيّر شكل شبكة الإنترنت(1).
اقترح "ويلر" خطّة تمنع مزوّدات خدمة الإنترنت من التلاعب بسرعة الاتصال مع اختلاف الخدمات، وهذا لمنع تفضيل خدمة على الأُخرى. كما اقترح وقتها ضرورة انصياع تلك المزوّدات لتعليمات الهيئة، المسؤولة بالأساس عن شبكة الاتصالات الخلوية. هذه الخطّة لم تأتِ من فراغ أبدا، ففي 2010 فرضت الهيئة قانونا لحياد الإنترنت، لكن المحكمة في 2014 أعلنت إبطاله وعدم شرعيّته، لتعود الهيئة من جديد لدراسة حجج المحكمة والتقدّم بمُتقرح جديد مدعومة بأوامر رئاسية من "باراك أوباما" الذي طالب وقتها بضرورة تفعيل قوانين توفّر شبكة إنترنت مفتوحة غير مُقيّدة للجميع دون استثناء(2).
قتال "ويلر" لم يأتِ انصياعا للأوامر الرئاسية -فقط-، بل جاء لغاية في نفسه لأن مزوّدات خدمة الإنترنت لا تعمل تحت رايته، وبإقرار قانون حياد الإنترنت فإنه سيضمن من جهة سيطرة الهيئة على تلك المزوّدات وإجبارها على العمل بالقوانين والرؤية التي يصوّت عليها أعضاء الهيئة. ومن جهة أُخرى سيُرضي أطياف الشعب الأميركي الذي بالتأكيد لا يرغب في قيام مزوّدات خدمة الإنترنت بممارسات احتكارية لا يقوى أحد على الوقوف في وجهها. في (مايو/أيار) 2014 حصل مشروع الخطّة على 3 نعم، لقاء 2 لا، وبالتالي نُقل إلى المرحلة الثانية التي استمعت فيها الهيئة لتعليقات الشركات الكُبرى ولمستخدمي شبكة الإنترنت.
وبعد جولات من الأخذ والرد، تم اعتماد قانون حياد الإنترنت الذي يُجبر جميع مزوّدات خدمة الإنترنت على مُعاملة كافّة المواقع والخدمات بنفس الطريقة ودون تمييز أو انحياز، وهذا يعني أن "نت فليكس" (Netflix) -على سبيل المثال- لن تكون قادرة على دفع مبالغ مالية لشركة "فيرايزون" (Verizon)، أو غيرها من مزوّدات الإنترنت الأميركية، لتسريع الوصول إلى محتواها، فالجميع سيصل إلى محتوى "يوتيوب ريد" بنفس سرعة وصوله إلى محتوى "نت فليكس" أو "هولو" (Hulu)، أو غيرهم من شبكات بثّ المحتوى.
بنظرة أولى على مسوّدة القرار فإنه يصبّ في مصلحة المستخدمين أولا وأخيرا، كيف لا وهم سيضمنون عدم وجود عروض وباقات خاصّة تأتي نتيجة لاتفاقات تحت الطاولة بين مزوّدات الخدمة وأصحاب المحتوى. لكنّ المُعارضين وقتها قالوا إن شبكة الإنترنت لا تُعاني من أي مشكلات، فالمحتوى متوفّر ولا حاجة إلى الدخول في سجالات قانونية طويلة لتنظيم تدفّق البيانات من قبل هيئة خاصّة، فالقانون في أميركا يأخذ بعين الاعتبار حالات الاحتكار، ويُمكن بدعوى قضائية بسيطة إنهاء أي مُمارسة لا يرضى المُشتركون عنها. لكن قرار "أوباما" جعل خطّة "ويلر" الأمثل، ولهذا السبب تم اعتمادها منذ 2015 وحتى 2017.
بعيدا عن المُسمّيات فإن مصير الشبكة مع ودون حياد الإنترنت لم يفرق كثيرا. لكن الخطّة ألجمت محاولات مُستقبلية كان من شأنها تغيير التجربة، محاولات سترى النور بنسبة كبيرة خلال الفترة المُقبلة. فشبكة الإنترنت كانت مكانا لمشاركة المحتوى واستهلاكه، وستبقى كذلك في المُستقبل، لكن التغيّر سيكون في طريقة استهلاك ذلك المحتوى.
بعد إبطال مشروع حياد الإنترنت فإن مزوّدات خدمة الإنترنت تعمل الآن تحت مظّلة القانون الأميركي، وليست تحت مظلّة هيئة الاتصالات، وبالتالي فإن قانون منع الاحتكار الأميركي هو الحاكم في الوقت الراهن، وهو قانون عام يشمل حالات تقنية خاصّة فقط. بمعنى آخر، سيكون بمقدور تلك الشركات الالتفاف عليه ومُمارسة الاحتكار بالشكل الذي يُرضيها ويُرضي الشركات التي تتعاقد معها. "باي" خلال حديثه سلّط الضوء على تلك النقطة أكثر من مرّة، إلى جانب نقطة أُخرى قال فيها إن الشركات التقنية تحتاج فقط إلى الإعلان عن مُمارساتها الاحتكارية بشكل علني أمام جميع المستخدمين، وبهذا الشكل تكون قانونية.
كلام رئيس الهيئة يعني أن مزوّد خدمة الإنترنت مثل "كومكاست" (Comcast) سيكون بمقدوره التعاقد مع شركة "هولو" لبثّ المحتوى حسب الطلب بشكل مجاني لجميع المُشتركين، أي دون استهلاك من باقة بيانات المستخدم. ولشرعنة تلك المُمارسة تحتاج أن تقوم بالإعلان عن ذلك الاتفاق على العلن، بينما ستتولى هيئة مكافحة الاحتكار مهمّة تدقيق العقود الموقّعة لضمان عدم مُخالفتها للقانون الأميركي، وبهذا الشكل يُصبح كل شيء نظاميا ورسميا. ما سبق يعني أيضا أن المُستخدم قد يجد نفسه بحاجة إلى الاشتراك مع أكثر من مزوّد خدمة إنترنت للحصول على أفضل العروض دائما، خصوصا عند استخدام أكثر من خدمة لبث المحتوى، وهي التي أصبحت كثيرة جدا في أميركا.
|
تلك الإجراءات ستأخذ عدّة أشهر لن نستغرب خلالها لو حصلت صفقات استحواذ عملاقة بين مزوّدات خدمة الإنترنت وشبكات بثّ المحتوى، فشركة "كومكاست" على سبيل المثال تمتلك منذ 2013 شبكة "إن بي سي العالمية" (NBCUniversal) التي تُعتبر من أكبر شبكات البث التلفزي في أميركا، وبالتالي فإن حصول مُشتركي "كومكاست" على امتيازات لن يكون أمرا مُستهجنا أبدا إن حصل بالفعل. ومن هنا، فإن جميع المزوّدات قد ترغب بتمييز نفسها وتقديم الأفضل لمُشتركيها.
في المُقابل، وقفت شركات تقنية كُبرى مثل "نت فليكس"، ومايكروسوفت، و"فيميو" (Vimeo)(7)، وحتى "إيه تي آند تي" (AT&T) للاتصالات، ضد هذا القرار، والقائمة ستطول وستتقدّم جميعها بدعوى قضائية في المحاكم الأميركية لوقف تنفيذ إلغاء حياد الإنترنت. وعلى سبيل المثال، وفي بيان رسمي، ذكرت شركة "إيه تي آند تي" أنها مُلتزمة منذ ظهورها بتقديم خدمة إنترنت مُتساوية للجميع دون التلاعب بالمحتوى أو حظره. مؤكّدة أنها سوف تستمر بهذا النهج حتى بعد إلغاء حياد الإنترنت لأنها وقّعت على ميثاق الإنترنت المفتوح في 2010 وستستمر في اعتماده(5).
|
وتشارك "ستيف هوفمان" (Steve Huffman)، مسؤول العمليات في موقع "ريديت" (Reddit)، مع تلك النظرة قائلا إن إلغاء حياد الإنترنت يعني منح مزوّدات خدمة الإنترنت الصلاحيات المُطلقة لتحديد الفائز والخاسر دون مُبالغة. في وقت قال فيه "أليكسس أوهانيان" (Alexis Ohanian)، أحد مؤسّسي "ريديت"، إن الشركات لا يجب أن تسمح بحصول تلك الكوارث لشبكة الإنترنت الأميركية، ويحتاج الجميع إلى المحاربة لمنعه. أما "ويرنر فوغيلس" (Werner Vogels)، المسؤول التقني في أمازون، فهو عبّر عن خيبة أمله من تخلّي الهيئة عن حياد الإنترنت، ذاكرا أن الدور الآن على أمازون وشركائها لتوفير إنترنت عادل للجميع لا مكان للاحتكار فيه(6).
|
تُحارب الشركات التقنية الكُبرى، ومُستخدمو شبكة الإنترنت في أميركا بطبيعة الحال، لإعادة حياد الإنترنت وعدم منح مزوّدي خدمة الإنترنت الفرصة للاحتكار أو للسيطرة على تدفّق البيانات ووصولها إلى المستخدمين، وهذا بالتسلّح بالقانون. لكن وجود "ترمب" في سُدّة الحكم من شأنه ضرب القانون عرض الحائط، خصوصا مع مُمارسات سابقة قام بها يُمكن أخذ العبرة منها.
وبعيدا عن أميركا فإن رائحة نفس الخطط قد تفوح في بعض البُلدان، كيف لا وثُلّة من الحكومات غالبا ما تكون شريكة مع مزوّدات خدمة الإنترنت، الأمر الذي يعني أن شرعنة تحكّم مزوّدات الخدمة بتدفّق البيانات سيجلب مزيدا من الأموال لكلا الطرفين.