شعار قسم ميدان

لماذا لن يشجع الفلسطينيون مكابي حيفا؟

Supporters hold Palestinian flags as they cheer prior to the start of the UEFA Champions League group E football match between Celtic and Atletico Madrid at Celtic Park stadium in Glasgow, Scotland, on October 25, 2023. (Photo by ANDY BUCHANAN / AFP)
مشجعون يحملون الأعلام الفلسطينية قبل مباراة سلتيك وأتلتيكو مدريد، أسكتلندا، 25 أكتوبر 2023. (الفرنسية)

من التعقيدات التي خلّفها الاحتلال البريطاني هي موجات الهجرة إلى بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من مستعمرات بريطانية سابقة، والسؤال الذي عادة ما يُوجَّه للمهاجرين إلى المملكة المتحدة من الهنود والعرب والأفارقة هو: "لماذا أنتم هنا؟"، غالبا ما يُرد عليه بـ: "لأنكم كنتم هناك"، هكذا ببساطة.

ولأن المستعمِر والمستعمَر كليهما بشر، أو بمعنى أصح ليسوا "حيوانات بشرية" كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي (1)، بمعنى أنهم في نهاية اليوم كائنات تتفاعل فيما بينها؛ تتعاون تارة، وتتقاتل تارة أخرى، تتناظر مرة، وتتفق مرة، لذا، فكما أنها تستطيع أن يكره أحدها الآخر من باب الصراع لتحقيق القيم والمصالح التي يسعى لها كل طرف، فهي تستطيع كذلك أن تقع في الحب من باب المواءمة، بل وأن تتزوج.

نؤكد أن هذه المداخلة النظرية عن الانتماء المشترك الذي سيحدث بين طرف معتدٍ وطرف مُعتدى عليه، والحديث عن الكيفية التي سيتبلور بها وعي كليهما حتى يتمكنا من العيش معا، تنبع في الأساس من رغبة الفريقين في الإفلات من قبضة "الحيونة" -إن جاز التعبير- على السلوك البشري، وسيطرتها على إدراكه. بعبارة أخرى، حتى يحدث هذا فعلى البشر أن يقرروا أن يكونوا بشرا، أما مع "الحيوانات البشرية" التي تستخدم القنابل العنقودية تاركة وراءها ألغاما أرضية ستظل حتى بعد انتهاء الحرب (2)، أو تلك التي تقصف البراميل المتفجرة بالفسفور الأبيض لتزيد أجساد الأطفال اشتعالا، فهي تخضع لنظرية أخرى سنخوض فيها.

من آسيا إلى إنجلترا.. ومن غزة إلى إسرائيل

Supporters hold Palestinian flags during Celtic FC v Atletico Madrid - - GLASGOW, SCOTLAND - OCTOBER 25: Supporters hold Palestinian flags as they cheer prior to the start of the UEFA Champions League group E football match between Celtic and Atletico Madrid at Celtic Park stadium in Glasgow, Scotland on October 25, 2023.
كان غريبا ما حدث في مباراة سلتيك الأخيرة ضد أتلتيكو مدريد؛ إذ تزين ملعب الفريق الإسكتلندي بأعلام فلسطين. (الأناضول)

رجل باكستاني يصل إلى الأراضي الإنجليزية في الستينيات، يقابل سيدة كينية جميلة، ويتفقان على الزواج. ومثل أي مهاجر لا يريد أن يمر أطفاله بما مر به هو وزوجته من صعوبات، يقرر الأب أن الابن لا بد أن يتلقى تعليما جيدا في أفضل مدارس غلاسكو. بعد التخرج في الجامعة، ينخرط الولد في السياسة، يتدرج في المناصب، من مساعد برلماني إلى عضو في البرلمان الإسكتلندي، ومن وزير إلى رئيس وزراء إسكتلندا.

في 2019، بعد أن أصبح حمزة يوسف رئيسا لوزراء إسكتلندا (3)، يقابل نادية النقلة. نادية، بدورها، هي بنت ماجد النقلة، وهو رجل فلسطيني مهاجر وقع في حب ممرضة إنجليزية رقيقة اسمها إليزابيث. ثم في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يسافر الفلسطيني والد زوجة رئيس وزراء إسكتلندا وقرينته إلى قطاع غزة لزيارة قريبه المريض، ليصبحا لاحقا جزءا من صفقة لدخول المساعدات إلى القطاع مقابل خروج الأجانب منه (4).

إذا تأملنا هذه القصة فربما نفهم ما حدث في مباراة سلتيك الأخيرة ضد أتلتيكو مدريد؛ إذ تزين ملعب الفريق الإسكتلندي بأعلام فلسطين، فما الذي دفع ممرضة إسكتلندية أن تتزوج من مهاجر فلسطيني لينتهي بها الأمر في غزة وهي محاصرة؟ ولماذا تدثر ملعب في "بريطانيا العظمى" بأعلام بلد عربي لم يذهبوا إليه قط؟

إجابة هذا السؤال تقع في تاريخ بريطانيا ذاته، فالمملكة المتحدة لم تكن دوما متحدة (5)، وإسكتلندا، التي تُعَدُّ حاليا أحد أربعة بلدان تُشكِّل معا هذه المملكة، كان لديها تاريخ طويل من الحروب مع إنجلترا، امتدّ من أوائل القرن الرابع عشر حتى نهاية السادس عشر، حتى إن جماهير سلتيك أظهرت أنها ما زالت تتذكر هذا كله بعد نعيها للملكة إليزابيث، عن طريق الهتاف في المدرجات بأغانٍ مُهينة استهدفت العائلة المالكة.

مع ذلك، تمكنت إنجلترا وإسكتلندا وأيرلندا الشمالية وويلز من تكوين دولة اتحادية تحت نظام ملكي دستوري، خوَّلها إنشاء اقتصاد موحد وجيش مشترك، وصولا إلى الرياضة التي قررت فيها الدول الأربع أن تخوض الألعاب الأولمبية تحت اسم بريطانيا العظمى. فكيف حدث هذا؟

إجابة الأسئلة

Supporters hold Palestinian flags during Celtic FC v Atletico Madrid - - GLASGOW, SCOTLAND - OCTOBER 25: Supporters hold Palestinian flags as they cheer prior to the start of the UEFA Champions League group E football match between Celtic and Atletico Madrid at Celtic Park stadium in Glasgow, Scotland on October 25, 2023.
أعلام فلسطين مرفوعة داخل ملعب الفريق الإسكتلندي "سلتيك" في مباراته الأخيرة ضد أتلتيكو مدريد. (الأناضول)

الاندماج، يُعرّف الكيميائيون الاندماج بأنه العملية التي تندمج على إثرها نواتان ذريتان خفيفتان لتكوّنا نواة ذرية واحدة أثقل وزنا. أما اجتماعيا وسياسيا، فالاندماج هو حالة الاستقرار التي تصل إليها جماعات مختلفة إثنيا ودينيا تقبع في منطقة جغرافية واحدة بعد تطور وعيها الجمعي، الذي يصل بها إلى تكوين قناعة مفادها أن الدولة التي تعيش فيها تلك الجماعات هي كيان "فوق-هوياتي" بإمكانه أن يتولى مسؤولية حماية حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن قوميتهم وأعراقهم وأديانهم.

لقد اندمجت في الدولة البريطانية في نهاية الأمر شعوب مختلفة لديها أسباب عدة لمعاداة هذه الدولة، ونحن هنا لسنا بصدد إجراء عملية تجميل للاستعمار الإنجليزي الذي تبنى القوة والقسر لفرض ثقافته ولغته، وجنى من مستعمراته أضعاف ما جنى من ثورته الصناعية، ولكننا نريد أن نفهم السبب الذي جعل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني يفشل في الوصول إلى النتيجة ذاتها مع الفلسطينيين بعد مرور ثمانين عاما على الاحتلال.

بمعنى آخر، لقد نجح العرب إلى حدٍّ ما في تجاوز جرائم الاستعمار الإنجليزي، والآن يشجع المصريون ليفربول في البريميرليغ، فهل سيستطيع الفلسطيني أن يشجع مكابي حيفا يوما ما؟ وهل سيتمكن مشجع كرة القدم الفلسطيني في المستقبل من أن يقفز ويرقص ويهتف ويشعل "الشماريخ" ليحفز فريقَ كرة قدم إسرائيليا؟ كما يفعل الجزائريون الآن مثلا مع مارسيليا رغم الاستعمار الفرنسي والعداء القديم الذي راح ضحيته مليون جزائري؟

"نعرف ونتظاهر بأننا لا نعرف"

A man wearing an anti Zionist signage takes part in a demonstration to express solidarity with Palestinians in Gaza, amid the ongoing conflict between Israel and Hamas, in New York City, New York, U.S., October 26, 2023. REUTERS/Eduardo Munoz
نحن أمام جماعة بشرية تمتلك هوية دينية تحللت إلى موروث ثقافي، ومكون هذه الهوية الرئيسي هو ببساطة إثنية تقوم بإبعاد الفلسطيني بالأخص، وغير اليهودي بالأعم. (رويترز)

ينبغي الإشارة أولا إلى واقع أن إسرائيل هي الدولة الدينية الوحيدة في العالم. بمعنى أنها الدولة الوحيدة التي لا تزال حتى هذه اللحظة تمنح بشرا في أي مكان على الأرض جوازات سفرها بسبب ديانتهم (6). المفارقة هنا أن اليهود المتدينين في إسرائيل هم أقلية، مقابل أكثرية يرون أن اليهودية بالنسبة إليهم أقرب إلى مسألة عِرق وثقافة أكثر مما هي دين يُعتنق وطقوس تُمارس (7). هذا التناقض الواضح داخل المجتمع الإسرائيلي المشحون بإرث الاضطهاد في أوروبا منذ عهد قريب يجعل كثيرين يرون أن إسرائيل دولة تتغذى على "كراهية الفلسطينيين"، لأنها إذا لم تكره إسرائيلُ الفلسطينيين فستكره نفسها.

كان ذلك واضحا قبل اندلاع "طوفان الأقصى"؛ إذ قام العلمانيون والمتدينون الصهاينة بدهس بعضهم بعضا في الشوارع بسبب محاولة الحكومة الحالية التي تحوي عددا من الوزراء المتطرفين لتقليص صلاحيات المحكمة العليا (8)، حدث هذا بعد خفوت القضية الفلسطينية عن الساحة السياسية الإسرائيلية واطمئنان إسرائيل للتطبيع مع جيرانها العرب. إذن نحن أمام جماعة بشرية تمتلك هوية دينية تحللت إلى موروث ثقافي، ومكون هذه الهوية الرئيسي هو ببساطة إثنية تقوم بإبعاد الفلسطيني بالأخص، وغير اليهودي بالأعم، وإقصائه عن تلك الجماعة، ليس فقط لأن الفلسطيني سيئ من وجهة نظرهم، ولكن لأن إسرائيل بحاجة دائما إلى عدو.

إسرائيل/غزة – الدليل الإرشادي للرجل الأبيض

Palestinian refugee camp of Nur Shams in Tulkarem- - TULKAREM, WEST BANK - AUGUST 02: A view of the Palestinian refugee camp of Nur Shams in Tulkarem, West Bank on August 02, 2023. People of the Nur Shams camp fear a large-scale air and ground attack of Israeli forces similar to the one launched against Jenin last month. Israeli forces also frequently carry out small-scale raids on the camp citing "wanted persons".
هناك مشاريع قوانين إسرائيلية يبدو أن الغرض منها ليس منع الفلسطينيين من تملك الأراضي أو حتى طردهم منها، ولكن الهدف دوما يكون قهر الفلسطيني وإذلاله. (الأناضول)

في الواقع، فإن إسرائيل لم تلتزم حتى بالنموذج الإنجليزي-الفرنسي في الاستعمار، فبينما قام أحفاد سايكس وبيكو بانتهاج سياسات عملت على إضعاف القدرة المادية لسكان المستعمرات وتقويض إرادتهم، قامت إسرائيل بسحق الوجود المادي للفلسطينيين في غزة تماما، وبينما قام الفرنسيون والإنجليز باستغلال سكان المستعمرات في العمل لديهم، لم ترغب إسرائيل حتى في فعل ذلك إلا بنسب وشروط، لذلك فنسبة البطالة في قطاع غزة تُعَدُّ من النسب الأعلى في العالم.

بمعنى آخر، قام الاستعمار الإمبريالي بتجريد المستعمَرين من حقوقهم بوصفهم جماعات، مع إعطائهم مساحة لاحقا بوصفهم أفرادا يتمتعون بالحد الأدنى من الحقوق المدنية والسياسية، التي مكّنتهم -ولو نسبيا- من إنتاج مشاعر انتماء للمستعمِر وخداع أنفسهم بكونهم جزءا من كيان ما ربما يكون أكثر تطورا منهم، وهكذا في حالة الهجرة إلى أوروبا، يقوم مواطن العالم الثالث بترجمة التهميش الذي يتعرض له إلى تأطير أو تبرير تحت إطار التباين الثقافي بين العالم الثالث "المتخلف" والعالم الغربي "المتحضر".

أما استعمار إسرائيل الاستيطاني فلم يستطع حتى أن يمنح هذه الرفاهية للفلسطينيين على المستوى الفردي، إذ إن هناك مشاريع قوانين إسرائيلية يبدو أن الغرض منها ليس منع الفلسطينيين من تملك الأراضي أو حتى طردهم منها، فكل هذا ضروري لأجل التعاونيات الزراعية اليهودية، ولكن الهدف دوما يكون قهر الفلسطيني وإذلاله كفرد كما يقول الفلسطينيون أنفسهم. ومثال ذلك هو القانون الذي يمكّن العربي من شراء بيت في القدس في حالة جلبه لموافقة عشرة يهود من جيرانه، فما هذا الإصرار العجيب على الازدراء؟ ومَن الذي سيفعل ذلك أصلا؟ (9)

أطفال يقتلون أطفالا.. فأين المشكلة؟

بالطبع قام كلٌّ من الاستعمار الإمبريالي والاستيطاني، على حدٍّ سواء، بقتل السكان الأصليين واستهداف حياة المدنيين، ولكن حتى حينما فعل الإنجليز والفرنسيون ذلك، فإنهم لم يستهدفوا الأطفال -على الأرجح- كما فعلت إسرائيل. وحتى في سربرنيتشا، عندما قام الصرب بإبادة 6 آلاف طفل من البوسنة، فعلوا ذلك خلال حرب دامت ثلاث سنوات.

وكما أن التاريخ يعج بتصريحات خرقاء من مسؤولين كبار، لكن من الصعب أن نجد تصريحا كالذي أدلت به عضوة في الكنيست الإسرائيلي، تُدعى ميراف بن آري، عندما قالت منذ أسابيع إن أطفال غزة هم الذين جلبوا هذا إلى أنفسهم، مشيرة إلى قتل آلاف الأطفال منذ بدء العدوان على القطاع، لدرجة أن منظمات المجتمع المدني في غزة باتت تواجه صعوبة في عد الجثث (10).

ربما تكون خطيئة الغرب الكبرى هي إنجابه لإسرائيل ثم دأبه على معاملة الصهاينة كأطفال لا يكبرون أبدا، فكانت المأساة أن الإسرائيليين يؤمنون في هذه اللحظة بعدم إمكانية محاسبتهم أبدا، لدرجة الجهر رسميا بتصريحات تقول إنهم يمكنهم إيذاء أطفال الآخرين دون الشعور بالذنب.

الشعب الإسرائيلي يُمنطِق قتل الأطفال الآن لأنه يؤمن في قرارة نفسه أنه طفل الغرب المشاكس، وإذا قام بإيذاء أطفال فلسطين، فالكبار لا يمكنهم التدخل بين الصغار إذا تشاجروا. حتى هؤلاء الرضع هم ليسوا رضعا في حقيقة الأمر، هم فقط إرهابيون لم يكبروا بعد، وفي حالة عدم ذبحهم، فمن المؤكد أن أجسادهم ستنمو، وعندها سيتحولون إلى "نازيين"، أو ما هو أسوأ.

ولأن الأمم لديها ذاكرة مثل الإنسان، فلن يتمكن الفلسطيني (الإنسان/الأمة) أبدا من نسيان ما فعلته إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولن يقدر في المستقبل على إنتاج أنماط ساهية تُمكِّنه من تناسي جرائم إسرائيل، بعدما ألقت الأخيرة كل العقد النفسية البشرية على غزة بطريقة عجيبة في شهر واحد. لذلك، فالفلسطيني الذي أظهرت الكاميرات عشقه لكرة القدم خلال كأس العالم الأخيرة لن ينجح في تشجيع مكابي حيفا. أولا لأن النادي الإسرائيلي سيظل نادي درجة ثانية مقارنة بنظرائه في أوروبا، وثانيا لأن من المحتمل جدا بعد ما أنجزته المقاومة أن يعود الفلسطينيون يوما ما إلى حيفا فور زوال إسرائيل، ليكون لهم فريق لكرة القدم يشجعونه بحماس.

———————————————————-

المصادر

  1. وزير الدفاع الإسرائيلي يعلن حصارا كاملا على غزة: لا كهرباء، لا غذاء، لا وقود
  2. تعريف القنبلة العنقودية
  3. السيرة الشخصية لحمزة يوسف رئيس وزراء إسكتلندا
  4.  أحماء حمزة يوسف يعودون إلى إسكتلندا بعد الهروب من غزة
  5. تاريخ إسكتلندا
  6.  لماذا أصبحت إسرائيل ملاذا آمنا للمليارديرات الروس؟
  7. تقسيمة المجتمع الإسرائيلي الدينية
  8. إيهود أولمرت: إسرائيل تتجه نحو حرب أهلية
  9. تجاوز عتبة: السلطات الإسرائيلية وجرائم الفصل العنصري والاضطهاد
  10. آخر حصيلة للقتلى في غزة.. الصحة الفلسطينية تجدد أرقامها
المصدر : الجزيرة