شعار قسم ميدان

ألزهايمر وكرة القدم.. عن علاقة الأمراض العقلية باللعبة

عنوان ميدان

"مَن أنا؟"، كان ذلك هو السؤال الذي ظل يُردِّده جيف وهو مُلقى على أرضية منزله مختنقا بعد إطفاء شموع عيد ميلاد ابنته داون أستل الـ 34، ساد شعور بالصدمة جميع أنحاء الغرفة، وتحوّلت في لحظات سريعة مشاعر الاحتفال إلى مشاعر حزن وعدم استيعاب لما يحدث.

 

الرجل ما زال مُلقى على الأرض ولا يستطيع التنفس، جميع مَن في الغرفة يحاولون المساعدة ويناهضون، بكل الطرق، فكرة أن هناك شخصا يحتضر أمامهم الآن. تهبط داون على ركبتيها باكية وتأخذ والدها بين أحضانها: "أرجوك يا أبي لا تتركني الآن وترحل". ذلك ما ظنَّ الحضور أنها قالته له بكلماتها المتلعثمة المختلطة بنحيبها ودموعها، استمرت محاولة إنقاذه لثوانٍ أخرى، واستمر جيف يسأل ذلك السؤال بصوت خافت ومتقطع حتى صمت كليا وتمركزت عيناه على كعكة عيد الميلاد التي وقعت على الأرض بجواره، لم تفارق روحه جسده بعد لكننا الآن أمام لحظات الرجل الأخيرة في دنيانا.

 

"أقسم لك يا أبي إذا كانت كرة القدم هي سبب ما حدث لك، فتأكد أن العالم كله سيعرف ذلك. أقسم لك أنني سأجلب لك العدالة".

 

أخذ جيف في الاستدارة برأسه قليلا مُوجِّها حديثه لابنته: "عزيزتي.."، ثم ينظر إليها في عينيها قائلا: "مَن أنت؟".

 

وهنا تتوقف حياة الرجل ويسترخي جسده بين أحضان ابنته، الفتاة تبكي وهي تحتضن والدها، ولا تدري هل تبكي بسبب موت والدها أم أن كلماته الأخيرة هي أكثر ما حطّم فؤادها قطعا. (1)

 

عنوان ميدان

يُفتح المشهد تدريجيا على ردهة فسيحة ومترفة ذات حوائط بنية اللون، لا تستطيع بسهولة تجاهل وصفها بالترف بسبب ذلك التمثال الذهبي الكبير الذي ستقع عليه عينك فور دخولك المكان لتلك السيدة التي تحمل بين أحضانها طفلا سيكبر بعد ذلك ليُلقَّب بالمسيح، تبدأ الكاميرا في التجول بأروقة تلك الردهة لتعريفنا بالمكان، فتظهر هناك على اليسار نافذة كبيرة تجلس بجوارها سيدة عجوز وأخرى في ريعان شبابها تتبادلان أطراف الحديث، خلفهما ببضعة أمتار يجلس رجل يرتدي ملابس رسمية مع ثلاثة رجال بأرذل أعمارهم، لن تحتاج إلا إلى بعض اللحظات حتى تدرك أنه يحاول إقناعهم بمهاراته المطلقة في مجال كتابة الوصايا وتوثيقها، تستمر الكاميرا بالتجول أكثر فأكثر، هناك ممرضة نلمحها تتجول بجانب أحد النزلاء في الممر الطويل المؤدي إلى باقي الغرف.

 

تعبر الكاميرا السيدتين ثم تقتحم إحدى الغرف الموجودة على اليسار، وحينها نستمع للموسيقى التي تدور داخل تلك الغرفة، وهنا لا نلحظ أي اختلاف في الأجواء الموجودة بالداخل عما شعرنا بها في جولتنا بالردهة، المزيد من كبار السن والعجائز ليس إلا. بمواجهة الباب نرى رجلا يتوكأ بيده المرتعشة على عصاه وينظر إلى المقبلين عبر المدخل، هناك على اليمين المزيد من الرجال والنساء يستمعون إلى وعظ ديني يُلقيه أحد رجال الدين، وفي أقصى اليسار نرى تلفازا مضيئا يتكلم خلاله أحد المذيعين، أمامه يجلس بعض الرجال ولا يكترث منهم لما يقال سوى شخص واحد فقط ترتعش يداه بشدة ويرتدي نظارة شمسية أنيقة، يجلس على كرسي هزاز كلاسيكي وينظر بشدة إلى المذيع وهو يتحدث.

 

"بعد أكثر من 15 عاما من وفاة لاعب ويست بروميتش ومنتخب إنجلترا السابق، جيف أستل، ما زالت قضية وفاته محل جدل واسع حتى هذه اللحظة".

epa00582555 (FILES) Undated picture showing former Manchester United and Northern Ireland soccer legend George Best (R) signing footballs after appearing in a testimonial match for West Bromwich and England player Jeff Astle (L) at the Hawthorns in West Bromwich, central England. Football legend George Best died Friday, 25 November 2005, in London's Cromwell Hospital at the age of 59. EPA/- UK & IRELAND OUT B/W ONLY
صورة غير مؤرخة تظهر أسطورة كرة القدم السابق لمانشستر يونايتد وأيرلندا الشمالية جورج بيست (على اليمين) وهو يوقع كرات قدم ولاعب إنجلترا جيف أستل (يسار) في هوثورن في وست برومويتش بوسط إنجلترا

ثم استطرد المذيع قائلا:

"كان جيف يعاني قبل وفاته بمدة طويلة مع أمراض ألزهايمر والخرف، وخاضت عائلته بقيادة نجلته داون أستل حربا شرسة لإثبات الضرر الذي ألحقته كرة القدم بأبيها". (2)

 

وهنا بدأ الرجل على الكرسي الهزاز بالاهتمام أكثر بما يقال في التلفاز، توقفت الرعشة لثوانٍ معدودة وتوقف عن هز كرسيه وقام بالاستناد إلى عصاه.

 

"وقام فريق طبي كبير على مدار 12 عاما كاملة بأبحاث على رأس نجم البروم السابق، حتى توصلوا إلى أن وفاته ناجمة عن ضربات متكررة على الرأس بأداة صناعية، وهو ما وضع صناعة كرة القدم بأكملها في وضع حرج".

 

"ما زالت التحقيقات مستمرة، وما زالت القضية مثار جدل واسع، خصوصا بعد تأكد إصابة خمسة لاعبين من أصل 11 لاعبا من أبطال منتخب إنجلترا التاريخي الحائز على بطولة كأس العالم عام 1966 بأمراض الخرف وألزهايمر".

 

هنا يمسك الرجل بجهاز التحكم بعصبية ويقوم بغلق التلفاز في وجه المذيع، ما زالت يداه ترتعش كعادتها، وعاد ليستند مجددا إلى عصاه ثم حدّق في الفراغ لبعض الوقت، حينها بدأت عيناه في ذرف الدموع، حاول أن يعرف لماذا نزلت تلك الدموع لكنه لم يستطع التذكر، واستمرت في الخلفية تلك الموسيقى الهادئة في العزف واندمج معها، حتى جاءته إحدى السيدات بابتسامتها العريضة التي تعتبر أحد قلائل الأشياء التي يستطيع الرجل تمييزها بسهولة بتلك الأيام، وأمسكت طرف كرسيه المتحرك وقالت له:

 

"صباح الخير يا صديقي، هل نمت جيدا؟".

 

– "نعم، لقد فعلت، آسف لا أستطيع تذكُّرك".

 

تضحك الفتاة ضحكة قصيرة ثم تستطرد حديثها معه قائلة:

"نعم نعم، لقد اعتدت منك على ذلك سيد جاك، أنا ممرضتك، وأنت سير جاك تشارلتون أحد أفراد جيلنا العظيم الذي أحضر لنا بطولة العالم لعام 1966، لم أكن حاضرة للأسف إبان حملك للكأس مع الشباب، لكن إنجازاتك في الملاعب وفي المجال التدريبي تتحدث عن نفسها".

 

– "شكرا عزيزتي، لكي لا أكذب عليكِ أنا لا أتذكُّر أي حرف مما قلتِ، ولكن يبدو أنني كنت عظيما في الماضي، الآن هل يمكنني أن أذهب إلى دورة المياه؟".

 

كان ذلك هو جاك تشارلتون، الأسطورة جاك تشارلتون، من داخل إحدى دور المسنين بالمملكة المتحدة. رجل يتذكره الجميع، إلا نفسه. (3)

 

عنوان ميدان

من الردهة نفسها التي بدأنا منها المشهد الأول، يُفتتح المشهد الثاني، لكن تلك المرة المكان شبه مهجور، لا وجود لهؤلاء الزوار الذين ازدحم المكان بهم، ولم تعد الأضواء موجودة كما كانت على ذلك التمثال الذهبي لتلك السيدة التي تحمل الطفل بين أحضانها، فلم يعد يوجد أحد ليراه من الأساس، وفقد قيمته الحقيقية التي اكتسبها من كونه تحفة وتراثا وُجِد لكي يراه الناس.

 

تستمر الكاميرا في التجول بالردهة كما فعلت بالمشهد الأول، وبدأنا نلحظ وجود بعض الممرضات في الصورة، لكنهن مرتديات للكمامات. ما زالت هناك بعض الوجوه المألوفة، كالسيدة التي كانت جالسة مع ابنتها الشابة، لكن تلك المرة السيدة تجلس بذلك المكان تنظر من النافذة بحزن ووحدة. هناك رجلان على اليمين يتحدثان بين بعضهما بعضا، لم نتمكّن من التقاط ما يقولانه سوى بضع كلمات أبرزها: "وباء، حظر، تباعد"، وتلك كانت كلمات أكثر من كافية لنستنبط أن دار المسنين تلك تواجه أزمة كورونا، حالها كحالنا، وكحال العالم أجمع.

 

هنا تستمر الكاميرا في التجول بالمكان حتى وصلت إلى الغرفة التي دخلتها في المرة السابقة، ما زالت الغرفة تحافظ على أناقتها وأجوائها الهادئة والكلاسيكية، أول شيء ستلمحه أن الرجل الذي كان جالسا بمواجهة الباب لم يعد له وجود، ثم تنظر إلى يمينك فلن تجد هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يستمعون للوعظ الديني. تغيّرت معالم الغرفة التي عهدناها، عدا التلفاز، والرجال الجالسين أمام التلفاز، وتلك الموسيقى التي لم تتوقف في ذلك المكان منذ سنوات.

 

* كانت ليالي الحظر القاسية مريرة على الكوكب أجمع، وكانت أشد مرارة على هؤلاء الناس في دور المسنين، لم يستطيعوا أن يروا أهلهم وذويهم بالأسابيع، حفاظا على صحتهم من ذلك الوباء، وهو الأمر الذي يُفسِّر ذلك التغيُّر المريب بالدار عما عهدناه من قبل.

 

* لضيق الوقت، ولأننا كما لاحظت نتعامل مع بعض الأشخاص الذين يعانون من أمراض ألزهايمر والخرف العقلي، فهناك بعض الرجال الذين انضموا لجاك تشارلتون بالأشهر الأخيرة بالدار وهم: رجال مونديال 1966 متمثلين في السير بوبي تشارلتون شقيق جاك ونوبي ستيلز.. اضطررنا لإخبارك بأسمائهم لأنهم في الأغلب لن يستطيعوا فعل ذلك. (4) (5)

English soccer players Bobby Charlton and Nobby Stiles of Manchester United FC, UK, 1st August 1968. (Photo by Evening Standard/Hulton Archive/Getty Images)
لاعبا كرة القدم الإنجليزيان بوبي تشارلتون ونوبي ستيلز من نادي مانشستر يونايتد

تسمّر الرجال أمام التلفاز في محاولة لإمضاء الوقت، ومن التناغم العجيب الذي نستطيع ملاحظته بين الرفاق يبدو أنهم يقومون بذلك يوميا، لدرجة جعلتهم قادرين على التفاهم دون حتى معرفة أحدهم للآخر. الآن هم يشاهدون إحدى المباريات بتصوير الأبيض والأسود، وبتدقيق بسيط يمكننا معرفة المباراة، إنها نهائي كأس العالم لعام 1966، المباراة التي توّجت الرجال الثلاثة الجالسين أمامنا بالبطولة.

 

الآن سيلعب بوبي مور الركلة الحرة داخل منطقة جزاء ألمانيا الغربية، لتجد رأس جيوف هيرست التي غيّرت مسارها وأسكنتها شباك الألمان مُحرِزة التعادل للإنجليز في تلك المباراة بالدقيقة 18، فرح الرجال أمام التلفاز بذلك الهدف كثيرا، مرت إحدى الممرضات، وهي صديقة جاك التي اعتادت على عدم تذكُّره لها، قائلة:

"نعم تلك المباراة، لقد كنتم تلعبون بها يا رفاق وحققتم المجد".

 

ليجيبها أحدهم قائلا: "هل هؤلاء نحن حقا؟".

 

– "نعم ثلاثتكم كنتم جزءا من الفريق الذي جلب البطولة لنا، حتى إن الجميع لام جاك *وأشارت وهي مبتسمة ابتسامة ماكرة له* في تلك المباراة لأنه لم يضغط بشكل كافٍ لكي يمنع اللاعب الألماني من إحراز أول أهداف منتخبه في تلك المباراة".

 

قهقه الرجال مازحين، وضحك معهم جاك ساخرا من حاله، لأنه حسبما يتذكر كان من دقيقتين يطلق بعض السباب لأحد اللاعبين الذي لم يضغط بقوة على لاعب المنتخب الألماني قبل أن يُسدِّد تسديدته، بالطبع قبل أن يعرف أنه هو مَن تسبَّب بتلك الكارثة.

 

قُطِعت المباراة بعد هدف جيوف هيرست، تعجّب الرجال قليلا حتى إن السير بوبي قال بنبرة استنكارية ويداه ترتعشان: "ألم نكن نلعب هناك منذ قليل.. هيا أعيدوا المباراة أريد أن أشاهد رفع الكأس".

 

ثم ظهر على التلفاز أحد البرامج الحوارية، وخلاله مذيع وسيم يقول بنبرة هادئة:

"ما عرضناه الآن هو مقطع قصير شعرنا بسببه بالكثير من التقدير والامتنان لرجالنا عام 1966، لكننا وفقا للتغيرات الحالية، يفرض علينا ذلك المقطع سؤالا واضحا ومحددا: إذا كان جيوف هيرست يعرف مخاطر تسديده لتلك الكرة برأسه، فهل كان سيقوم بالقفز لمقابلتها مثلما فعل أم كان سيتركها لتمر دون اعتراضها؟".

 

ليجيبه أحد الرجال الجالسين معه في الأستوديو:

"بالطبع لم يكن ليفعل ذلك، يجب أن ندرك حجم المأساة التي نعيشها، هناك ستة لاعبين من الفريق الذي لعب تلك المباراة مصابون بأمراض ألزهايمر والخرف، وهناك العديد من نجوم السبعينيات والستينيات من القرن الماضي توفوا بسبب تلك الأمراض، كجيف أستل وألان جارفيس وراي ويلسون، وغيرهم الكثير. وكل هؤلاء جاءت نتائج تحاليل رؤوسهم أن هناك ضربات متكررة على الرأس بأداة صناعية سببت لهم تلك الأمراض والمضاعفات التي حدثت لهم".

 

يُحملق الرجال في الشاشة وهم غير مستوعبين بعد ما يسمعونه، ثم تكلم أحدهم، على الأرجح كان نوبي ستيلز، قائلا:

"إذن حسبما فهمت مما سمعته هذا، وبما أننا كنا نلعب منذ قليل بإحدى المباريات، فنحن كنا نلعب تلك اللعبة في الماضي، وفي الأغلب أنا لا أتذكر أين وضعت نظارتي بسبب ذلك المرض الذي يتحدثون عنه".

West Germany's Wolfgang Weber pokes the ball past England's diving goalkeeper, Gordon Banks, for an equaliser in the last minute of normal time in the World Cup Final at Wembley. England went on to win the 1966 World Cup 4-2 after extra time. (Photo by Keystone/Getty Images)

قبل أن يكمل أحد الأشخاص من التلفاز قائلا:

"وحقيقة الأمر، فإن اتحادات كرة القدم بأكملها تضع رؤوسها في الوحل غير مدركة لحجم الكارثة التي نواجهها، الرأسيات تُسبِّب مشكلات صحية خطيرة على المدى البعيد. تلك حقائق لست أنا مَن أَقرّها، بل العلم وسنوات طويلة من البحث والتنقيب في ذلك الشأن أكّدت أن احتمالات إصابة لاعبي الأجيال القديمة بأمراض التنكس العصبي أكبر بثلاثة أضعاف من احتمالات إصابة باقي الأشخاص العاديين، كذلك مرض ألزهايمر بشكل خاص وصل إلى خمسة أضعاف". (6)

 

لتتحدث الفتاة الوحيدة الموجودة بالأستوديو قائلة:

"وهذا أمر خطير يبدو على الاتحادات أنها لا تُدركه بعد، نحن نحارب منذ 18 عاما لإثبات صحة تلك المخاطر ومحاولة إيجاد حلول وسط تُخرِج اللعبة من ذلك المأزق، لكن الجميع لا يريد إلا مصلحته. تلك الأمراض تدمر العائلات قبل أي شيء آخر، يمكنكم الذهاب للسؤال عن كريس شيلتون هداف هال سيتي بالماضي، الرجل يعاني من ألزهايمر وأصبح بحاجة إلى مستوى عناية مختلف لا تستطيع عائلته أن توفره له، وأين رابطة المحترفين من كل هذا العبث؟ فقط دفعت ما يكفي لبقاء كريس في دار للمسنين لمدة أربعة أسابيع فقط، وجعلت العائلة تطلب التبرعات من المعجبين لدفع الجزء الباقي من الأموال.. عبث". (7)

 

اكتفى جاك بما سمعه، وتمتم ببعض الكلمات ثم قام بالاستناد إلى عصاه الخشبية غاضبا وقرّر أن يذهب إلى دورة المياه، في هذه الأثناء كان بوبي وستيلز مستمرين في الاستماع لما يقوله هؤلاء الأشخاص، وازداد مقتهم لتلك اللعبة التي تدمر الجميع بلا رحمة أو هوادة.

 

عنوان ميدان

عاد جاك مجددا إلى رفاقه وتابعوا مشاهدة التلفاز، على الأغلب جاك لم يعد يتذكر أي شيء عن الذي سمعه بمجرد ذهابه إلى دورة المياه، لكن حماس رفيقيه ناحية ما يسمعانه جعله يشاهد معهما في صمت.

 

ثم تابع الرجل الجالس بجانب الفتاة حديثه قائلا:

"نحن بوصفنا عائلات للمرضى نشعر بأننا وحدنا في تلك المعركة، لا نبحث عن القصاص لوالدينا الذين يعانون من تلك الأمراض، لكن نبحث عن التقدير لهؤلاء الذين قاموا بترك إرث كبير للعبة وفي الأخير أدارت ظهرها لهم. عندما يتحدث غوردون تايلور ساخرا بأن والدته تعاني من الخرف وهي لم ترأس الكرة برأسها فذلك تقليل من الاحترام لقضيتنا، كما لو أن هناك فيلا عملاقا بالغرفة وأنت تتعمد ألّا تراه".

 

"لكن في النهاية يجب أن يعي الجميع أننا لا نبحث عن حق آبائنا فقط، لأننا نحاول قبل كل شيء أن ننشر التوعية اللازمة للأجيال القادمة بشأن الأخطار التي قد تنجم عن ممارسة اللعبة. والدي كريس سوتون في الماضي مثلا إذا كان يعي ما سيحدث له بسبب الرأسيات ربما كان قرر العمل في مجال آخر غير الكرة، كذلك الأجيال الحالية، لذلك أرى أن قرار منع الرأسيات للناشئين بالمملكة المتحدة قرار صائب للغاية".

 

وهنا رد أحد الجالسين أمام التلفاز، في الأغلب كان ستيلز:

"مَن يكون كريس سوتون ذلك يا ترى؟".

Football - UEFA Cup , 2nd Round , 2nd Leg , Blackburn Rovers v Celtic , 14/11/02 Celtic's Chris Sutton celebrates after scoring the 2nd goal for Celtic Mandatory Credit:Action Images / Darren Walsh
كريس سوتون

ليجيبه بوبي:

"لا أعرف، وهذا لا يهم الآن، السؤال المهم الذي يطرح ذاته أكثر من أي شيء آخر في الوقت الحالي هو إذا كانت تلك اللعبة هي التي تسبّبت فيما نحن عليه الآن، فما الذي كان من الممكن أن نفعله عوضا عنها؟".

 

ليرد عليه ستيلز بعد أن أخذ نحو دقيقتين من التفكير العميق:

"انظر، عندما أحاول استرجاع أي ذكرى من الماضي فإنني أجد نفسي أفشل فشلا ذريعا، أنا في الأغلب لا أتذكر أسماءكم أو حتى اسمي، وإذا أخبرتموني به تسع مرات فسأنساه في العاشرة على الأرجح، لكن حقيقة الأمر الشيء الوحيد الذي لا أنساه أبدا هو لمحة عابرة لي مُمسكا لكأس ذهبي وموجودا في مكان به عشب أخضر، وأرقص، فقط أرقص، لذلك ربما لا أتذكر أي شيء عن تلك اللحظة، لكن هذا هو ما أريد أن أفعله مجددا لكي أعرف السبب وراء رقصي حينها".

 

كانت إجابة ستيلز بها قدر كافٍ من الإقناع لبوبي وجاك الذي ظل جالسا بدور الصامت في تلك الجلسة، ليس لأي سبب غير أنه لا يستطيع التذكر عن أي شيء يتحدث هذان الشخصان. قطع حبل أفكار الثلاثي صوت المذيع في التلفاز وهو يتحدث من جديد.

 

"لكن تبعات هذا القرار ستؤثر بشكل صريح على شكل اللعبة في المستقبل، لأننا سيتحتم علينا أن نرى أجيالا تفتقر لمهارة الرأسيات، وهذا سيغير من أساليب اللعب وسيغير من خريطة الكرة للأبد، فرق كويست بروميتش وبيرنلي التي تعتمد بشكل رئيسي على الكرات الطولية واستخدام الرأسيات ستُجبَر على تغيير أساليبها، رجال كشون دايش وسام ألاردايس سيتحتم عليهم إيجاد وظائف أخرى، سنشهد تغيُّرا كبيرا في اللعبة".

 

فأجاب أحد الضيوف:

"إذا أردنا أن نحل تلك المشكلة فيجب أن نُقدِّم بعض التضحيات، أحد أسباب تفاقم الأزمة أننا كنا نُبعِد أنظارنا عنها، فمثلا ما الدليل على أن اللعبة لا يمكن أن تُلعَب دون رأسيات؟ هل قام أحد بتلك التجربة من قبل؟ بالتأكيد لا، الرأسيات جزء أصيل من اللعبة، ولطالما كانت عنصرا حاسما جذب الكثير من المتابعين لها، وبالتالي ربما يخاف هؤلاء الذين يترأسون الاتحادات الكروية من خفض نسب المشاهدات عندما يشعر المشاهدون أنهم يتابعون لعبة غير التي اعتادوا عليها، هذا حق أصيل لهم بالمناسبة أن يخافوا على ما يُقدِّمونه، لكن السؤال هو: لماذا لا يفرض صناع اللعبة على اللاعبين أن يلعبوا بواقٍ للرأس؟".

 

ثم استطرد قائلا:

"والإجابة ربما تكون أن صناع اللعبة رغم كل شيء يخافون أن تفقد اللعبة جزءا صريحا من هويتها، المُتمثِّل في الحرية التي يتمتع بها أفرادها وتجعلهم مختلفين عن بعضهم بعضا، وبالتالي القوة الاقتصادية التي تتمتع بها اللعبة ستجد نفسها في انخفاض عن المعتاد، وهؤلاء اللاعبون الذين اعتادوا على أن يكونوا أداة تجارية وإعلانية بقصات شعرهم ستولّي أيامهم للأبد.

 

وربما أيضا يكون ذلك الإهمال هو محاولة رديئة للتملُّص من الاعتراف بأن الألعاب التي تُلعَب بواقٍ للرأس لطالما كانت على حق، ولطالما كانت تحافظ على صحة لاعبيها أكثر من كرة القدم، الرجبي مثلا وكرة القدم الأميركية، أو عدد كبير من الألعاب القتالية، كالساندا والتايكوندو وغيرهم، بجانب اشتراكهم جميعا في حظر بعض الضربات الخطيرة على الرأس والمخ".

epa08136523 A football helmet and ball are displayed on a table as US President Donald J. Trump, not pictured, hosts an event honoring the Louisiana State University Tigers in the East Room of the White House in Washington, DC, USA, 17 January...
واق الرأس في كرة القدم الأميركية

كل تلك الأمور تظل محل نظريات ليس إلا، نحن نتكهّن محاولين البحث عن أسباب مُقنعة لتلك المهزلة التي تدور أمامنا ومن الممكن أن يكون سببها هو أن أصحاب القرار يحاولون بشتى الطرق عدم إرهاق اللعبة بقوانين تطوُّعها وتُقلِّل من متعتها، فالحكام في الوقت الحالي مشغولون بشكل كبير بقوانين لمسات اليد الجديدة مثلا، أو تقنية الفيديو وقوانين التسللات التي تُعتَبر مثار جدل أسبوعي في كل مباراة تُلعب، لذلك إذا منعنا كل لاعب من لعب الكرة برأسه سيجب على الحكم التدقيق في تفاصيل أكثر عُمقا، حالها كحال لمسات اليد، كتعمُّده للمسها من عدم تعمُّده وكل تلك الحالات الأخرى، وهو الأمر الذي يجعلنا نقول عن دون علم إن اللعبة هكذا ستفقد متعتها، هكذا دون سابق تجربة أو دليل ملموس، حالها كحال أي شيء مستحدث على اللعبة".

 

لتتحدث الفتاة الوحيدة بالمجلس، وعلى وجهها علامات تبدو كاليأس والاستسلام:

"إذن يبدو أننا نطوف في دوائر مفرغة ولن نتوصل لحل على المدى القصير، شيء مؤسف أن ينتهي الأمر هكذا دون حلول ترد لنجومنا السابقين حقوقهم. سنستمر في طريقنا وسيثبت في وقت من الأوقات أن كرة القدم هي السبب الرئيسي فيما حدث، لكن أكثر شيء محزن في القضية بأكملها أن الرجال الذين تسبّبوا في ذياع صيت اللعبة في يوم من الأيام الآن يجدونها تُدير لهم ظهرها".

 

وهنا أغلق الرجال التلفاز وهم غاضبون مما سمعوه لتوهم، هناك لعبة تؤذي مَن يلعبها ولا أحد قادر على فعل أي شيء أو تقديم المساعدة، لم يتحدثوا كثيرا لأن الوقت أصبح متأخرا وغلب عليهم النوم، لكن قبل أن يناموا كان بوبي قد أخبرهم بأنهم يجب أن يبحثوا معا لإيجاد حلول لتلك المشكلة التي سمعوها، ويجب أن يبدؤوا في التفكير في الحلول الآن قبل أن ينسوا القضية برمتها في الصباح.

 

توفي جاك تشارلتون عقب تلك الليلة بأيام معدودة، كذلك الحال مع نوبي ستيلز الذي وافته المنية منتصف العام الجاري، وبقي بوبي تشارلتون وحيدا في تلك الدار لفترة وجيزة قبل أن يرد عليه بعض اللاعبين السابقين الآخرين الذين أُصيبوا هم كذلك بألزهايمر. بالطبع لم يجد الرجال حلا لتلك القضية التي شغلت بالهم لمدة ساعة كاملة، لكن بقي الشيء الذي ظل يشغل بالهم طوال تلك الليلة قبل أن يخلدوا إلى النوم هو؛ هل الجميع في الخارج ما زال يتذكّرنا ويهتم لأمرنا، أم أصبحنا في طي النسيان بالنسبة لهم كذلك؟

————————————————————————————–

المصادر

  1.  يوم جيف أستل: "لقد مات جيف وهو لا يعرف أنه لاعب كرة".
  2. جيف أستل: هل تعتبر إصابات الرأس للاعبي كرة القدم نوعا من أنواع الجبل الجليدي؟
  3. إعلان إصابة جاك تشارلتون بالخرف العقلي.
  4. إعلان إصابة أسطورة إنجلترا السير بوبي تشارلتون بالخرف العقلي.
  5. كرة القدم وأمراض الخرف العقلي: اللاعبون الذين عاشوا وتوفوا بالمرض.
  6. نحن نعلم مدى ترابط كرة القدم مع الخرف العقلي.. إذن ما الذي من الممكن أن تفعله اللعبة؟
  7. الخرف العقلي منتشر في اللعبة واللعبة لا تفعل ما فيه الكفاية.
المصدر : الجزيرة