شعار قسم ميدان

هكذا قضى التغير المناخي على الحضارة المصرية القديمة.. فهل يعيد التاريخ نفسه؟

"خلال فترة امتدت من أربعين إلى خمسين سنة، وبحلول نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، تدمرت تقريبا كل المدن ذات الأهمية الجوهرية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ولم يُعَد إعمار معظم تلك المدن بعد ذلك ثانية، تلك الحالة من الدمار سأسمّيها بـ (الكارثة)".

كانت تلك هي كلمات المؤرخ روبرت دريويس، في الفصل الأول من كتابه(1) "نهاية العصر البرونزي" (The end of the bronze age)، الصادر تابعا لدار نشر جامعة برينستون قبل أكثر من عقدين من الزمان، والذي يحاول خلاله أن يؤرخ، وربما يضع تفسيرات، لذلك اللغز المحيّر، حيث بينما كانت الحضارة في أوجها، في تلك القطعة من تاريخ العالم، حدث خلال فترة زمنية، يرى الباحثون أنها قصيرة جدا، أن انهارت الحضارة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بالكامل، وبصورة كارثية.

كتاب "نهاية العصر البرونزي"

السنوات العجاف

أدت تلك الفوضى إلى كم هجرات واسع وعشوائي في كل جوانب المنطقة، مع اختلال سياسي صاحبته حروب ضارية في المدن الرئيسية التي انهارت على أثر تلك الحروب، بينما تم استبدال ما نسميه بـ"اقتصاد القصر"، في منطقة بحر إيجة والأناضول، والذي ميز العصر البرونزي المتأخر، بنمط اقتصادي آخر يميز ثقافات القرى المعزولة في العصور اليونانية المظلمة والتي امتدت طوال عدة مئات من السنوات بعد الانهيار.

 

ما زالت أسباب حدوث ذلك الانهيار الحضاري غير واضحة، يرجعها البعض إلى المنظومة الاقتصادية السائدة، والبعض الآخر إلى ما سمي بـ "شعوب البحر" التي استغلت ضعفا في الممالك المسيطرة وقتها لشن هجمات متتالية عليها، لكن هناك اتجاهات بحثية معاصرة(2)  تشير إلى أن موجة جفاف شديدة القسوة كانت قد ضربت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بقوة في تلك الفترة، فأدت إلى انتشار المجاعات والأمراض، وتلا ذلك كل ملامح الكارثة الأخرى، في الحقيقة فإن إحدى الدراسات تحديدا تشير إلى واقعة قد تكون مألوفة بعض الشيء لدى البعض.

 

حسب الدراسة(3)  الجديدة، كان كهنة مصر على علم سابق بأن هناك خطرا يقترب، ربما لأنهم قد طوّروا منظومة معرفية صلبة تعمل على فهم ارتفاعات وانخفاضات منسوب مياه النيل وتتوقع المستقبل من خلالها، في تلك الفترة قرر رمسيس الثاني، فرعون مصر الثالث من حكام الأسرة التاسعة عشرة، أن يُنتج ويجمع من الحبوب والغذاء والمياه أكبر قدر ممكن ويقوم بتخزينها كي يتجهز للجفاف القادم، شهدت مصر في تلك الفترة نشاطا غير مسبوق في زراعة الحبوب، حتّى إنهم قاموا بتهجين أنواع من الأبقار، وبقية الحيوانات المستأنسة، أكثر تحملا للجفاف، ثم جاء الزائر المنتظر، وصدقت التنبؤات، حضر الجفاف.

تقول الدراسة إن الفراعنة فقط، في تلك الفترة الأخيرة من العصر البرونزي، هم من تجهزوا للجفاف القادم، بينما ضربت المجاعات المناطق المجاورة لمصر بلا رحمة، كانت مصر في أمان نسبي، وعملت الإدارة الحاكمة وقتها على تقوية حدودها خشية أي هجوم قريب، وساعدت بعض الجيران في الشمال، والذين كانوا يوما ما من الأعداء (الحيثيين)، بعد استغاثات عدة، ربما لأن الإدارة في مصر خشيت من أن يحيل الجفاف عليهم جيوش الجيران في هجوم عظيم بسبب انتشار الجوع والفقر، لكن مصر للأسف لم تتمكّن من الاستمرار لفترة طويلة، فقد كان الجفاف أقوى وأكثر طولا من قدراتها، تصدّعت المملكة في مصر، وانهار العصر البرونزي كاملا.

 

يتعرّف الباحثون على تلك البيانات عبر مقارنة مخططات حبوب اللقاح(4) في مناطق عدة، والفكرة أن يقوم الباحث بالحفر في المناطق المجاورة للأنهار (نهر النيل، ودجلة والفرات، ونهر الأردن، على سبيل المثال) ثم بعد ذلك يقوم باستخراج عينات على مسافات متساوية في العمق، ويبحث في تلك العيّنات عن بقايا حبوب اللقاح والـ (DNA) وأي أشياء الأخرى يمكن أن تدله على النشاط الإنساني لتلك الفترة التي تُمثّلها العيّنة، ليس فقط نوع العيّنة، ولكن كثافتها أيضا، هنا جاءت كثافة حبوب اللقاح -في تلك الفترة تحديدا- لتشير إلى أنه، على عكس كل المناطق المجاورة، كان نشاط جمع الحبوب وتخزينها في أرض مصر كثيفا.

الأهرام

من الجليد إلى النار

بالطبع لا نمتلك بعد أدلة واضحة تؤكد حدوث ذلك بشكل قاطع، لكن لفهم علاقة البشر بالمناخ، على مستوى الحضارات، ونقصد هنا نشأتها وسقوطها، دعنا نتقصّى تاريخنا مع التغير المناخي، ولنبدأ من تلك النقطة التي انقشع فيها العصر الجليدي الأخير، قبل نحو 12500 سنة، في الحقيقة ربما لا يعرف الكثيرون أننا، نحن البشر، نعيش داخل ما يسمى بـ فترة(5) بين-جليدية (Interglacial)، لقد شهدت الأرض، خلال مليوني سنة مضت، عصرا جليديا، خلاله تعاقبت 50 فترة جليدية بمسافة طويلة زمنيا في مقابل فترات بين جليدية قصيرة نسبيا، يرجع ذلك إلى ما نسميه بـ "دورات ميلانكوفيتش"، وهي التغير المستمر لموضع الأرض في الفضاء والذي يحدث خلال آلاف السنين.

 

حينما نقول "عصر جليدي" فذلك لا يعني نهاية الحياة، دعنا نتأمل الوضع في الأرض قبل نحو 20 ألف سنة فقط، امتدت الصفائح الجليدية السميكة لتغطي نصف الكرة الأرضية الشمالي بالكامل، نتحدث هنا عن وصول الجليد، بسُمك 3 كيلومترات فوق سطح الأرض، إلى ما تقع حدوده الآن عند نصف الولايات المتحدة الأميركية، وإنجلترا، والنرويج، ونصف روسيا، أما في الجنوب فقد وصل الغطاء الثلجي الكثيف إلى جنوب أفريقيا، ونصف أستراليا، وفي أثناء ذلك ضُربت باقي مساحات الأرض بموجات متتالية قاسية البرودة، تشبه تلك التي رأيناها في شتاء الممالك السبعة من مسلسل "صراع العروش"، أو في فيلم "28 Weeks Later"، وبصورة أكثر تطرفا. دعنا هنا نوضح أنه في أثناء العصور الجليدية لا تنتهي الحياة، لكنها تنحصر في نطاقات محددة وتبذل جهدا أكبر بفارق كبير للحصول على الغذاء، ما يقلل من عدد الكائنات الحية.

مع نهاية العصر الجليدي الأخير، ودخولنا فيما يسمى بعصر الهولوسين، أصبح من الممكن للبشر أن يقيموا في العراء بدلا من الاحتماء ليلا بالكهوف، بالتالي ظهرت المنازل. هنا، في الهلال الخصيب(6) (Fertile Crescent)، تلك المنطقة المنحنية مثل الهلال عبر الخليج العربي، ثم العراق، وسوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، وشمال مصر، بدأت الحضارة على ضفاف الأنهار (النيل، ودجلة، والفرات، والأردن)، كانت تلك هي الإشارات الأولى لاستقرار البشر وعملهم بالزراعة.

 

لم ينشأ كل ذلك فجأة بالطبع، هناك آثار لنقوش بشرية في كهوف جنوب أفريقية عمرها نحو 70 ألف سنة، كذلك يمكن أن نجد أثرا لوجود الزراعة قبل نحو 20 ألف سنة، لكن ما نقصده هو تلك الفترة التي بدأ فيها الإنسان يستقر في صورة مجموعات تشبه المدن، يعود تاريخ تلك الحقب إلى أكثر من 8500 سنة مضت، في تلك الفترة بدأت مجموعات البشر في التجمع، والعيش معا، في فلسطين نشأت الثقافة النطوفية(7)، نسبة إلى وادي النطوف شمال غربي القدس، والتي يرى بعض الباحثين أنها الخطوة الأولى للإنسان على طريق بناء أول مجتمعات زراعية في التاريخ، امتدت تلك الثقافة لتشمل أجزاء كبيرة من الهلال الخصيب، فشملت كل الشام، ووصلت من العراق إلى مصر.

زخارف فرعونية

ماذا عن الطوفان؟!

في تلك النقطة يتدخل كل من ويليام راين ووالتر بيتمان(8)، ليقترحا، في تلك الفترة، أن البحر الأسود كان بحيرة عذبة ينخفض مستواها عمّا نعرفه الآن بنحو 150 مترا، لكن مع انتهاء العصر الجليدي وذوبان الجليد في مناطق كثيرة بالعالم ارتفع سطح البحر بمعدلات سريعة، فانفتحت ثغرة في الشريط الضيق الذي يفصل بين البحرين الأسود والأبيض المتوسط قبل نحو 8500 سنة، وفي غضون عدة سنوات تم غمر مساحة آلاف الكيلومترات بالماء، مما أدى إلى هجرات ملحمية واسعة وسريعة لسكان تلك المناطق من البشر، تتصور بعض الأعمال البحثية، ويليام جيمس بوروز في كتابه "مناخ ما قبل التاريخ"، أنه لتلك الحادثة علاقة بقصة الطوفان، التي نعرف أنها ضاربة في أعماق التاريخ وصولا إلى أكثر من 4500 سنة في الماضي، لكن ذلك غير مؤكد بالطبع ويلقى الكثير من الجدل.

 

في كل الأحوال فإن تلك الفترة من تاريخ البشر وقعت بالكامل في يدي التغير المناخي الحادث، فبعد أن كانوا محبوسين في الكهوف محدودي الحركة خلال العصر الجليدي، ارتفعت مساحة الغطاء الأخضر بشكل استثنائي وفي كل مكان بالمنطقة بعد انتهائه، تضمن ذلك الفواكه والخضراوات والحبوب، ما أعطى للبشر في منطقة الهلال الخصيب فرصة أفضل لحياة أكثر سهولة، فتكاثروا بشكل أكبر، وأصبحوا أكثر استقرارا، ومع الاستقرار امتلك البشر حرية أكبر لإنشاء المنظومات السياسية والاقتصادية، ثم ظهر الفن، واللغة، وكل شيء آخر يمكن أن يميز ما نعطيه اصطلاح الحضارة.

 

لكن ذلك الخير لم يستمر كثيرا. في مصر، على سبيل المثال، حسب دراسة أخيرة(9) من جامعة بنسلفانيا استخدمت مخططات حبوب اللقاح بين أدوات أخرى، لاقى الفراعنة أربع موجات جفاف قاتلة في الفترة بين 3000 و6000 سنة مضت، آخرها كانت تلك التي تحدثنا عنها في بداية التقرير، وأحد هذه الأحداث كان الجفاف الهائل، والعالمي، الذي حدث منذ نحو 4200 سنة، وهو ما كان له تداعيات اجتماعية وسياسية وثقافية غاية في الخطورة (من المجاعات إلى الحروب)، والتي لعبت على الأرجح دورا في نهاية عصر الدولة القديمة في مصر وأثّرت أيضا على ثقافات البحر الأبيض المتوسط ​​الأخرى.

بعض آثار حضارة المايا في المكسيك (رويترز)

لم يحدث ذلك في منطقتنا فقط، في الحقيقة فإن أثر تغير المناخ على خطوط سير البشر كان واضحا في كل خطوات هجراتهم(10) الواسعة عبر آلاف السنين السابقة للحضارة، سكان مناطق شيلي وبيرو قبل 15 ألف سنة على سبيل المثال، وهجرات الصينيين قبل ألفي سنة فقط، كذلك ساعدت التغيرات المناخية القاسية على انهيار(11،12،13) أنماط حضارية كثيرة كـ المايا، وشعوب بويبلو القديمة، والهاربا، والفايكنج في جرينلاند، والذين تم دفعهم ناحية الغرب مع انخفاض درجات الحرارة شيئا فشيئا. كما ترى، فإن البشر واقعون تحت سيطرة المناخ في كل مكان وكل تاريخ، في تلك النقطة فإنه لا فارق بيننا وبين الدببة القطبية.

 

في كتابه "التصحر واستعمالات الأراضي في مصر الجديدة"(14) يقسم صلاح طاحون أسباب انهيار الحضارات في العالم القديم إلى ثلاث نظريات، الأولى تتعلق بالحضارة نفسها، فتتصوّرها كطفل ينمو تدريجيا ثم يصل إلى مرحلة الشباب المفعم بالحيوية والنشاط والإنتاج، ثم يشيخ ويموت، والثانية تتعلق بالظروف التي نشأت الحضارة وتطورت خلالها، ونقصد هنا أحوال المناخ، فحينما يضرب الجفاف الأرض تنهار الحضارات، والتي تعتمد بالأساس على الماء في الأنهار، كبيت مصنوع من أوراق الكوتشينة، والثالثة تتصور نموذجا يجمع من هذا وذاك.

مدار الفوضى

من الصعب، بالطبع، تحديد حجم الدور الذي لعبه التغير المناخي في تاريخ تلك المنطقة من العالم، بالضبط كما هو من الصعب أن نحدد ذلك الحجم بالنسبة للعالم المعاصر، لكن ما يُجمع عليه الباحثون بهذا المجال هو أن تلك التغيرات القاسية لأنماط المناخ أثّرت بالسلب على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموجودة في المنطقة آنذاك، سواء لعبت دورا أساسيا، أو ساهمت في دفع التطورات قُدما إلى منطقة اللاعودة، أو فقط لعبت دور "القشّة التي قصمت ظهر البعير".

 

في النهاية، لا أحد يعرف ما الذي حدث بالضبط، يتعاون المؤرخون مع علماء البيئة في نطاق بحثي جديد شهد نشاطا واسعا في الفترة الأخيرة، في محاولة لفهم أثر التغيرات المناخية على خطوط سير الحضارة البشرية، سقوطها وازدهارها، عسى أن يعطينا ذلك فرصة لقراءة المستقبل، فها نحن البشر، من جديد، نعاني مع التغير المناخي فيما نتصوّر أنه لم يحدث منذ 800 ألف سنة، هذه المرة من صناعة يدي البشر، بحسب(15) 97% من الأعمال البحثية في هذا المجال.

 

هل يمكن أن تنهار الحضارة مرة أخرى؟ هناك درجة من الشبه، تتعلق بالترابط الاقتصادي، بين الأوضاع في العصر البرونزي المتأخر والأوضاع المعاصرة، فبينما يُنظر إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، في تلك الفترة، كمنطقة "حضارات"، فإنها كانت حضارة واحدة متشابكة تقع مصر في مركزها، لكن التشابك الاقتصادي يُمثّل مشكلة حرجة، لأنه يشبه قطع الدومينو، ما إن تقع واحدة حتى يليها الجميع، يفسر البعض أسباب انهيار الحضارة في العصر البرونزي المتأخر بهذه النظرية بحيث يلعب التغير المناخي دور العامل الذي دفع قطعة الدومينو الأولى، لكن ذلك يعني أيضا أننا في العالم المعاصر نواجه مشكلة مشابهة، للأسباب نفسها.

لوحة

أضف إلى ذلك أن كريستيان بارينتي، في كتابه(16) "مدار الفوضى"، يشير إلى أن العالم مُقدم على كارثة، حيث يؤثر التغير المناخي بقوة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبشر الساكنين بشكل رئيس بين مداري السرطان والجدي، نتحدث هنا عن 3 مليارات شخص، يمكن أن يؤدي ذلك إلى حالة أكثر شدة من الاضطراب السياسي بين تلك الدول وداخل كل منها، ما قد يؤدي بدوره إلى حالات هجرة مناخية شديدة من أسفل العالم إلى أعلاه. بحسب بارينتي، فذلك أمر لن تتمكن دول العالم الواقعة شمالي المدارين بسهولة من التعامل معه، ما قد يتسبب في حالة اضطراب سياسي واسعة ومستمرة، وهو ما قد يعني -بصورة أو بأخرى- شكلا من أشكال الانهيار الحضاري، هنا يجب أن نسأل: هل سوف يُعيد التاريخ نفسه؟

 

خلال كل كبوة مرّت بهم، تمكّن البشر من خوض المعركة ضد الطبيعة والخروج منها لاستكمال حضارتهم. لم ينقرضوا، لكن خسائر المعركة كانت غاية في الفداحة بحيث لا يمكن تصوّرها، أما معركتنا المعاصرة فهي لا تختلف كثيرا من جانب الطبيعة كما يبدو. لكننا، نحن البشر، نمتلك أدوات جديدة، كالعلم، والتكنولوجيا، والقدرة على التواصل الفائق في عصر رقمي، يرى الكثير من علماء البيئة أنه -رغم الخسائر التي حدثت بالفعل- يمكن لنا أن نصمد، يمكن أن نخفّف آثار التغير المناخي عبر الالتزام بحد ارتفاع متوسط درجات حرارة الأرض تحت حاجز الدرجة ونصف أو ما هو أقل، عبر استخدام أبرع عقول الكوكب في تطوير منظومات مقاومة، لكن لكي يحدث ذلك يجب أن تتحد البشرية، وهو ما لا نراه على أرض الواقع، يقضي العالم المعاصر فترة تفسّخ غاية في الحدة. ينبئ ذلك بشيء واحد فقط!

المصدر : الجزيرة