شعار قسم ميدان

التخلص من سموم الشاشات.. لماذا يعد رمضان فرصة ممتازة للصيام الرقمي؟

التخلص من سموم الشاشات.. لماذا يعد رمضان فرصة ممتازة للصيام الرقمي؟
(شترستوك)

بقدوم شهر رمضان من كل عام، يبدأ البالغون الأصحّاء من بين 1.8 مليار مسلم حول العالم بأداء فريضة الصيام لمدة 30 يوما حتى انقضاء الشهر الكريم. الصيام، وفقا للتعريف الشرعي، هو الإمساك عن المُفطرات التي يشتهيها البدن من الطعام والشراب والجنس لفترة محدودة زمنيا تمتد من وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها. إحدى الحكم الكامنة وراء هذا الركن في الإسلام هي منع الجسد جزئيا من الاستغراق في المتطلبات المادية، وإعطاء الفرصة لإنعاش الجوانب الروحية لكل مسلم بالإكثار من العبادة وعمل الخيرات.

 

ولأن العصر الذي نعيشه حاليا رقمي الطابع، أصبحت فيه الشاشات والهواتف الذكية أساس الحياة الشخصية والمهنية لمعظم الناس، ظهر في السنوات الأخيرة مصطلح "الصيام الرقمي" الذي يحمل في تعريفه مبادئ الصيام المعتادة: الامتناع عن استهلاك الأجهزة الرقمية لفترات محددة زمنيا بهدف إراحة العقل والنفس من الإدمان الرقمي، وفتح الباب لإنعاش الجوانب الاجتماعية والفطرية السليمة في حياة كل شخص.

 

السؤال هنا: هل يوجد وقت أنسب من شهر رمضان المبارك لانتهاز الفرصة وبدء تطبيق الصيام الرقمي تزامنا مع صيام المعدة والجوارح، والاستفادة بكلا الصيامين في تطوير حياتك روحيا ونفسيا وعقليا وبدنيا؟

 

شاشات.. الكثير من الشاشات

الإحصاءات تقول إن الإنسان العادي يقضي نحو ساعتين ونصف يوميا في التعرّض للشاشات المختلفة، خصوصا متابعة وسائل التواصل الاجتماعي
الإحصاءات تقول إن الإنسان العادي يقضي نحو ساعتين ونصف يوميا في التعرّض للشاشات المختلفة، خصوصا متابعة وسائل التواصل الاجتماعي. (شترستوك)

بحسب دراسة صدرت عام 2015 أجرتها مؤسسة "ديلويت" العالمية العملاقة المتخصصة في البحوث المهنية والاجتماعية، فإن 59% من مستخدمي الهواتف الذكية يتصفّحون وسائل التواصل الاجتماعي قبل الذهاب إلى النوم بخمس دقائق، والنسبة نفسها يقومون بتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي خلال 30 دقيقة من لحظة استيقاظهم. ما تخبرنا به الدراسة ببساطة هو أن معظم مستخدمي الهواتف الذكية حول العالم يتصفحون وسائل التواصل في أول وآخر نشاط لهم خلال يومهم العادي، إلى جانب كثافة الاستخدام على مدار اليوم، مما يشير إلى استحواذها الكبير على اهتمامهم. (1)

 

وبحسب موقع "ستاتيستا" (Statista) الإحصائي، وصل عدد المستخدمين النشطين لوسائل التواصل الاجتماعي يوميا خلال عام 2022 إلى نحو 4.5 مليارات مستخدم يوميا، أي ما يعادل نحو 60% من سكان العالم. الإحصاءات تقول أيضا إن 84% من الشباب في المرحلة العمرية ما بين 18-29 عاما نَشِطون في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، وتقل نسبة الاستخدام بارتفاع السن وتغير الأجيال، ومع ذلك فقد وصل عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من كبار السن الذين تجاوزت أعمارهم 65 عاما نسبة 45%، وهي نسبة مرتفعة بشكل كبير. (2)

 

أما الوقت الذي يقضيه المستخدم العادي في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي عبر جواله فيصل بالمتوسط إلى قرابة 150 دقيقة يوميا، أي ما يعادل ساعتين ونصفا في اليوم، وقرابة 80 ساعة شهريا. حسنا، إذا تتبعنا هذه الحسابات فسوف نجد أن متوسط عدد الساعات التي يقضيها المستخدم في تصفّح وسائل التواصل الاجتماعي طوال حياته هي 5 سنوات كاملة و4 أشهر من عمر كل إنسان، تذهب في تصفّح فيسبوك وتويتر وإنستغرام. (3)

 

هذه الأرقام الكبيرة تشير إلى أن معظم سكان العالم الآن يختلفون عن أي أجيال سابقة في قضاء وقت طويل من يومهم في تصفّح العالم الافتراضي، وأنه الجيل الذي شهد نشوء ظاهرة "الإدمان الرقمي" لأول مرة في تاريخ البشرية.

 

سموم رقمية

أثبتت الدراسات أن الإدمان الرقمي يسبب مشكلات عديدة على رأسها اضطرابات النوم والصداع ومشكلات الرؤية والشعور بالضغط العصبي (Stress)
أثبتت الدراسات أن الإدمان الرقمي يسبب مشكلات عديدة على رأسها اضطرابات النوم والصداع ومشكلات الرؤية والشعور بالضغط العصبي (Stress). (شترستوك)

هذا الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية وتصفح الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي انعكس بالتبعية على الصحة الجسدية والنفسية لأعداد كبيرة من المستخدمين، وجاء مصحوبا بأعراض متكررة يأتي في مطلعها انخفاض جودة النوم ومشكلات الرؤية، فضلا عن ارتفاع نسبة حدوث الصداع النصفي.

 

في بحث موسّع شارك فيه أكثر من 7 آلاف مشارك يستخدمون الأجهزة الرقمية بصورة يومية، قال نحو 70% من العيِّنة المشاركة إنهم يعانون من اضطرابات في الرؤية سببها دوام النظر في الشاشات. كما أكدت الدراسة أن كثرة استخدام الأجهزة الرقمية، خصوصا الهواتف وأجهزة الحواسيب، ارتبطت بوضوح مع ظهور اضطرابات النوم لدى المستخدمين بسبب الانبعاثات الضوئية من هذه الأجهزة التي تؤثر في إفراز هرمون الميلاتونين الضروري لتنظيم عملية النوم ومدتها. (4)

 

أما عن التأثير الاجتماعي، فمن الواضح أن الإدمان الرقمي يؤثر بعنف أيضا على أنماط الحياة الواقعية والتعاملات بين الناس. في دراسة أُجريت عام 2016 على 145 شخصا بالغا، خلصت النتائج إلى أن الحياة الزوجية تتأثر سلبا إذا قام أحد الشريكين بتصرف مسيء للآخر، كأن يتجاهله أو يتأخر في التواصل معه بسبب اهتمامه باستخدام الهاتف.

 

التأثيرات النفسية والعقلية كانت حاضرة أيضا ضمن تداعيات الاستخدام المفرط للوسائل الرقمية، ففي دراسة واسعة النطاق أُجريت في الصين على شرائح واسعة من طلاب المدارس الثانوية، تبيَّن أن الإدمان الرقمي زاد من خطورة إصابة الطلاب بمشكلات نفسية، وعلى رأسها الاكتئاب بنسبة مرتين ونصف أكثر من الطلاب الذين لم يتعرضوا للإدمان الرقمي. كما أوضحت الدراسة أن إدمان الأجهزة الرقمية قاد إلى اضطرابات وشعور مزمن بعدم الرضا عن الحياة والقلق (anxiety) واضطرابات النوم، بشكل له علاقة وثيقة بمستوى غزارة الاستخدام لهذه الأجهزة. (5)

 

جمعية علم النفس الأميركية (American psychological association) بدورها نشرت دراسة بحثية مهمة عام 2017، وجدت أن خُمس العيّنة التي أُجري عليها الاستطلاع، أي واحد من كل 5 أشخاص، قالوا إن التقنية بكل أنواعها كانت سببا أساسيا من أسباب شعورهم بالضغط (Stress)، مع اعتراف 43% من العينة أنهم يتصفحون البريد الإلكتروني والرسائل ووسائل التواصل الاجتماعي بغزارة يوميا. هذا الشعور بأنهم "متاحون دائما" جعلهم يشعرون بأعراض جسدية ونفسية سيئة، تبدأ بألم الرقبة والتجاعيد، ولا تنتهي بمستويات ضغط الدم المرتفعة. (6)

 

الصوم الرقمي

الأجهزة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي تُعَدُّ من أعلى مراكز المشتتات المُعرقلة لإنجاز الأعمال كمًّا وكيفًا.
الأجهزة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي تُعَدُّ من أعلى مراكز المشتتات المُعرقلة لإنجاز الأعمال كمًّا وكيفًا. (شترستوك)

مع تنامي ظاهرة الإدمان الرقمي وصعودها إلى معدلات خطيرة، خصوصا في شريحة المراهقين والشباب، ظهر في المقابل مصطلحان، مصطلح "الصيام الرقمي" (Digital Fast)، وأيضا مصطلح "تنقية السموم الرقمية" (Digital detox). المصطلحان يعنيان امتناع المستخدم، تطوعا من نفسه وليس مجبرا، عن استخدام الأجهزة الرقمية مثل الهواتف الذكية والحواسيب ووسائل التواصل الاجتماعي لفترات زمنية محددة، بصورة دورية، ومن ثم الخروج من حالة الإدمان الرقمي.

 

ورغم أن كلا المصطلحين له المعنى نفسه، وهو الابتعاد عن الأجهزة الرقمية لفترة زمنية معينة، فالفرق بينهما هو طول هذه الفترة. فمصطلح "تنقية السموم الرقمية" (Digital detox) يشير إلى تقليل معدلات استخدام التقنية يوميا، عبر ممارسات مختلفة تبدأ بتعطيل التنبيهات أو إغلاق الهاتف أثناء العمل، أو تحميل تطبيقات لتحديد مواعيد الوجود على وسائل التواصل الاجتماعي. بينما يشير مصطلح "الصيام الرقمي" (Digital fast) إلى الامتناع الكامل عن استخدام التقنية لفترة معينة، كتعطيل الوجود نهائيا في وسائل التواصل الاجتماعي لأسابيع أو شهور.

 

الفوائد الأساسية التي تعود من وراء الدخول في حالة الصيام الرقمي تدور في مُجملها حول العودة إلى الحياة الواقعية وإنهاء طغيان الحياة الرقمية في وعي ومسار حياة الناس، فمع الابتعاد عن الأجهزة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي سيعود الشخص إلى نمط الحياة الواقعية ويعيد إحياء حياته الاجتماعية والنفسية السليمة. أيضا الصيام الرقمي سيعيد صاحبه مرة أخرى إلى النوم السليم ويخلّصه من نوبات القلق المفرط الناتجة عن استخدام الأجهزة.

 

كما يساعد الصيام الرقمي على عودة الشخص إلى أحضان الطبيعة وممارسة المهام الاعتيادية الحياتية، بشكل ينعكس عليه إيجابا في مواجهة أعراض اكتئاب الانغماس في العالم الرقمي، ومواجهة أعراض الانسحاب من الحياة الاجتماعية، فضلا عن رفع إنتاجية الأعمال بسبب تجنب الأجهزة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تُعَدُّ من أعلى المشتتات المُعرقلة لإنجاز الأعمال كمًّا وكيفًا. (7)

 

التحرر من قبضة الشاشات

أول إجراء للتحرر من قبضة الإدمان الرقمي، وربما أهمها، هو تعطيل خاصية "التنبيهات" (Notifications) على الأقل خلال فترة زمنية معينة في اليوم.
أول إجراء للتحرر من قبضة الإدمان الرقمي، وربما أهمها، هو تعطيل خاصية "التنبيهات" (Notifications) على الأقل خلال فترة زمنية معينة في اليوم. (شترستوك)

بناء على ما سبق، فالإدمان الرقمي مثله مثل بقية أنواع الإدمان، كإدمان المخدرات أو الكحوليات أو إدمان الطعام، هو بالأساس قائم على القاعدة النفسية الأشهر "كل ما يجلب المُتعة فهو عُرضة للإدمان". لذلك فإن التوقف المفاجئ عن استخدام التقنية يُعَدُّ حلا غير عملي بالنسبة للكثيرين، خصوصا أن التعرض للشاشات في عصرنا الحالي جزء أساسي من وتيرة الحياة اليومية التي لا يمكن تجنبه دفعة واحدة.

 

ما الحل لهذه المعضلة إذن؟ أول إجراء للتحرر من قبضة الإدمان الرقمي، وربما أهمها، بحسب "جيسي فوكس" رئيسة قسم البيئة الرقمية في جامعة أوهايو، هو تعطيل خاصية "التنبيهات" (Notifications) على الأقل خلال فترة زمنية معينة في اليوم. تقول فوكس: "إذا سمحت لنفسك أن تتم مقاطعتك 5 مرات خلال نصف ساعة، فمن المستحيل أن تصف نفسك بأنك ركزت في عمل شيء ما مفيد خلال تلك الفترة!".

 

في كتابه "صعود الإدمان الرقمي وتجارة جذب المستخدمين"، يذكر المؤلف آدم أتلر في معرض حلوله للتخلص من حالة الإدمان الرقمي أن واحدة من أفضل الوسائل الفعّالة هي تخصيص وقت يومي "خالٍ من التقنية" (Tech Free)، بمعنى تخصيص مدة زمنية معينة، فلنقل 3 ساعات قبل النوم، تنتهي فيها علاقتك بأي جهاز رقمي، خصوصا شاشة الحاسوب أو الهاتف الذكي. خلال تلك الساعات المحددة يحل محلّها أنشطة يومية واقعية، مثل الطبخ أو قراءة الكتب الورقية أو ممارسة التمشية أو قضاء الوقت مع العائلة.

 

في السياق ذاته، يقول آدم غزالي عالم الأعصاب، والمؤلف المشارك لكتاب "العقل المشتت: العقول القديمة في عالم التقنية"، إن أهم وسيلة للتخلص من الإدمان الرقمي هي عبر إنشاء جدول زمني لجميع المهام التي نؤديها يوميا، بما في ذلك تحديد موعد لتصفح الإنترنت ومتابعة الرسائل، مهما كان الوقت المحدد بسيطا. بمعنى أوضح، أن تضع نظاما لنفسك أنك ستتصفح الأخبار لمدة 10 دقائق الساعة العاشرة صباحا، وستجول في حسابك الفيسبوكي لمدة 20 دقيقة في وقت محدد. هذا التنظيم يُعَدُّ حتميا، وإلا -بحسب الكتاب- فسيكون من الصعب عليك الخروج من هذه المتاهة الرقمية. (6، 8)

 

محاربة الإدمان التقني بالتقنية

العديد من التطبيقات تتيح إمكانية محاصرة الإشعارات وتقليل استخدام الهاتف لعدة ساعات يوميا.
العديد من التطبيقات تتيح إمكانية محاصرة الإشعارات وتقليل استخدام الهاتف لعدة ساعات يوميا. (شترستوك)

إلى جانب اتخاذ القرار بمواجهة الإدمان الرقمي عبر تقليل النظر إلى الشاشات وإبعاد الهواتف عن مصدر رؤيتنا والانخراط بشكل أكبر في الحياة الواقعية مثل ممارسة الرياضة والاجتماعات العائلية، ظهرت المزيد من الحلول التي تساعد المستخدمين، خصوصا الذين يمكن وصفهم بـ"المهووسين تقنيا" الذين يجدون صعوبة كبيرة في اتخاذ قرارات الابتعاد طوعا عن الهواتف وشاشات الحاسوب.

 

من أبرز هذه الحلول انتشار تطبيقات على الهواتف الذكية تساعد المستخدم على تقليص استخدام الهاتف نفسه، فضلا عن محاصرة تصفّح التطبيقات التي تسبب إدمانا رقميا للمستخدم مثل تطبيقات التواصل الاجتماعي. في أجهزة أبل أداة معروفة باسم "Screen Time"، تسجل الوقت المُستخدَم في تطبيقات معينة وتتيح وضع حدود لاستخدامها عبر الإعدادات. كما تتيح أيضا إمكانية تعطيل مختلف التطبيقات لفترات زمنية معينة وإتاحة الهاتف لاستقبال وإصدار المكالمات فقط.

 

أما في الهواتف المزودة بنظام أندرويد، فيوجد العديد من التطبيقات التي تساعد المستخدم في الصيام الرقمي، من أبرزها تطبيق "ديجيتال ويلبينغ" (Digital Wellbeing) الذي يتيح للمستخدم معرفة سلوكياته في استخدام الهاتف وتطبيقاته، ومن ثم ضبط إعدادات الهاتف لإخفاء بعض الإشعارات من التطبيقات خلال فترات زمنية معينة تتيح للمستخدم التحرر من النظر المستمر لشاشة الهاتف، ومن ثم العودة تدريجيا إلى عالم الواقع والتخلص من الإدمان الرقمي. (9)

 

في النهاية، يظل شهر رمضان المبارك فرصة ممتازة للتحرر من كل العادات الضارة، بدءا من الأكل والشرب بشكل غير مُنضبط، وليس انتهاء بالإدمان الرقمي ومراقبة الإشعارات عبر الهاتف والشعور بالفوات المستمر بعدم تفقد الأخبار أو النظر في الشاشات. يظل مبدأ "الصيام" هو الخطوة الأولى للخروج من عبودية الشهوات، حقيقية كانت أو افتراضية!

————————————————————————————-

المصادر:

1 – Smartphone owners increasingly obsessed with their devices: Deloitte Study

2 – Social Media Statistics You Need to Know in 2022

3 – How Much Time Do People Spend on Social Media?

4 – The Real Effects of Technology on Your Health

5 – Effect of Pathological Use of the Internet on Adolescent Mental Health

6 – Digital Detox: Your 10-Step Guide

7 – The 7 Benefits of a Digital Fast

8 – حان الوقت للفطام الرقمي.. قواعد وطرق من الخبراء لتحرير أنفسنا من قبضة التكنولوجيا

9 – صحتنا الرقمية.. هذه الأدوات تساعدك على "الصيام الرقمي"

المصدر : الجزيرة