شعار قسم ميدان

المال والممتلكات أم الخبرة.. ما الذي يجب أن تتركه لأبنائك؟

أطفال - أبناء - أسرة - عائلة

هل سألت نفسك من قبل أيهما أكثر فائدة لطفلك وأكثر قدرة على إسعاده؛ أن تُحضر له لعبة وهو صغير، ثم تشتري له بيتا وسيارة حينما يكبر، وتترك له مالا وممتلكات يستعين بها على أزمات الدنيا ومُشكلاتها، أم الأفضل أن تُعلِّمه وتخوض معه التجارب التي تجعله أكثر خبرة وأثرى ذهنا وأكثر حكمة في مواجهة الحياة؟ بصيغة أخرى، هل الأفضل أن تنقل لابنك ممتلكات مادية أم تنقل له التعلُّم والخبرة؟

 

الممتلكات أم الخبرات؟

أب - إبن - حديث - حوار - فرحة

لفترة طويلة، ظل بعض الاقتصاديين يرون أن المال يُمكنه تحقيق السعادة، لكنهم وجدوا لاحقا أن بعد توفير احتياجاتك الأساسية لا يُصبح المال قادرا على تحقيق السعادة، يقول الدكتور توماس جيلوفيتش، أستاذ علم النفس في جامعة كورنيل، الذي كان يدرس مسألة المال والسعادة لأكثر من عقدين: "أحد أعداء السعادة هو التكيُّف، نحن نشتري أشياء تجعلنا سعداء وننجح في تحقيق السعادة بالفعل، لكن هذا يحدث فقط لفترة من الوقت. الأشياء الجديدة مثيرة لنا في البداية، ولكن بعد ذلك نتكيَّف معها، ولا يعود بإمكانها توفير المزيد من السعادة لنا".(1)

 

ماذا عن الأشياء التي بإمكانها أن تُحقِّق السعادة للأطفال إذن؟ كان هذا هو ما يشغل بال الباحثة نجوين تشابلن، الأستاذة بجامعة شيكاغو، أثناء الاحتفال بعيد ميلاد طفلها السادس، الأمر الذي دفعها إلى إجراء دراسة بحثية أسَّست خلالها مكانا متقنا أنشأته لحفلة عيد ميلاد ابنها السادس. سعت تشابلن إلى أن يكون الحفل مكتملا بإضاءة ذات تأثير خاص، وألعاب، وطعام، وكل شيء آخر من شأنه أن يضمن تجربة عيد ميلاد تستمر ذكراها مدى الحياة. بعد الحفلة، سألت تشابلن ابنها عن أفضل شيء سعد به في الحفلة، ليرد دون تردد: "كل الهدايا!". لتكتشف تشابلن أن الأطفال بعمر 6 سنوات يستمدون سعادة أكبر من الهدايا المادية أكثر من الخبرات.

 

لاحقا، أجرت "تشابلن" وزملاؤها أربع دراسات مع أطفال ومراهقين تتراوح أعمارهم بين 3-17 عاما للتعرُّف إلى العمر الذي يكتسب فيه الأطفال متعة أكبر من التجارب مقارنة بالهدايا أو السلع المادية. كانت الدراستان الأوليان ميدانيتين، ضمَّت كلٌّ منهما ما بين 74-84 طفلا تتراوح أعمارهم بين 5-16 عاما وكانوا مُسجلين في مدرسة فنون الدفاع عن النفس.

أم - إبنه - هدية - صديق - حوار - تربية

طُلب من الأطفال الاختيار من قائمة تضم 16 سلعة مادية و16 تجربة يمكن تقديمها جوائز في برنامجهم، كما طُلب من الآباء التنبؤ بالسلع أو التجارب التي سيختارها أطفالهم. في الدراسة الثالثة، شارك 56 طفلا تتراوح أعمارهم بين 3-12 عاما في مقابلات غير مُنظمة ومفتوحة سعت إلى اكتشاف ما الذي يجعلهم سعداء؟ ولماذا؟ فأجابوا بقائمة من السلع الملموسة والتجارب غير الملموسة، وربطوها بمشاعر السعادة بكلماتهم الخاصة.

 

وسَّعت الدراسة الرابعة النطاق العمري ليشمل المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 13-17 عاما لاختبار الاقتراح الذي أسفرت عنه الدراسات السابقة بأن الأطفال الأكبر سِنًّا قد يستمدون سعادة أكبر من التجارب أكثر من الأشياء المادية، وتضمَّنت هذه الدراسة 240 طفلا في هذا النطاق السني.

 

توصَّلت الدراسات السابقة إلى أن الأطفال الصغار لا يجنون المزيد من السعادة من التجارب مقارنة بالأشياء المادية. لكن مع تقدُّم الأطفال في العمر، تزداد الطرق التي يشعرون من خلالها بالسعادة لتشتمل على التجارب إلى جانب الهدايا المادية. في مرحلة المراهقة المتأخرة، تتجاوز الفرحة التي يتلقاها الأطفال من التجارب نظيرتها التي يستمدونها من الهدايا المادية.(2)

 

تقول تشابلن موضِّحة: "ما يعنيه هذا هو أن المراهقين يسعدون بشدة بالتجارب، وليس مجرد الأشياء المادية باهظة الثمن كما قد يعتقد البعض. لكن لا تفهموني خطأ، الأطفال الصغار يحبون التجارب أيضا، هناك صناعات كاملة، مثل حدائق الملاهي (ديزني لاند)، مبنية حول هذه الفرضية. في الواقع، يكون الأطفال الصغار نشيطين طوال التجربة. ومع ذلك، لكي توفر التجارب سعادة دائمة، يجب أن يكون الأطفال قادرين على تذكُّر تفاصيل الحدث لفترة طويلة بعد انتهائه".

 

لذلك، تأتي سعادة الأطفال الأصغر سِنًّا بالأشياء المادية، فبعد فترة طويلة من فك أغطية الليغو ومُجسمات الحيوانات، سيظل هناك ذلك التذكير المادي الذي يمنحهم الشعور بالسعادة. على الجانب الآخر، لا يمكن للأطفال الصغار رؤية التجارب أو لمسها بعد انتهائهم منها، مما يجعل من الصعب عليهم تقدير التجارب لفترة طويلة بعد انتهاء الحدث. للتغلُّب على هذا الأمر تقول تشابلن: "التقِط صورا أو مقاطع فيديو للتنزه مع العائلة، وحفلات أعياد الميلاد، من المُرجَّح أن يُقدِّر الأطفال هذه التجارب أكثر إذا كان هناك شيء يُذكِّرهم بالحدث. بالإضافة إلى ذلك، سيكونون قادرين على تعلُّم القيمة الاجتماعية للتجارب المشتركة".(3)

 

من التجربة إلى الخبرة

أب - إبن - أم - تبني - لعب - خبرة

مع تقدُّم العمر، يكتسب الأطفال الأكبر سِنًّا خبرات معرفية واجتماعية تجعلهم أكثر تقديرا لقيمة التجربة. هذه الخبرات تُشكِّل مستويات أعلى من الفهم والاستيعاب ومهارات أدق للذاكرة، بالإضافة إلى القدرة على تقدير الخبرات السابقة، وهي مهارات لا تتوفر عموما لدى الأطفال الصغار.

 

كذلك فإن التجارب غالبا ما تتضمَّن تفاعلات اجتماعية، وهو الأمر الذي يتطلَّب مهارات اجتماعية وعاطفية عالية المستوى للاستمتاع بالتجارب، وهو ما يتوافر في حالة الأطفال الأكبر سِنًّا. على النقيض من هذا، فإن التمتع بالهدايا المادية يتطلَّب القليل من التفاعل الاجتماعي أو لا يتطلَّب أي تفاعل.(4)

 

بخلاف السعادة والشعور بالمتعة، تلعب هذه التجارب الحسية والخبرات دورا مهما في نمو الأطفال. قدَّمت الأبحاث على مدار العقود العديدة الماضية نظرة ثاقبة للعمليات التي تحكم التطور المبكر للدماغ، وكيف تساهم هذه العمليات في السلوك.(5) صحيح أن الوراثة تلعب دورا مهما في التطور، لكن الخبرات لا تقلّ أهمية، مثلا قد تؤثر الجينات على بنية دماغ الطفل منذ الولادة، ولكن التعلُّم والخبرة سيكون لهما تأثير قوي على كل تطور بنية الدماغ والتطور السلوكي.(6)

 

لا تقتصر أهمية الخبرات والتجارب على تنمية الأطفال وتطورهم الفكري فقط، لكن يمتد تأثيرها ليشمل الحالة النفسية أيضا، إذ يكون الأطفال الذين رُبُّوا في بيئات تتميز بالرعاية والاهتمام أكثر قابلية للشعور بالأمان والثقة وأكثر قدرة على التعامل مع التحديات اللاحقة في الحياة.(7)

أب - إبن - تخييم - مغامرة - تعلم - خبرات

من ناحية أخرى، فإن التجارب ونقل الخبرات مهمة لتقليل الشرود. يُعرَّف الشرود بأنه تجوُّل العقل عشوائيا بين أفكار ومشاعر قد تكون شديدة السلبية، يؤكِّد عالم النفس ماثيو كيلينجسورث أن الشرود يرتبط بغياب السعادة، وفي بحث علمي صدر بالاشتراك مع أستاذ علم النفس دانييل جيلبرت، كتب الاثنان أن "العقل الشارد هو العقل غير السعيد".(8)

 

يرى كيلينجسورث أيضا أن السعادة تكمن في محتوى التجارب، وخلال بحث نُشر في مجلة "سايكولوجيكال ساينس"، أكَّد كيلينجسورث وباحثون آخرون أن إنفاق الأموال على الخبرات يوفر سعادة أكثر ديمومة. حتى حالة الترقُّب التي قد تعيشها أثناء انتظار خوض تجربة جديدة هي حالة تُثير المزيد من السعادة والإثارة أكثر من انتظار سلعة مادية.(9) أظهرت الأبحاث كذلك أن التجارب تميل إلى جعل الناس أكثر سعادة لأنهم أقل عُرضة لقياس قيمة تجاربهم من خلال مقارنتها بتجارب الآخرين، وهذا على عكس الممتلكات.(10)

 

أيضا من مزايا نقل الخبرات وخوض الأطفال للتجارب زيادة الدافع، فيصبح دافعهم تجاه الأشياء أقوى حينما يتعرَّفون أكثر إلى الحياة ويخوضون التجارب التي تنقل لهم المشاعر المُختلفة، فيصبحون مع الوقت أكثر انخراطا في التجربة الإنسانية، هذا من شأنه أن يُطوِّر لديهم فهم العالم وتعقيداته. كذلك تُحسِّن الخبرات والتجارب من سلوكيات الأطفال، فكلما زاد تفاعل أطفالك، كان من المُرجَّح أن يكون سلوكهم أفضل.

 

تُحسِّن التجارب في الأطفال أيضا القدرة على تطوير التواصل واللغة، فهي تمنح الأطفال شيئا يتحدثون مع الآخرين حوله. ومن خلال المساعدة على تطوير اللغة، فأنت تدعم تطور مجالات التعلُّم الأخرى. على سبيل المثال، لإحراز تقدُّم في فهم الرياضيات، مثل: الشكل والمساحة والقياس، يحتاج الأطفال إلى أن يكونوا قادرين على مقارنة الحجم والوزن والطول والتحدُّث عنهم. (11)

 

كيف يُمكنك أن تنقل الخبرة إلى أطفالك؟

إب - إبن - تربية - نصيحة - خبرة

حسنا، هذا هو السؤال الأهم. تُركِّز بعض النظريات الكلاسيكية لعلم النفس على أهمية التجربة وكيف تُشكِّل السلوك والشخصية. وفي هذا الصدد، هناك ثلاث نظريات رئيسية تصف وتوضِّح كيف يتعلَّم الأطفال، يُمكنك الاستعانة بهذه النظريات لمعرفة كيف يُمكنك نقل الخبرات إلى الأطفال وتعليمهم. تشمل هذه النظريات: التكييف الكلاسيكي، التكييف الفعّال، التعلُّم القائم على الملاحظة.(12)

 

يتضمَّن التكييف الكلاسيكي إنشاء رابط بين منبه ما واستجابة مُحددة. توضِّح هذه النظرية أن الأطفال يتعلمون من خلال الربط بين الأشياء في بيئتهم والعواقب المُحتملة، وهو أمر قد يفعلونه خلال الفترة الأولى بعد ميلادهم، على سبيل المثال، قد يبدأ الرضيع بسرعة في ربط مشهد زجاجة الرضاعة بالحصول على الطعام.(13)

 

أما التكييف الفعّال، فهو يحدث عندما تُكافئ سلوكا ما، فيصبح من المُحتمل أن يتكرر السلوك نفسه مرة أخرى في المستقبل، أو عندما تعاقب على سلوك ما، فيقلّ احتمال حدوثه مرة أخرى في المستقبل. المبادئ التي تقوم عليها نظرية التكييف الفعّال هي مجموعة من تقنيات التعلُّم التي تستخدم التعزيز والعقاب لزيادة الاستجابة أو تقليلها. على سبيل المثال، عندما يُكافأ الطفل على تنظيف غرفته، يزداد احتمال تكرار السلوك نفسه لاحقا.(14)

 

النوع الثالث من طرق التعلُّم هو التعلُّم بالمراقبة، فيمكن للأطفال أن يتعلَّموا الكثير من خلال مُلاحظة والديهم وأقرانهم وإخوتهم، وحتى السلوكيات التي يُشاهدونها على التلفاز وألعاب الفيديو والإنترنت يمكن أن تؤثر على أفكارهم وأفعالهم. يُعتبر التعلُّم القائم على الملاحظة قويا جدا، لذلك يكون من المهم التأكد من أن الأطفال يلاحظون الأنواع الصحيحة من السلوكيات.(15)

أب - إبن - دعاء - صلاة - رمضان

صحيح أن أشكال التعلُّم السابقة تتم على الأغلب من خلال التجارب الاجتماعية المبكرة للطفل، التي قد تتمحور حول أفراد الأسرة، لكن الدائرة المُجتمعية التي يمكن من خلالها خوض التجارب والحصول على الخبرات تتسع مع تقدُّم الطفل في العمر لتشمل الأطفال الآخرين في النادي أو في الحي أو في المدرسة. يكون للأطفال الآخرين تأثير كبير على نفسية الطفل ونموه، وذلك نظرا إلى أن الأطفال يقضون وقتا طويلا في التفاعل مع أقرانهم في المدرسة مثلا. لذلك على الآباء إيلاء المزيد من الاهتمام لاختيار أقران أطفالهم، وذلك للمساعدة في نقل الخبرات والتجارب الجيدة للطفل.(16)

 

عمليا، من الأشياء التي يُمكنك القيام بها لنقل الخبرات وخوض التجارب مع أطفالك ما يلي: امنح الأطفال أشياء حقيقية لتجربتها، اجعلهم يخوضون التجارب والمواقف المُختلفة، اصطحب الأطفال إلى الخارج، دعهم يشعرون بملمس النجيلة الخضراء وأوراق الأشجار تحت أقدامهم. دعهم يختبرون يوما ممطرا وعاصفا، ارتدوا ملابسكم الثقيلة واذهبوا للخارج واستمتعوا. من أجل تحقيق معرفة عامة جيدة عن العالم، يحتاج الأطفال إلى التعلُّم من خلال التجارب.

 

عليك أيضا أن تستمع إليهم جيدا، اجعلهم يأتون ويعرضون عليك ويشاركون معك ما يعرفونه، سواء كان ما يُشاركونه تجارب تعليمية أو مواقف اجتماعية، في كل الحالات عليك الاستماع إليهم لتعليمهم ونقل الخبرات إليهم.(11)

أب - إبن - طفل - حديث - حوار - استماع - تربية

هناك العديد من الطرق لتقديم تجربة هدية لأطفالك دون إنفاق آلاف الدولارات على تذاكر الطيران والسفر إلى الخارج. يمكنك فقط تنظيم رحلات مع صغارك لزيارة المتاحف أو حدائق الحيوان أو المتنزهات الترفيهية. يُمكنك اصطحابهم إلى مدينة قريبة، أو الذهاب لصيد الأسماك، أو الذهاب في جولة بالدراجة. كذلك فإن تعلُّم الجديد هو أيضا تجربة ممتازة، مساق مثلا أو كتاب أو ورشة عمل أو التمرن على رياضة ما.

 

بالطبع عليك أن تسعى لتأمين أطفالك ماديا وتوفير احتياجاتهم الأساسية، لكن من ناحية أخرى يجب أن تهتم بتعليمهم ونقل الخبرات وخوض التجارب معهم، هذا ما يُمكِّنك من تأسيس إنسان له شخصية ولديه عقل ناضج وصحة نفسية تُمكِّنه من اتخاذ القرارات والسير قُدُما في الحياة رغم المشكلات والعراقيل، لن تُفيد الممتلكات كثيرا إذا تركت طفلك هشا نفسيا أو ليس لديه من الخبرات والمعرفة والمهارات ما يجعله يستوي على سوقه في الحياة.

 

إن إعطاء تجارب للأطفال ليس مفيدا فقط لأطفالك، ولكنه أيضا مفيد لك لأنه يوفر لك عددا رائعا من اللحظات التي تجعلك تستكشف نفسك وتُعيد صياغة علاقتك بها أثناء تنقلك في عالم تربية الأطفال. عندما يكبر أطفالك، ستصبح هذه التجارب التي خُضتها مع صغارك أساسا رائعا لرفاهيتهم العقلية والنفسية.(17)

———————————————————————————-

المصادر

  1. The Science Of Why You Should Spend Your Money On Experiences, Not Things
  2. Age differences in children’s happiness from material goods and experiences: The role of memory and theory of mind
  3. Why experiences are better gifts for older children
  4. What Makes Children Happier? Material Gifts or Experiences?
  5. Brain Development and the Role of Experience in the Early Years
  6. How the Timing and Quality of Early Experiences Influence the Development of Brain Architecture
  7. Supporting Children’s Early Development by Building Caregivers’ Capacities and Skills: A Theoretical Approach Informed by New Neuroscience Research
  8. A Wandering Mind Is an Unhappy Mind
  9. Waiting for Merlot: Anticipatory Consumption of Experiential and Material Purchases
  10. Buy Experiences, Not Things
  11. Why is it important to provide early years children with real life experiences?
  12. Experience and Development
  13. Classical Conditioning: Classical Yet Modern
  14. Operant Conditioning
  15. Learning to make things happen: Infants’ observational learning of social and physical causal events
  16. Family, Peer and School Influence on Children’s Social Development
  17. Why you should Give your Kids Experiences, Not Things
المصدر : الجزيرة