شعار قسم ميدان

"فرنسا المحرومة".. كيف يمكن لحراك هش أن يربك سلطة؟

ميدان - فرنسا السترات الصفراء

أثناء تغطيتها للاحتجاجات في فرنسا، عنونت وكالة "بي بي سي" حركة السُترات الصفراء باعتبارها الحركة اللغز، فهي لا تمتلك قيادة محددة، ولا هوية سياسية واضحة، ولا تنتمي إلى فئة طبقية أو اجتماعية محددة، ولكنها تُمثّل ثمرة تفاعل عام ومفتوح على مواقع التواصل الاجتماعي. لغزٌ عدّته "بي بي سي" مزيجا من الغاضبين تجاه العديد من القضايا التي تتصل بمسار الحياة اليومية، وليس آخرها الارتفاع في أسعار الوقود الذي أقرته الحكومة الفرنسية في وقت قريب. من ناحيته، وصف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي البارز آلان جريش (1) الحركة بأنها غير مسبوقة في تاريخ فرنسا الحديث، ولا مثيل لها في تاريخ الثورات الشعبية الطويل في فرنسا، مُعلقا: "إنه من غير المُمكن حتى أن نحاول قولبتها في أنماط معروفة، أو تحليلها على ضوء الماضي. إنها أيضا حركة في طور التطور، تبحث عن ذاتها، وتتردد، ومن غير الممكن أن نعرف سابقا اتجاهاتها".

 

في الذاكرة السياسية الجمعية، عادة ما ترتبط صور المتظاهرين في الشوارع بأجواء من التفاؤل والاستبشار بحراك سياسي تحرري يسعى لتحقيق سياسات أكثر عدالة، فمنذ أكثر من شهر، وحتى اليوم، يتجمع ملايين من المواطنين في فرنسا كل يوم سبت يرتدون -في غالبيتهم- السترات الصفراء. بدأ الحراك آنذاك اعتراضا على سياسات التقشف التي تنتهجها حكومة ماكرون، والتي أعلنت عزمها رفع أسعار الوقود مطلع العام الجديد، ليُمثّل هذا الحدث قمة جبل الجليد الذي أجج الحراك (2). حينها اقتصرت التظاهرات في صورتها الأولية على مساعي مواجهة قرار رفع أسعار الوقود، وهي مطالب ما لبثت أن زادت حدتها وجذريتها مع تزايد أعداد المُشاركين فيها، لتصل باتجاه المطالبة بإسقاط رأس هرم السلطة، ماكرون.

 

     

لم يمتز حراك السترات الصفراء بسمات جوهرية أو أيديولوجية بقدر العفوية والانتشار الذي باغت جميع الأطراف السياسية في فرنسا تقريبا، بدءا من السُلطة ووصولا لقوى المعارضة وحتى النقابات المهنية والاتحادات العُمالية وقوى اليمين واليسار على السواء، وهو ما ظهر جليا في الارتباك الواضح في تعاطي الحكومة الفرنسية مع الاحتجاجات المستمرة لقرابة شهر حتى الآن في ظل الضبابية التي تقود الحكومة في مساعيها لكبح وتهدئة حراك لا قائد محدد له.

  

ارتدِ السترة الصفراء.. وانزل إلى الشارع

"إنهم جزء من فرنسا المتجاهلة، فرنسا المحرومة، وللمرة الأولى منذ عقود رأينا على شاشات التليفزيون وجها آخر لفرنسا، وهو وجه من الأجور المنخفضة، ونهايات الأشهر الصعبة. إن الحصول على هذا “الظهور على الساحة” هو أول نجاح لـ “السترات الصفراء” وهم يدركونه ويفتخرون به"

 آلان جريش

  

كانت الفئة الأساسية التي بدأت الحراك هم سائقو السيارات من سُكان الريف الفرنسي وأطراف المُدن، وهم المُتضررون بنسبة كبيرة من قرارات الحكومة الاقتصادية الأخيرة، دعوات بدأت عبر مجموعات صغيرة على موقع فيسبوك وانتظمت بشكل جماعي عبر إيقاف سياراتهم في الطرق الرئيسية أو السريعة بهدف تعطيل حركة المرور، مع ارتداء السُترات الصفراء التي عادة ما يستخدمها من تعطلت سيارته في الشارع حين خروجه لإصلاحها، حيث يُلزم القانون ارتداء السُترة الصفراء لتنبيه سائقي السيارات العابرين بوجوده مترجلا من سيارته (3).

 

ومع توالي حالات التصادم بين مُرتدي السُترات الغاضبين والشرطة الفرنسية تزايدت أعداد المحتجين من مُرتدي السُترات الصفراء الغاضبين في الشارع؛ حيث عبرت فاليري كاسانوفا القاطنة في إحدى ضواحي ريف فرنسا "بأن بإغلاق الحكومة محطات السكة الحديدية الصغيرة في الريف لم يجعل لدى أسرتها أي وسيلة للوصول إلى عملهم في المدينة إلا باستخدام سياراتهم الخاصة يوميا، مُضيفة أن قرارات رفع الوقود الأخير تضر فقط الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة وليس الطبقة الغنية التي لن تتأثر بالقرارات الأخيرة كثيرا"، مُردفة أيضا: "على الحواجز التي نقيمها على الطريق وفي الشوارع لا يهم كثيرا ما هو عمل كل شخص ولمن يُصوّت في الانتخابات، فكلنا أصحاب السُترات الصفراء نحتجّ ضد السياسات نفسها وهذا هو المهم"، وتصاعدت المطالب الاحتجاجية لتوجّه سهام النقد باتجاه النظام الضريبي الفرنسي برمته (4)، وما لبثت بعدها أن تحوّلت الوقفات الاحتجاجية لمُرتدي السُترات الصفراء إلى مسيرات بالمئات ثم بالالآف في مُختلف المُدن الفرنسية.

    

حركة السُترات الصفراء تأتي في ظل صعود حركات يمينية شعبوية في أوروبا وأميركا وهيمنتها على قطاعات ليست صغيرة 
حركة السُترات الصفراء تأتي في ظل صعود حركات يمينية شعبوية في أوروبا وأميركا وهيمنتها على قطاعات ليست صغيرة 
   

ويدعم ذلك العديد من الإحصائيات والتحليلات (5) التي أظهرت أن حركة السترات الصفراء تحوّلت في الأسبوع الثالث للاحتجاجات لحركة تضم شرائح اجتماعية واسعة من الطبقات الوُسطى والدنيا والتي تعبر عن سخطها من تراجع قدرتها الشرائية نتيجة سياسات ماكرون الضريبية مُقابل التخفيضات الضريبية التي حصل عليها الأغنياء وأصحاب الدخل المرتفع من سُكان المُدن الكبرى في فرنسا، حيث أكد فينسنت تيبو(6)، كبير الباحثين في إيلابي: "حتى 54% من الأشخاص الذين صوتوا لصالح ماكرون يدعمون هذه الحركة"، مضيفا: "إن السخط بشأن القوة الشرائية واسع، وليس مجرد أمر يتعلق بالمجتمع الريفي أو الطبقات الدنيا فحسب كما بدا الحراك".

 

وفي تحليل اجتماعي مبدئي لحركة السُترات الصفراء يخلص الباحث جاد بوهارون (7) "إلى أن الغالبية العظمى من الأشخاص المشاركين في هذه الحركة، كما هو واضح من الدراسات الدقيقة، هم جزء من الطبقة العاملة، ما يعني أنهم لا يملكون سوى قوة عملهم ليبيعوها. قد يكونون من العاملين، قد يكونون عاطلين عن العمل، قد يكونون متقاعدين، قد يكن أمهات عازبات يعانين بين أعمال متعددة منخفضة الأجر لتدبير نفقاتهن، لكنهم جميعا يقولون شيئا واحدا: ليس لديهم ما يكفي من المال للعيش؛ الملاحظة الأساسية هي أن هذه الحركة خارجة تماما عن الطبقة العاملة المنظمة، بنقاباتها وأحزابها السياسية. نحن نتحدث عن أشخاص ليسوا نقابيين (شخص من كل اثنين عاملين بأجر في فرنسا لم يكونوا مُنظمين نقابيا)، وعادة ما يعيشون بعيدا عن المُدن الكبيرة، يعملون في أماكن عمل صغيرة. وعادة ما يكون الوقود بند إنفاق كبيرا لأنهم يعيشون بعيدا عن المكان الذي يعملون فيه".

 

وعلى الرغم من أن التكتّل السكاني المتظاهر يتمركز بوضوح في باريس، وجادة الشانزليزيه وأمام قصر الإليزيه تحديدا، فإن هذه الحركة تظل حاضرة وموزعة جغرافيا، فرغم الحضور القوي في باريس، فإن مُعظم المشاركين يتظاهرون في تجمعات صغيرة، قوامها المئات، في جميع أنحاء البلاد، متسلّحين بإقامة حواجز أو متاريس على الطرق السريعة في الريف والقرى، مُرتدين السُترات الصفراء، ومُنددين بسياسات الحكومة ومُطالبين الناس بالانضمام إليهم، وهو ما يعني أننا أمام حراك شعبي غير متجانس أيديولوجيا (8)، لكنه يتحرك عبر تسييس رموز اجتماعية داخل حياتهم اليومية العادية كالسُترة الصفراء، والتي أصبحت هنا هوية جامعة للمتظاهرين، معبّرين من خلالها عن احتجاج وموقف سياسي جماعي مرن ومتجاوز للأطر التنظيمية التقليدية، مع حيازته على قدرة عالية على التعبئة والحشد.

 

    

السُترة الصفراء.. هوية وهمية

بطبيعة الحال، لا تبدو الأمور سهلة وسلسة وحالمة بتغيير شعبي يجتاح السلطة بانسيابية دون دخول الأيديولوجيات المنتفعة على ساحة الاحتجاج، فحركة السُترات الصفراء تأتي في ظل صعود حركات يمينية شعبوية في أوروبا وأميركا وهيمنتها على قطاعات ليست صغيرة وهامشية من المجتمعات الغربية. خطاب يميني ظهر أثناء الحراك في بعض الهتافات والمطالب التي أعلنت عداءها للمهاجرين والأقليات كالعرب والمسلمين الموجودين في فرنسا (9)، وهو ما عزز مخاوف اليسار التقليدي الفرنسي والأوروبي في بداية الحراك، حيث لم يُعلن الحزب الاشتراكي الفرنسي تأييده للحركة على الرغم من المطالب الاقتصادية العادلة المرفوعة منذ البداية كعنوان رئيس للحركة؛ وهو ما ظهر بشكل أوضح في التصريحات المرتبكة لجون لوك ميلانشون (10) زعيم حزب " فرنسا العصية" ممثل اليسار الجديد في فرنسا.

 

مَكمن هذا التخوف يتمثل في أن الصعود اليميني الشعبوي في أوروبا والولايات المتحدة مُؤخرا يرتكز بالأساس على شرائح اجتماعية واسعة من الطبقات الوسطى والطبقات الدنيا الغاضبة أولا من جراء سياسات النيوليبرالية والعولمة الاقتصادية التي أضعفت القدرات الشرائية لديها، بالإضافة إلى تحطيم أنماط حياتها التي اعتادت عليها في السابق، مما ساعد على تعزيز حالة الرُهاب من الأقليات الثقافية واضطهاد اللاجئين، باعتبارهم يُمثلون عبئا على الموارد والاقتصاديات المحلية الأوروبية، وهو ما يُمثل الركيزة الأساسية للخطاب اليميني غير الليبرالي (11).

 

ميدانيا دعم هذا التخوف التباين الجغرافي-الثقافي بين سُكان المُدن الفرنسية الصناعية والمالية والكبرى والريف والضواحي الفرنسية، حيث يذهب الجغرافي كريستوف جيلوي إلى أن (12) "الانقسام بين المُدن الكبرى في فرنسا وضواحيها وبين الأحياء الإقليمية والريف لا يتخذ طابعا محض طبقي، وإنما يتخذ طابعا ثقافيا كذلك، فبينما استفادت المُدن الكبرى وضواحيها من النمو الاقتصادي وفرص العمل في القطاع الخدمي والأعمال التجارية والعقارات، التي وفّرتها العولمة الاقتصادية، وبالتالي تبنّت الثقافة الليبرالية التي توسعت بتوسع سياسات العولمة، كالترحيب باللاجئين والاحتفاء بالتنوع الثقافي والإثني؛ عانت "فرنسا الطرفية"، الأحياء الإقليمية المتوسطة والصغيرة والريف الفرنسي -التي شهدت بدايات الحراك- من رحيل الصناعة إلى البلدان الأقل أجورا، وظلت تلك المناطق محتفظة بالقيم التقليدية غير الليبرالية".

  

undefined

   

وحاول بالفعل العديد من أعضاء اليمين المتطرف اختطاف الحركة على وسائل التواصل الاجتماعي والظهور كمُمثلين لها. إلا أن الواقع يُظهر غياب التمثيل السياسي الموحد للحراك بسبب طبيعته المجزأة مكانيا وأيديولوجيا وطبقيا، على الناحية الأخرى بدأت عدد من الحركات اليسارية بعد تردد في الانتباه إلى أن السُترة الصفراء تُمثل هوية فارغة نظريا ويمكن لأي من القوى السياسية ذات التماسك الأيديولوجي في اليمين أو اليسار التقاطها وتوجيهها لأهدافها كما حاول اليمين المتطرف بالفعل (13)، فقد قررت قطاعات من الحركة المُناهضة للعنصرية أن تنضم لحركة السُترات الصفراء حيث أوضحت أساه تراوري، وهي ناشطة من أصل أفريقي ضد عنف الشرطة، خلال اجتماع عام ضم مئات من الأشخاص (14): "إذا لم ننضم، نحن السُود والعَرب والمُهمشون من أحياء الطبقة العاملة، إلى حركة السترات الصفراء، ونطرد منها أقصى اليمين، فإن هذه الحركة يُمكن أن تتحول ضدنا. السترات الصفراء تتحدث عن الفقر والبطالة ونقص الخدمات العامة. من يشعر بهذه الأوبئة أكثر من الفقراء من أبناء المهاجرين؟ مكاننا الشرعي هو داخل هذه الحركة، جنبا إلى جنب مع السترات الصفراء".

 

أما حين النظر للمدلولات السياسية للحراك، فإنه يصعب الوقوف على منصة ثابتة تنطلق منها رؤى واضحة للحراك الشعبي لما ينبغي أن تؤول إليه الأوضاع، وتعود هذه الضبابية في المشهد لأسباب تتعلق بالمدى الجغرافي والسياسي الواسع لانتشارها، وتنوع قواعدها الاجتماعية، ومآلات تطورها غير القابلة للتنبؤ، كما يوضح إرنست لاكالاو في كتابه "في الشرط الشعبوي"، فالصراع حول المعنى الذي تُمثّله أي حركة شعبوية واسعة يظل رهنا بأي من القوى التقليدية الصلبة بالمعنى الأيديولوجي والتنظيمي التي تستطيع أن تنشئه وتحدد طبيعته وتعمل على هيمنته. ويضيف كل من أنطونيو نيغري ومايكل هاردت في عملهم الموسوعي " الجمهور: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية "  مفهوم الجمهور كبديل سياسي وحركي لمفهوم الطبقة في زمن هيمنة الليبرالية الجديدة حيث "لم يعد مُمكنا الحديث عن الطبقة العاملة كوحدة سياسية لها وجود جوهري مستقل بقدر الحديث عن جمهور، أي مجموعة متنوعة من الذوات الفردية، التي لم تعد مُنظمة ضمن المؤسسات الانضباطية القديمة، وعلى رأسها النموذج التقليدي للمصنع الفوردي، بل صارت أكثر تفرقا ومرونة في أشكال إنتاجها ووجودها الاجتماعي، وأشد ذاتية وفردانية. حراك هذا الجمهور، بسيولته وتفلّته من الأطر وصعوبة ضبطه وتأطيره تنظيميا وأيديولوجيا، هو الذي من شأنه أن يُجابه سياسات الليبرالية الجديدة" (15).

 

وبالعودة إلى تحليلات آلان جريش (16)، فالحركات الاحتجاجية في عالم الليبرالية الجديدة وما بعد الحداثة تتخذ أنماطا تنظيمية وخطابية هشة ورخوة وغير صلبة، موضحا أننا منذ انتهاء الحرب الباردة وبمجرد دخولنا حقبة الليبرالية الجديدة، تلاشت كل أشكال التعبئة التقليدية الخطابية والتنظيمية، وفقدت فعاليتها، لتأخذ الاحتجاجات الحالية أشكالا متنوعة ومتجددة وغير معتادة، تتسم أحيانا بالسيولة، مثل حركات "احتلوا وول ستريت"، "حركة ١٥ م الإسبانية"، مرورا بالربيع العربي وصولا إلى السُترات الصفراء. إلا أن ما اعتبره البعض حراكا مرنا وغير مؤدلج -يضيف آلان-، كان في أحيان كثيرة واجهة وفُرصة لنشاط قوى وتيارات سياسية لا تريد أن تضع نفسها في الواجهة، لحسابات سياسية معقدة، ما قد يجعل نمط الحراك الرخو والهش، هشا جدا سياسيا وغير فعال في كثير من الأحيان. كما أن غياب البُنى التنظيمية الواضحة يجعل هذا النوع من الحركات الاجتماعية كأنها تقول كل شيء، ولا تقول شيئا في الآن نفسه، ويمكن أن يتم تأويلها والركوب عليها وتحريفها بسهولة من قِبل أي قوة تقليدية وصلبة، والسؤال المطروح، السؤال نفسه الذي طرحه الربيع العربي وليس فقط في فرنسا، هو ما إذا كان باستطاعة هذه الحركات الرخوة أو المرنة تشكيل منصة سياسية وقوة ضغط صلبة لتنفيذ مطالبها وتحقيق مكاسب سياسية ملموسة؟

المصدر : الجزيرة