شعار قسم ميدان

الحداثة العربية.. عملية الاستنساخ الفاشلة

midan - ottoman

في لقاء ثقافي جمع أكثر من شاعر عربي، دار نقاش مُعتاد حول فكرة الحداثة فى الشعر واللغة، وماهية الحداثة في الأدب، وما الحداثة في الشعر، وما سماتها الرئيسة.. ذهبت أغلب أراء الحضور -وكلهم من الشعراء- إلى أن سمة الحداثة الأساسية في الأدب، هي أنها تنتصر للإنسان أمام سُلطة اللغة، وتنحاز للتجديد وللتجربة الوجدانية ولتدفق الصور والمعاني ولحرية التعبير؛ بدلا من أن تنحاز للقوالب اللغوية المُسبقة والموسيقى اللغوية العروضية -كما في الشعر التقليدي- التي تريد أن تحشر الواقع داخل بناء لغوي مُسبق.

 

وفي استدراك سريع أشار الشاعر المصري أمل دنقل إلى "أن الشيء الجوهري في الحداثة أنها رغم كل ثوريتها وتمردها إلا أنها لا بد أن تأتي على جناحين؛ جناحي الأصالة والمعاصرة، فكما أن المعاصرة مهمة لارتباطها بصُلب عملية التحديث نفسها؛ إلا أن جناح الأصالة يظل على نفس القدر من الأهمية؛ لأننا لا نستحدث شيئًا من الفراغ، فحين نتجاهل تاريخ الأمة وماضيها، تتحول عملية التحديث إلى فوضى، وتفقد حركة التحديث -أيًا كان مجالها- صلتها بالحياة".

يبدو هذا النقاش للوهلة الأولى نقاشا ثقافيا أدبيا هادئا بين مجموعة من الشعراء؛ إلا أنه -في الحقيقة- جزء من نقاش عام مُمتد طوال التاريخ العربي والإسلامي، فجوهر النقاش نفسه ظل يُطرح وبأشكال متعددة طيلة قرنين من الزمان1؛ حيث فرضت اسئلة الحداثة والتقليد والأصالة والمعاصرة نفسها على العالم العربي والإسلامي، وكانت لها من الكثافة وشدة الحضور في كل المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية أن شكلت -وبشكل جذري- المجال العربي-الإسلامي الحديث بكافة قواه وتياراته السياسية والثقافية؛ لتصبح أسئلة الحداثة -كسؤال الدولة والقانون والحرية والتقدم والعقلانية والتقنية وعلاقة الدين بالسُلطة وغيرها- هي الموضوع الأساسي للصراعات والاستقطابات السياسية والثقافية والسمة الرئيسة للتاريخ العربي والإسلامي الحديث.

 

قصة الحداثة العربية قصة طويلة تفرد لها الكتب والمؤتمرات، بيد أنه من المفيد تناول أول مسار وتجارب الحداثة العربية كتجربة التحديث العثماني، للوقوف أمام طبيعة أزمة الحداثة في عالمنا العربي، هل هي أزمة طارئة، أم أنها أزمة هيكلية لها جذورها منذ بداية التاريخ الحديث للمنطقة؟!

 

صدمة الحداثة والحاجة إلى الإصلاح
 

"أليس من علامات الإهمال والإخفاق أن لا يندفع الفكر نحو البحث عن الجديد، أليس عيبا على العالِم المسلم أن يرى ما يزخر به العالَم من العلوم الجديدة والمكتشفات والمؤلفات الحديثة، ولا يسعى إلى التعرف عليها، أليس من العيب أن يطرأ على هذا العالم هذا التحول الشامل بينما نحن في غفلة تامة!"

(جمال الدين الأفغاني)

 

في غالبية التحليلات والدراسات التي تتناول التاريخ العربي والإسلامي الحديث، يتضح أن هناك ما يمكن أن نسميه بالاتفاق أو التصور العام بأن القرن التاسع عشر -منذ بداياته- مثّل لحظة صدمة الحداثة في العالم الإسلامي، فتحْت تأثير ضربات الدول الغربية الاستعمارية بدأ العالم الإسلامي يدرك أنه ليس مركز الكون، ولا كونًا قائمًا بذاته وقادرا على الاستمرار وحده؛ كما تخيل نفسه طيلة تاريخه الطويل.

ُيجمل المفكر السياسي برهان غليون بأن القوى الحداثية التي أنتجتها الإصلاحات العثمانية من أجل الحفاظ على دولتها، كانت هي المعارضة الأكثر جذرية لنمط حكمها التقليدي خلال تاريخها العريض كله
ُيجمل المفكر السياسي برهان غليون بأن القوى الحداثية التي أنتجتها الإصلاحات العثمانية من أجل الحفاظ على دولتها، كانت هي المعارضة الأكثر جذرية لنمط حكمها التقليدي خلال تاريخها العريض كله


ويُشير الدكتور برهان غليون
2 إلى أن الوعي بالصدمة الحضارية -الذي بدأ تدريجيًا داخل دَوائِر النُخب الحاكمة والنُخب العلمية والدينية- ما لبث أن انتشر بين شرائح واسعة من الجماهير الإسلامية، فقد "شعر الجميع أن عالما كاملا قد تبدل فجأة من دون أن يتسنى لأناس ذلك العصر الوقت الكافي لمعرفة كيف حصل هذا وما هو أصله وما مصدره، وفي ضوء هذا التبدل والانهيار اكتشف العالم الإسلامي هرمه وترهّل بُناه". وساد شعور بالخطر والتهديد الوجودي الذي نجم عن الإحساس بانعدام الوزن وغياب أي فاعلية سياسية، وسيطرت مشاعر القلق والخوف الأكثر عنفا، وبات المسلمون والعرب يعيشون مُترقبين العُدوان الخارجي الوَشيك.

 

ويضيف المفكر السياسي والمؤرخ طارق البشري3 أن المواجهة السياسية والعسكرية -التي كانت التلاقي الأول والأوسع بين الغرب والعالم الاسلامي- قد شحذت همم المفكرين والقادة السياسيين العرب والمسلمين؛ فأخذوا يُفتشون عن مكامن القوة في الغرب ويحاولون نقلها وعن مكامن الضعف في العالم الإسلامي للعمل على تلافيها وجرى كل ذلك، سواء في مجال الإنتاج والدفاع العسكري أو في النظم والأساليب والأفكار والقيّم، وكان من الطبيعي في مثل هذا السعي -بحسب البشري- أن تتنوع وجهات النظر والتجارب.

 

ويوضح البشري 4 بشكل أكثر تفصيلا أنه "كان للقوة العسكرية للدول الغربية والمصحوبة بالتفوق التقني والتنظيمي، ما اختل به ميزان القادة والمفكرين من دعاة الإصلاح، من ناحية تحديد ما يأخذون عن الغرب وجاء الاقتحام العسكري والسياسي للبلدان الإسلامية؛ فاضطربت تمامًا معايير الانتقاء لما يفيد العرب والمسلمين من منجزات الغرب؛ حيث غاب عن النخب الحاكمة وقادة الإصلاح -على السواء- الفروق الدقيقة بين التحديث والتقليد وإصلاح القديم أو تدميره"، فصار التحديث هو عملية سَريعة ومتعجلة من التقليد والاستيراد من الغرب وهجوم متزايد على البُنى التقليدية داخل الأنظمة الإسلامية من بعض المتأثرين بالقوة الغربية الصاعدة والمَجروحين من الضعف الإسلامي والعربي، وشُلت -تحت وطأة الهزائم المتكررة- ضوابط تحديد ما النافع وما الضار، وما السياق المُلائم لإدخال نظام غربي عسكري أو مدني غربي داخل المجال الإسلامي والعربي.

 

وفي هذا الظرف التاريخي وتحت تأثير هذه الصدمة الحضارية، ظهرت أول تجربة إصلاح وتحديث فى العالم الإسلامي تحديدا فى السَلطنة العُثمانية، وهو تحديث تقني وعسكري وإداري بالأساس، أو ما عرف وقتها بفرقة النظام الجديد.

 

النظام الجديد.. أول جيش حديث للمسلمين


كانت السَلطنة العثمانية هي المركز السياسي والحضاري الأهم فى العالم الإسلامي، وخط المواجهة الأساسي مع الدول الغربية الاستعمارية، فعلى الرغم من أن الاستعمار قد طال العديد من بلدان العالم الإسلامي بالفعل في المشرق والمغرب العربي؛ إلا أن المواجهة العسكرية والسياسية بين السلطنة العثمانية والدول الغربية لم تتوقف تقريبا طيلة القرن التاسع عشر.

 

ففي مستهل القرن التاسع عشر حاول السُلطان سليم الثالث إنشاء فرق عسكرية حديثة ونظامية تم تسميتها "بالنظام الجديد" وتم تسليحها وتنظيمها وتعبئتها بالأساليب الأوروبية، وفي نفس الوقت كانت السَلطنة تعتمد بشكل أساسي على فرق عسكرية تقليدية متنوعة، كالفرق البكتاشية الصوفية التي تلقى أفرادها وكوادرها تعليما دينيا صوفيًا، وكذلك الفرق الانكشارية التي كانت البناء العسكري التاريخي والأساسي للدولة العُثمانية 3.

 

استولت روسيا على العديد من المناطق والأقاليم العثمانية من الشَمال وأجبرت السُلطان إثر سلسلة هزائم عسكرية فادحة على توقيع اتفاقية تفتح بها الدولة العُثمانية أراضيها فى القوقاز ونهر الدانوب للروس

إلا أنه ما إن ضعفت الدولة العثمانية وحلت بها الهزائم، وفقدت كثيرًا من الأراضي التابعة لها؛ حتى لجأت إلى إدخال النظم الحديثة في قواتها العسكرية؛ بغية مسايرة جيوش الدول الأوروبية في التسليح والتدريب والنظام، وتسترجع ما كان لها من هيبة في أوروبا، وتسترد مكانتها التي بنتها على قوتها العسكرية بشكل كبير. وكرد فعل ظهرت الفرق الانكشارية والصوفية كقوى رجعية ومحافظة تقف ضد التحديث والصناعة العسكرية الحديثة والعلوم الغربية، فعارضت إدخال النظام الجديد في فيالقهم، وفشلت محاولات السلاطين العثمانيين في إقناعهم بضرورة التطوير والتحديث، وفشل السُلطان سليم في ذلك، وقد تم اغتياله في العام 1808، كرد فعل عنيف من القوى المحافظة على أول مشروع تحديث في العالم الإسلامي 3.

 

ثم جاء السُلطان محمود الثاني الذي تبنى وجهة النظر المتحمسة للتحديث والتغريب وبشكل أكبر من سلفه، ونظر للانكشارية وغيرها من الفرق العسكرية المُعارضة لهذا المشروع على أنها مجرد مجموعات رجعية تجاوزها التاريخ، واستطاع بعد مراوغات ومناورات دامت أكثر  من عقد، بعد أن أعد الفرق العسكرية الحديثة والنظامية بعيدا عن أعين القوى المحافظة في الأستانة، أن يُباغت القوات الانكشارية والصوفية في معركة فاصلة قضى فيها على قوتهم وصفى تجمُعهم نهائيا، وبذلك انفتح الطريق لبناء الجيش الحديث على الطريقة الغربية بعد القضاء على التقليد والتراث العسكري العثماني بشكل كامل 3.

 

في سياق أوسع يُمكن القول إن هذا الصراع المُمتد بين التقليد والحداثة، هو صراع فرضته القوى الغربية الاستعمارية في تلك الفترة على غالبية مناطق العالم، في تركيا، كما في اليابان كما في مصر والمغرب العربي 5، وعلى عكس بعض دعاوى المستشرقين أو بعض المثقفين العلمانيين لم تكن قوى السلطنة العثمانية ونخبها السياسية والثقافية كلها ذات موقف واحد من الحداثة والتقليد، ونعني هنا موقف الجمود والرفض والتمسك بالقديم؛ بل إن عملية التحديث أتت داخل تاريخ طويل من الصراع والاستقطاب المجتمعي وغياب التوافق، وهو أمر ظل يُميز التاريخ العربي والإسلامي الحديث منذ تلك الفترة وحتى وقتنا هذا 6.

 

خلال الخمس السنوات التى تلت مذبحة الانكشارية والقوى العسكرية التقليدية، واعتماد الحداثة العسكرية رسميًا من قبل السَلطنة، استولت روسيا على العديد من المناطق والأقاليم العثمانية من الشَمال وأجبرت السُلطان على توقيع "صلح أكرمان" في عام 1826، كما أجبرته في عام 1829 -إثر سلسلة هزائم عسكرية فادحة- على توقيع اتفاقية تفتح بها الدولة العُثمانية أراضيها فى القوقاز ونهر الدانوب للروس 3.

undefined

وفي ذات السياق -ولكن من الغرب- وقعت كارثة "نفارين" باليونان؛ وتم تدمير الأسطول العُثماني بصورة شبه كاملة، وفي الجنوب احتلت فرنسا الجزائر وأعلن داود باشا (والي العراق) العصيان على السُلطان العثماني، وبدأ محمد علي باشا حملته على الشام قبل أن يستولي عليها بالكامل فى العام 1830 3.

 

يعلق المؤرخ كراموز -في دائرة المعارف الإسلامية- على هذه الهزائم العسكرية المتتالية بعد أول مشروع تحديث إسلامي بالقول "إن فعلة السُلطان محمود هذه كانت أقرب إلى التخريب منها إلى التعمير"، ويضيف الدكتور محمد عبد اللطيف البحراوي 6 على أحداث هذه الفترة "بأن القضاء على التقليد العسكري العُثماني وعدم العمل على إصلاحه، جعل القوات العُثمانية الجديدة أشبه بالمبتدئين في ملعب مُخصص للكبار".

 

أول جيش حديث.. أول انقلاب عَسكري
على الرغم من النتائج المخيبة؛ استمر المشروع التحديثي التقني والعسكري فى السَلطنة العُثمانية7، وخلال العقود التالية التي تلت مذبحة الحداثة للقوى التقليدية، تحولت فرق النظام الجديد لجيش حديث متكامل بأكاديمياته ومدارسه العسكرية على النمط الألماني والفرنسي، وبعقيدته القتالية، وآليات ضبطه وسيطرته على أفراده، وطرق التعبئة الخاصة به من تجنيد إجباري وتربية وهوية عسكرية مُنفصلة عن المدنيين 7، وما يرتبط ببنية الجيوش الحديثة بصفة عامة.

 

كانت تلك المؤسسات الحديثة وما اتصل بها من قوى اجتماعية؛ من ضباط وعساكر وموظفين بيروقراطيين ومهندسين عسكريين وأطباء، والذين تلقى أغلبهم تعليما أوروبيا، سواء في البعثات الأجنبية أو على أيدي معلمين وخبراء أوروبيين انتدبتهم السَلطنة من أجل هذه المهمة، هي أول قوى حداثية 2؛ بمعنى أنها فئات تم تعريفها وتشكيل هويتها وتكوينها بواسطة مؤسسات حديثة وآليات غير شخصية، عوضًا عن الآليات التقليدية كالقبيلة والعائلة والروابط العضوية في الهويات التقليدية ما قبل الحداثية 8.

 

يشير الدكتور برهان غليون 2 هنا إلى أن عملية الإصلاح العثماني أو التحديث التقني والتنظيمي الذي قامت به السلطنة "كان من أجل خدمة مشاريع سُلطانية تقليدية بالأساس، وأنه يهدف إلى ترميم التصدعات داخل البنية السياسية التقليدية القائمة، وفي الوقت الذي لم تملك فيه تلك الفئات الإدارية والعسكرية الحديثة مشروعها السياسي الخاص بها بحكم تكوينها التكنوقراطي؛ إلا أنها مارست -وبمرور الوقت- ضغطا متزايدا؛ أخذ يرتفع حدة وجذرية على النظام العثماني بصفه عامة".

فمن رحم المدارس العسكرية الحديثة، مثل المدرسة الحربية التي أُنشئت في إستانبول (سنة 1834م) على نمط المدرسة العسكرية الفرنسية في (سان سير) وكانت تهتم بتدريس اللغة الفرنسية في السنوات الأولى من إنشائها والمدرسة الرشدية التي أنشئت فى تركيا والشام والعراق وتأثرت بالنمط الألماني البروسي7، أنشأ الطلاب العسكريون المنفتحون على أوروبا العديد من الجمعيات والحركات السرية والعلنية، وإن كانت بأهداف مختلفة؛ إلا أنها صبت كلها في هدف رئيس وهو الثورة على البنية التقليدية ونظام الحكم السُلطاني 3

 

كانت أهداف تلك الحركات والجمعيات تتراوح ما بين المناداة بالإصلاح الدستوري، أو العمل على سيادة الدولة العثمانية واستعادة استقلالها وهيبتها ومحاربة النفوذ الغربي وغير ذلك من أهداف -في المجمل- تبدو غايات أخلاقية ونبيلة 3.

 

وفي العام 1908 7 تحرك الجيش الثالث في السالونيك بقيادة ضباط من مجموعة الاتحاد والترقي، ثم تم خلع السُلطان عبد الحميد عام 1909 بتحرك آخر من الجيش جاء بقيادة مجموعات أخرى من الاتحاد والترقي 7، يصف المؤرخون هذا التحرك؛ بان الجيش خرج من ثكناته، وكان عدد جنوده يتضاعف طوال طريقه إلى الأستانه.

 

إلا أن الملاحظة الأساسية هنا ترد في وصف الدكتور آلما وتلن 9: "كان العديد من الجنود الذين زحفوا تحت قيادة ضباط الاتحاد والترقي يظنون أنهم يؤدون رسالة سامية لا مشاركين في انقلاب عسكري، كانوا يعتقدون أنهم زاحفون لحماية كيان الإمبراطورية من الانهيار، وحتى يوم 21 أبريل كانوا يهتفون بحياة السُلطان".

 

يعلق طارق البشري 2 بأن الاستراتيجية لمجموعات الاتحاد والترقي هنا كانت تعتمد بشكل أساسي على خداع الجماهير من أجل الجماهير؛ مضيفا أنه على الرغم من "أن هدف الحركة نبيل في الظاهر كالإصلاح الدستوري ومناهضة الاستبداد السُلطاني؛ إلا أن مجموعة الضباط التى قادت الانقلاب لم تكن تثق في وعي الجماهير وأنها تستطيع أن تقرر بنفسها ما هو الأنسب لها".

ويجمل المفكر السياسي برهان غليون 2 خلاصة هذا الحدث التاريخي، بأن القوى الحداثية التي أنتجتها الإصلاحات العثمانية من أجل الحفاظ على دولتها، كانت هي المعارضة الأكثر جذرية لنمط حكمها التقليدي خلال تاريخها العريض كله.

 

مضيفًا أن انقلاب القوى الحداثية لم يكن على السُلطة السياسية القديمة وحسب "بل كان ثورة على المجتمع التقليدي كله" 2، ومن هنا يُمكن أن نفهم السبب الذي لجأ من أجله ضباط الاتحاد والترقي لخداع الجماهير التي خرجوا من أجلها بالأساس؛ فقد رأى الضباط في أنفسهم أنهم بمثابة طليعة التحديث في المجتمع، وأنه كما عليهم أن يصلحوا الدولة؛ فعليهم -كذلك- أن يقودوا المجتمع بأنفسهم إلى الإصلاح والحداثة.

 

في أعقاب هذا الانقلاب استولت إيطاليا على ليبيا، وانفصل ما بقي من البلقان وتشظى العالم الإسلامي إلى أجناس وعرقيات، ومارس الضباط -تحت دعوى التحديث والإصلاح- العديد من المذابح في الشام وتركيا ضد الأرمن وغيرهم؛ ثم دمرت الدولة العثمانية بالكامل مع نهاية الحرب العالمية الأولى 3.

 

وفي مذكراته -التي كُتبت بعد خمس سنين من خلعه وعشية سقوط السلطنة العُثمانية وقيام النظام العسكري في تركيا- يقول السُلطان عبد الحميد الثاني "إن الخطأ الكبير حقيقة يأتي متدحرجًا من أيام جدي (محمود الثاني) إلى الآن. لقد قضينا على الانكشارية؛ ولكنّنا لم نقض على الأسباب التي أفسدت الانكشارية" 10.

المصدر : الجزيرة