شعار قسم ميدان

"مركزية العناء".. لماذا ارتبط طلب العلم بالمشقة في التاريخ؟

blogs مكاتب الحضارة الاسلامية

"العلم مؤنس فِي الوحدَة، ووطن فِي الغربة، وشرف للوضيع، وقُوَّة للضعيف"

(أبو هلال العسكري)

 

حين نقف على تراجم علماء الحضارة الإسلامية منذ بدء التدوين في علم التراجم في فترة مبكرة من القرن الثاني والثالث الهجريين، وحتى تراجم أعلام القرن الرابع عشر الهجري، نلحظ ظاهرة متواترة لافتة للنظر والتأمل، وهي أننا نرى آلافًا من طلبة العلم الذين قاسوا أشد القسوة، وعانوا أشد المعاناة في نيل العلم، وقد تعددت صور هذه المعاناة ما بين الفقر وهو أشدها على النفس، وبُعد الشّقة والمسافات عن الأوطان والأهل والديار، والغربة التي طالت إلى سنين عددا بل بعضها وصل إلى 13 عامًا في طلب العلم كما حُكي عن بعض علماء الأندلس مثل أبي الوليد الطرطوشي، الذي مكث في المشرق الإسلامي يطلب العلم هذه المدة.

هذه المعاناة كانت دافعًا كبيرًا في طلب العلم، ربما رغبة من الطالب في رفع الشأن والذكر، خاصة أن المراكز العلمية والثقافية والإدارية كانت من نصيب طبقة العلماء وطلبة العلم على السواء، بل إن هذه الطبقة شاركت بصورة أو بأخرى في شئون السياسة، وتدبير المُلك، وتبصير السُلطان بما يجب أن يكون عليه من خلال مؤلفاتهم في علوم الأخلاق السياسية التي وصفت في التراث الإسلامي بـ "مرايا الأمراء" أو "الآداب السلطانية".

لماذا المشقّة؟!

والحق أنه قد تنبه بعض علماء الحضارة الإسلامية إلى هذه المسألة، وقد أثير تساؤل عما إذا كان الوصول إلى قمة العلم أشقّ على الطالب الغني أم على الطالب الفقير، وهي مسألة لها جانبان يتمثّلان في الموقفين المتعارضين للفقيهينِ الأندلسيينِ ابن حزم (ت 456هـ/1064م) وأبي الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م) اللذينِ كانا كفرَسي رهان في المناظرة.

 رأى أندريه جوسان -عالم الاجتماع الفرنسي- أنه من الطبيعي أن ترغب الطبقات المحرومة في التمتع بنفس المزايا التي تتمتع بها الطبقات الممتازة التي تُثير إعجابها
 رأى أندريه جوسان -عالم الاجتماع الفرنسي- أنه من الطبيعي أن ترغب الطبقات المحرومة في التمتع بنفس المزايا التي تتمتع بها الطبقات الممتازة التي تُثير إعجابها
 

لقد أراد الباجي أن يُبرر هزائمه المتكرر -كما يصف جورج مقدسي- على يد ابن حزم، فاحتج بفقره أيام الدراسة قائلاً: "اعذرني فقد كنتُ أدرس معظم الوقت في ضوء سرج العَسس في الليل". فرد عليه ابن حزم قائلاً: "ولسوف تعذرني أنت أيضًا؛ لأن معظم دراستي كانت على منابر الذهب والفضة". ويقصد بذلك أن الترف عائق أكبر للتعلم[1].

لقد ألمح بعض علماء الاجتماع حين حللوا ظاهرة تطلع الطبقات الدنيا إلى الصعود في السُّلم الاجتماعي ومنهم طلبة العلم الفقراء، أمثال أندريه جوسان عالم الاجتماع الفرنسي، الذي رأى أنه من الطبيعي أن ترغب الطبقات المحرومة في التمتع بنفس المزايا التي تتمتع بها الطبقات الممتازة التي تُثير إعجابها أو حسدها، ولذلك نراها قد حاولت في جميع العصور أن ترقى بنفسها في مدارج الحياة الاجتماعية مستعينة على ذلك بالوسائل التي تكون في متناول يدها وقد تتخذ هذه المحاولات صفة الجهود الفردية للوصول إلى الحرية أو الثروة أو ألقاب الشرف أو النفوذ أو تتخذ صفة الجهود الجمعية، وحينئذ تتحول إلى كفاح مكشوف[2]أن.

وقد ضرب جوسان عدة أمثلة من التاريخ السياسي والاجتماعي الفرنسي إبّان الثورة الفرنسية التي تمكنت من خلالها الطبقات الدنيا في المجتمع الفرنسي من الالتحاق بالجيش الذي كان قد حقق للكثيرين منهم ما كانت تحققه ألقاب النبالة في العصر الملكي. على أن هذا التحليل وحده يظل قاصرًا في السياق الإسلامي؛ إذ البُعد العقدي والأخلاقي، والاتكاء على الأصول التي حثّت طلبة العلم على نيله والسعي في تحصيله كثيرة متواترة، بل إن حديث النبي الذي رُوى في عدد من مصادر السنن والذي يقول: "من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار"[3]. يُعد ضابطًا أخلاقيا لغاية العلم في التصور الإسلامي.

undefined

لقد بلغ التنافس بين طلبة العلم مبلغًا لاحظه عدد كبير من دارسي الثقافة والحضارة الإسلامية من المؤرخين والمستشرقين الغربيين، ويرى "ول ديورانت" أنه لم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد آخر من بلاد العالم -اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منغ هوانغ- ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر. ففي هذه القرون الأربعة بلغ الإسلام ذروة حياته الثقافية.

ولم يكن العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلامية من قرطبة إلى سمرقند يقلون عن عدد ما فيها من الأعمدة، وكانت إيواناتها تردد أصداء علمهم وفصاحتهم، وكانت طرقات الدولة لا تخلو من الجغرافيين، والمؤرخين، وعلماء الدين، يسعون كلهم إلى طلب العلم والحكمة؛ وكان بلاط مئات الأمراء يرددون أصداء قصائد الشعراء والمناقشات الفلسفية، ولم يكن أحد يجرؤ على جمع المال دون أن يعين بماله الآداب والفنون[4].

ورغم أن الأوضاع القاسية التي كان يعاني منها طلبة العلم في القرون الأولى من الإسلام قد تغيرت بصورة لافتة حين أُنشئت المدارس التعليمية الموقوفة التي كان المحسنون بداية من الخلفاء والأمراء والسراة والتجار وحتى أدنى الناس ممن ساهموا في هذه المدارس، وأنفقوا عليها وعلى طلبة العلم فيها، بحيث صار للمعلمين والمتعلمين أموالهم ورواتبهم الثابتة،  إلا أن هذه الرواتب جعلت بعض العلماء يتأسف لهذه الظاهرة؛ لأنهم رأوا أن روح العلم وغايته لا تأتي إلا بعد المشقة والكد، وأن المدارس الموقوفة كانت عاملاً من عوامل دفع الكسب أكثر من التعطش للمعرف[5]!

النصوص تحرك النفوس!
الجاحظ لم يكن يقع في يده كتابا قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للنظر (مواقع التواصل)
الجاحظ لم يكن يقع في يده كتابا قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للنظر (مواقع التواصل)

بيد أن "المشقة"، ومن خلال النصوص التي بين أيدينا  صارت لذة في ذاتها، وفلسفة خاصة، فهي الطريق الآكد على نيل المراد من العلم وهو ثمرته، وصارت كلمات بعض أكابر الأدباء في الحضارة نبراسًا وحكمة يسير بها الركبان، ويُصدّر بها العلماء مؤلفاتهم وأحاديثهم، فهذا الجاحظ الذي أخذ بلبّ الجميع يقول: "العلم عزيز الجانب لا يُعطيك بعضه حتى تُعطيه كلّك". وعلى إثره يُصدّر أبو هلال العسكري (ت 395هـ/1005م) في مقدمة كتابه المهم "الحثّ على طلب العلم والاجتهاد في جمعه" الرأي ذاته فيقول: "مَثَل العلو في المكارم مَثَل الصُّعود في الثنايا والقلل، ولا يكُونُ إلا بشقّ النفْس. ودرجة العلم أشرفُ الدَّرَج، فمن أراد مداولَتها بالدَّعة وطلَب البلوغ إليها بالرَّاحة كان مخدوعا"[6].

وضرب عدد من هؤلاء الأمثلة العملية لطلبة العلم، وكانوا من أكبر عشّاق الكتب المولعين بها ولعًا شديدًا في القرن الثالث الهجري مثل الجاحظ، والفتح بن خاقان وإسماعيل بن إسحاق القاضي، فالجاحظ لم يكن يقع في يده كتابا قط إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورّاقين ويبيت فيها للنظر؛ بل إنه مات في حب الكتب، حين وقعت عليه وقتما كان منهمكا في القراءة فمات من فوره، وهي الحادثة الشهيرة التي صارت مثلا على عشق الكتب، والتماهي في طلب العلم والقراء[7].

أما قصصهم في استغلال أوقاتهم فتعد نوادر غريبة، لم نكن لنصدقها لولا تواترها، وصدق ثبوتها، فالمفسر والمؤرخ الكبير ابن جرير الطبري المتوفى في بداية القرن الرابع الهجري، والذي عاش شطر عمره وعطائه في القرن الثالث الهجري، لم يُؤثر عنه أنه أضاع دقيقة من حياته في غير الإفادة والاستفادة، حتى إنه كان يدوّن العلم والحديث حتى قبل ساعة واحدة من وفاته. أما العالم الحاكم الشهيد أبو الفضل محمد بن محمد المروزي البلخي المتوفى سنة 334هـ فقد أُثر عنه أنه "كان يقعد والسفَط والكتب والمحبرة بين يديه، وهو وزير السلطان، فيأذن لمن لا يجد بُدّا من الإذن له، ثم يشتغلُ بالتصنيف، فيقومُ الداخل"[8] إليه بسبب انشغاله!
 

وحرصًا على أهمية العلم، والمشقة فيه، والسعي إليه، شرع العلماء من كافة التخصصات العلمية في الفقه والحديث وغيره في تدوين مصنفات مخصصة لهذا الجانب المنهجي، بينوا فيه لطلبة العلم، أهمية العلوم والمعارف، والصبر عليها، وأجرها في الدنيا والآخرة، وآداب هذا الطلب، والمثالب والنقائص التي تنال من طالب العلوم، ولعل أبرز من كتب في هذا الجانب الإمام الأندلسي الحافظ ابن عبد البر القرطبي (ت 463هـ/1071م) في كتابه "جامع بيان العلم وفضله"، ومعاصره في المشرق الحافظ الخطيب البغدادي المتوفى في نفس عام وفاة ابن عبد البر (ت 463هـ/1071م) الذي له "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"، و"تقييد العلم"، و"الرحلة في طلب الحديث".  فهذه المصنفات من أكبر عالمين في الحديث والتاريخ والآداب في المغرب والمشرق تبين لنا أن النصوص كانت محركة للنفوس في الحض على العلم والصبر عليه، والأخذ به، وقد كانت بحق "ظاهرة" يُرغّب الكبار في بثّها ثقافة وخُلقًا.

 
وينقل ابن عبد البر في كتابه ذاك الأحاديث والآثار والأخبار عن النبي والصحابة والسلف، ويضع فصلا بعنوان "باب الحض على استدامة الطلب والصبر فيه على اللأواء والنصَب" جاء فيه: "لا يطلب هذا العلم أحد بالمال وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبَه بذلّة النفس، وضيق العيش، وحُرمة العلم أفلح"9]. وهي دعوة طالما عزّزها ابن عبد البر وغيره من أعلام هذه الحقبة، ورأوا أن فلسفة العلم وروحه لا تكون إلا في مشقته!

المصدر : الجزيرة