جمال قطب.. الرسام الذي أبدع أغلفة روايات نجيب محفوظ
منذ زمن الكتب المخطوطة التي كانت كل جملة فيها تكتب بخط اليد، وكل نسخة منها تخرج بمجهود بشري بارز، كان هناك اهتمام خاص بأغلفة الكتب، وفي تراثنا العربي كان الخط الكوفي يشغل أغلفة هذه المخطوطات، إذ لم تقتصر الكتابة به على التدوين، إنما دخل في عملية التزيين التي اتخذت أشكالا هندسية ومضلعات، وفي القرن التاسع عشر عندما عرف عالمنا العربي الكتاب المطبوع كان هناك اهتمام أيضا بأغلفة الكتب، وكان الخط العربي يستخدم على الأغلفة المؤطرة بمستقيمات زخرفية نباتية أو هندسية كرمزية جمالية، وكان القارئ يستبين موضوع الكتاب من عنوانه الموجود على الغلاف بأحد الخطوط العربية المعروفة.(1)
مع دخول المطابع الملونة بدأ الاهتمام بالأغلفة يتسرب من أيدي الخطاطين إلى أيدي التشكيليين، فاللوحات الغنية بالعناصر التشكيلية تجذب القارئ بصريا أكثر من الخطوط رغم جمالها الهادئ. وقد سيطر الفن التشكيلي على أغلفة الكتب بعد ذلك لعقود طويلة، لكن مع تقدم التكنولوجيا حدث تطور مهم "تدخل بشكل سافر في خصوصية التشكيل ناقلا العملية الإبداعية إلى صناعة"، وتحول "فن تصميم الغلاف" إلى "صناعة الغلاف أو صناعة الإعلان"، وحلت برامج التصميم محل روح الفنان ورؤيته الخاصة والفريدة، وأخذت لوحة المفاتيح دور ريشة الفنان وجهده، لكن قبل أن تسيطر على الأغلفة اللغة التجارية الجافة، كانت روايات "نجيب محفوظ" قد بدأت تأخذ مكانها في كل بيت، ودخلت معها على أغلفتها لوحات الفنان "جمال قطب".(2)
"أعمالي في كل بيت فأنا أرسم للناس البسطاء ولذلك يجب أن يكون أسلوبي مفهوما لديهم"
(جمال قطب)
بدأ جمال قطب في إعادة رسم كتب محفوظ الأولى التي خرجت قبل تعاونهما، منها الثلاثية ورواياته عن مصر الفرعونية، وكان جمال قطب مع كل رواية يذهب للأماكن المرتبطة بها ليراها بنفسه على الطبيعة، فذهب إلى "بين القصرين" و"الحسين" و"الأحياء الشعبية" التي استوحى منها نجيب محفوظ رواياته. يقول: كنت أسأل عن كل ما ذكره نجيب محفوظ في الروايات. لدرجة أنه سأل عن "الفتوات" فقيل له لم يعد هناك فتوات، لقد تحولوا إلى تاريخ. لكنه في جولاته تلك شاهد المشربيات والمباني ذات الطابع العربي والتجار والبائعين، وكان مقتنعا بأن رؤية المكان الحقيقي له تأثير كبير في رؤيته للوحة الغلاف، يقول: "يا حبذا لو بترسم بورتريه تقعد مع صاحب البورتريه، لأن بتبقى حاجات بسيطة جدا يمكن لمسة صغيرة بتغير الشخصية".(4)
يرى قطب أن رسام البورتريه يرسم الصفة قبل الوصف، لذلك كان يقول إن روايات محفوظ ساعدته كثيرا في رسم الشخصيات، لأن محفوظا كان يشرح صفات شخصياته بدقة شديدة، يقول قطب: "نجيب محفوظ لم يترك شيئا في شخصياته إلا وفصله تفصيلا (الخلقة والخلق والطباع)"، وهو يعتقد أن لوحة الغلاف ليست فنا مستقلا عن الكتاب أو الرواية التي تعبر عنها، فكان يلزم نفسه تماما برؤية الكاتب للشخصيات والأحداث، يقول: "الرسام اللي بيقوم برسم الروايات والقصص خطر جدا ينحاز لشخصيته ويبقى أناني ويبقى ليه أسلوبه ومنهجه الخاص بعيدا النص الدرامي".(5)
"كنت أستلهم من النص بنسبة 100% (يقال عني رسام عالم نجيب محفوظ)، كان نجيب محفوظ عالما وأنا دخلت فيه وأعجبت به"
(جمال قطب)
وبحسب قطب، فنجيب محفوظ لم يتدخل في عمله مطلقا، يقول: "كان نجيب محفوظ يناقشني كثيرا جدا جدا، لكنه لم يعترض أبدا، بل كان مشجعا معجبا، لم يكن يتدخل عموما في عملي أو عمل المخرج الذي يحول روايته إلى أفلام، وكان يقول "هذا عالمه"، لا أريد التدخل فيما يراه. وكان يعتقد أن الرسم إضافة للنص بالإيجاب وليس بالسلب، ولا ينقص من النص شيئا… كنت أتمنى أن يعترض مرة لكي يمنحني فرصة لأشرح وجهة نظري لكنه لم يعترض أبدا". وكان نجيب محفوظ قبل جمال قطب يفضل أن تكتب أسماء رواياته على غلاف أبيض، لكنه عندما عرف قطب وجد أنه "اكتشاف" بحسب كلمات قطب.(6)
يعترف جمال قطب أن أعماله تأثرت بفنانين عالميين منهم الأميركي "نورمان روكويل" والإيطالي "والتر مولينو" وهما رساما مجلات، يقول "ذهبت إلى أميركا والتقيت روكويل، تعلمت منه تكنيك البورتريه، فهو يرسم الرؤساء المشغولين الذين ليس لديهم وقت، إنه أستاذ في الخلطة الفنية، كان أمينا بالعصر يرسم "اسكتشات" كثيرة ويختار أحسن زاوية، كانت مجلة "بوست" تحتكر أعماله، وفي نهاية العام يصدر ألبوما برسومه طوال السنة، وقد جاء إلى مصر عام 1963 وقام برسم الرئيس عبد الناصر على غلاف مجلة بوست، بعدها سافرت إلى إيطاليا، في ميلانو قابلت والتر مولينو. أهم شيء تعلمته منه أنه لا شيء ساكن في لوحاته، كان مهتما بالحركة التي تصل إلى درجة المأساة والتعبيرات التي لا تعرف السكون، كان مولينو مصوّر الأحداث الساخنة، وكان له تلاميذ كثيرون وأعماله ذائعة الصيت في أوروبا كلها. أخذت من روكويل ومولينو لأكون أسلوبي الخاص".(8)
يرسمها، لتخطف عين المشاهد من كل ما هو دونها، وبدقة فائقة وحجم أكبر من جميع الشخصيات تتوسط المرأة الفاتنة المشهد، يقول قطب: "أما من وجهة نظر المرأة ذاتها فإنها لا تعتز بشيء في حياتها قدر ما تعتز بأنوثتها، وما وهبها الله من جمال وجاذبية، وتعتبرها أثمن كنوزها على الإطلاق، ولذلك نرى أن هذه الودائع الثمينة هي وسيلتها في التأثير وجذب الانتباه، بل وفي التفوق والسيطرة بلا حدود حسب الظروف والأهداف والغايات التي تنشدها في حياتها، وعلى قدر مواهبها في الذكاء والدهاء لاستثمار هذه المقومات الأنثوية"(10).
ربما لهذا السبب كانت المرأة "المؤثرة" التي رسمها جمال قطب تتمتع بجمال فاتن، فكل نسائه جميلات، لهن عيون واسعة يزينها الكحل الأسود، وفم صغير بشفاه ممتلئة وبارزة وشعر ناعم ووجه مستدير. ورغم أن قطب يرسم المرأة المصرية المعروفة "بالعيون السوداء" و"الشعر المموج الأسود"، إلا إن الكثير من الأغلفة التي رسمها تظهر المرأة فيها بشعر أشقر منسدل بنعومة وعيون زرقاء أو عسلية وأنف صغيرة أوروبية، نرى هذا بوضوح على كثير من الأغلفة منها؛ السراب وليالي ألف ليلة والقرار الأخير ودنيا الله وغيرها.
بعد "بنت البلد" تأتي شخصية "الفتوة" ضمن الشخصيات التي تأثر بها جمال قطب كثيرا ورسمها أيضا عشرات المرات، فكانت تظهر كعنصر على الغلاف أو في الرسوم الداخلية، ولأن قطبا في الكثير من الأحيان لم يكن يشعر بالإشباع من صورة واحدة على الغلاف، فكان يرسم نحو عشرة رسومات أخرى داخلية لمشاهد من الرواية غير تلك التي عبر عنها على الغلاف، لكن في الكثير من الأحيان لم تكن تلك الصور تصحب الطبعات التي تخرج للجمهور لأنها كانت تتطلب من دار النشر المزيد من التكاليف، مما يعني رفع سعر الكتاب وهو ما لم يكن مرحبا به من قبل دار النشر.(11)
ربما كان أسلوب "الرسم الشعبي" الذي اعتمده جمال قطب قد ساهم كثيرا في انتشار روايات نجيب محفوظ بين قطاعات مختلفة من القراء، فالغلاف الذي ينبض بالحركة والألوان والحيوية يلفت الانتباه سريعا، "فلا يكاد ينظر القارئ إلى الغلاف حتى يعرف أن هذا الكتاب من أعمال محفوظ، ذلك من دون أن يقرأ اسم الرواية"، وقد شكلت أغلفة جمال قطب خيال وأحلام جيل كامل اعتبر روايات محفوظ من أجمل ما قرأ، فالكثير من القراء يقولون إنهم أثناء قراءة الرواية يغلقونها قليلا ليتأملوا الغلاف في ضوء ما قرأوه.(12)
شكّل "جمال قطب" (1930-2016) الرؤية البصرية لروايات الكثير من الكتاب منهم توفيق الحكيم، وعبد الحليم محمود، وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، وعبد الحميد جودة السحار، وعبد الحليم عبد الله، والكثير غيرهم، لكن اسمه ظل مرتبطا بنجيب محفوظ بشكل خاص. عمل جمال قطب في البداية رساما بدار الهلال وهو لم يزل طالبا بكلية الفنون الجميلة، إلى أن أصبح المدير الفني لها، وعمل خبيرا للفنون بدولة قطر منذ عام 1979 حتى عام 1986، وأسس المرسم الحر بالدوحة حيث تخرج على يديه الكثير من الفنانين القطريين، في هذه الفترة امتدت نشاطاته الفنية والثقافية إلى المجالات العالمية، وكان لجمال قطب اهتمام كبير بالكتابة الصحفية فكتب الكثير من المقالات للمجلات؛ منها مجلة الدوحة تحت عنوان "روائع الفن العالمي"، وله مجموعة من المؤلفات التي تعرض بأسلوب بسيط تاريخ أشهر اللوحات العالمية.
تقدم أغلفة دار الشروق قراءة جديدة نسبيا لروايات نجيب محفوظ، فلم يعد الغلاف يفسر الرواية بصريا، فمفردات حلمي التوني أكثر تكثيفا وغموضا من عالم جمال قطب، لكن الكثير من القراء يرون أن أغلفة دار الشروق "فشلت" بالمقارنة مع الأغلفة القديمة الفاتنة من وجهة نظرهم، فيراها الكثيرون "جامدة وبلا روح" بالمقارنة مع أغلفة جمال قطب، لكن البعض أيضا يرى أن الأغلفة الجديدة أضفت على الروايات طابعا أنيقا وأكثر رمزية يحاول التوني من خلاله أن يقترب من قيمة اللوحة موضحا أن هذه القيمة متمثلة في الإيماءة والإشارة في ما يشبه الشعر. وتظهر المرأة أيضا كثيرا على أغلفة دار الشروق، فعالم نجيب محفوظ تحركه المرأة، لكن نساء حلمي التوني يتمتعن بملامح مصرية خالصة؛ بشرة سمراء وشعر أسود وعيون كاحلة السواد.(14)
الثلاثية في طبعة دار الشروق بريشة حلمي التوني
ربما يظهر الفرق بين عالمي جمال قطب وحلمي التوني من خلال غلاف رواية "الشحاذ"؛ يجسد فيه جمال قطب صورة عمر الحمزاوي مطأطأ الرأس، وأصابعه تنغرس بشدة ممسكة برأسه وهو في حالة ألم عارم، وحوله بعض الفتيات، تخطف إحداهن بجمالها عين المشاهد قبل أن يرى صورة عمر الحمزاوي الذي تدور أحداث الرواية حوله، ولا توجد أي مساحة فارغة في الغلاف، كل نقطة صغيرة بها حركة أو لون. بينما غلاف حلمي التوني لا يذكر أي شيء من هذا، فقط طبق فاكهة وطفل ينظر إليه من بعيد، ونافذة صغيرة تحتل ربع مساحة الغلاف فقط ينظر الطفل منها على طبق الفاكهة الذي يبدو صعب المنال، وهدهد يطير إلى جوار النافذة.
على اليمين حلمي التوني وعلى اليسار جمال قطب
يبدو أن عالم محفوظ الروائي كان مصدر إلهام للكثير من الفنانين الآخرين الذين لم يرسموا أغلفة رواياته لكنهم تأثروا بعالم محفوظ ورسموا العديد من الأعمال المستوحاة من أماكنه وشخصياته. يقول عادل ثابت: "أسهب نجيب محفوظ بالفعل في تناول سحر الأحياء الشعبية مما يهز الخيال ويحرك الإلهام.. فالتقاليد والعادات والبيوت القديمة والمآذن التي تملأ سماء القاهرة موحية بالجو الديني الذي يضفي الإحساس بالطمأنينة، كل هذه الصور التي أطلت علينا من خلال زقاق المدق وبين القصرين وخان الخليلي وغيرها إنها لصور موحية حقا".(15)