شعار قسم ميدان

لوحة "الكابوس".. عُنف جنسي وتفاصيل مرعبة

ميدان - فن
امرأة نائمة، روحها تخبُّ في جدران جسدها، رُبما كانت تحلم بالنجاة، ما مِن ليل يمُرّ إلا ويربض الثقل على صدرها، أكابوس تراه، أم موت تلقاه؟ رُعب وسحابة ذُعر وليل مُغبر وغُرفة موحشة العتمة كالسرداب، هذا هو "الكابُوس" 1781، لوحة للرسّام السويسري/الإنجليزي هنري فوسيلي (1741- 1825).
 

امرأة نائمة تحلم بشيطان رابض على صدرها ورأس حصان قبيح مخيف في الغرفة. اللوحة مِن أكثر اللوحات رعبا في تاريخ الرسم، حيثُ تُصوّر ظاهرة شللّ النوم أو "الجاثوم"، فيشعر الإنسان حينها بحضورِ شيطان جاثم على صدره، ليفقد حينها القُدرة على الحركة أو الكلام. علميا، يعتقد الشَخص الذي يُصاب بشلل النوم بأنه يحلم لأن الشعور مُشابه لشعور الحلم، إذ لا يقدر على الحركة ويبقى جامدا في مكانه.

 

قوة فوسيلي كرسّام تكمن في خياله الجامح وقدرته غير العادية على تقديم عرض بصري لامرأة نائمة ومحتوى الكابوس الذي تعانيه في مشهد يُعدّ واحدا من أكثر المشاهد رعبا في تاريخ الرسم. فوسيلي الذي ولد في سويسرا -وهو ابن العازف يوهان كاسبار فوسيلي (1706 – 1782)- انتقل إلى لندن عام 1764 في سن الثالثة والعشرين لدراسة الرسم في الأكاديمية الملكية للفنون، لكنه انتقل بعد ذلك إلى إيطاليا عام 1770 لدراسة موسعة لأعمال واحد من عباقرة عصر النهضة وهو مايكل آنجلو.

  

لوحة الكابوس للرسام  هنري فوسيلي (مواقع التواصل)
لوحة الكابوس للرسام  هنري فوسيلي (مواقع التواصل)

 

بعد عودته من إيطاليا رسم فوسيلي "الكابوس"، وظهرت للجمهور أول مرة عام 1782، ولاقت اللوحة إعجابا وحفاوة شديدة في المعرض السنوي للأكاديمية الملكية للفنون، وبسبب ذلك النجاح أصدر فوسيلي ثلاثة نُسخ أخرى من "الكابوس"، وتنتمي اللوحة إلى المدرسة الرومانسية، وهو مذهب اتبعه فوسيلي بشكل عام.

 

عصر التنوير Vs عالم الخيال
نشأت الرومانسية في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر كرد فعل ضد الثورة الصناعية، وعقلنة الطبيعة، والأرستقراطية الاجتماعية التي قسمت المجتمع طبقات. وتبنت الحركة موقفا أكد على أنّ الروح والخيال هم المصدر الأصيل والرئيس للحس الجمالي والتجربة الإبداعية، فمجّدت الماضي والطبيعة والمشاعر الفردية الخيالية.
 

وكونه رسّاما فضَّل فوسيلي الرومانسيّة كمنهج فني له لأنه كان يميل إلى رسم الظواهر غير الطبيعيّة على شاكلة "الجاثوم"، فالمبالغة العاطفية والمشاهد الدرامية ضرورة لإثقال اللوحة بقدرها اللازم من المعاني، وهو في ذلك يبدو متأثرا بمايكل آنجلو الذي سافر إلى إيطاليا خصوصا لدراسة أعماله. بالإضافة للمشاهد المرعبة مال فوسيلي أيضا إلى رسم الأعمال الأدبية مثل مسرحية "ماكبث" للأديب الإنجليزي ويليام شكسبير، والقصص التوراتية مثل خلق حواء وآدم.

 

فلسفة كارل يونغ والكابوس
ساعدت أفكار عالِم النفس السويسري كارل يونغ في فهم أكبر وأشمل للوحة "الكابوس"، حيث إن أفكاره حول علم النفس التحليلي ركزت على اللاوعي المُمتلئ بالخيالات والأساطير، والذي لا يجب أن يُهمل كعامل في تفسير الأحلام حتى في عصر مُغرق في عقلانيته، فالعلوم الطبيعيّة لا يُمكن الاعتماد عليها كوسيلة وحيدة لفهم النفس البشرية.
 

ويقول يونج في ذلك: "الحلم باب خفي في تجاويف النفس، أعمقها غورا وأخفاها سرا، مفتوح على ذلك الليل الكوني من النفس قبل أن يكون ثمة أنية واعية بزمن بعيد، النفس التي سوف تبقى نفسا مهما امتد الزمان بأنيتنا الواعية… الواعية مفرقة، لكننا في الأحلام نشبه ذلك الإنسان الكلي الخالد القابع في ظلمة ليل البدء، هو الكل ما زال ثمة، والكل فيه، غير متمايز من الطبيعة، عاريًا من كل أنية. من هذه الأعماق الجامعة الكل، ينشأ الحلم لا شيء أكثر منه طفولية، ولاشيء أكثر غرابة، ولاشيء أقل منه خلقا".

 

والكابوس كلوحة كانت تتناول حالة نفسية أكثر منها مُجرد حدث لامرأة، يجلس الشبح الجاثم على صدر المرأة جلسة مُستقرة، وينظر إلى الرائي نظرة هادئة. تدفعنا نظرته إلى التساؤل عما هو على وشك الحدوث! هل سيؤذيها الشبح؟ هل سيظل جالسا حتى تختنق؟ المرأة التي تدلت مِنها ذراعيها تماما تبدو بلا حول ولا قوة لدرجة يتمنى معها الرائي لو يتدخل ليزيح عنها "الجاثوم". ومع ذلك، فإن اللوحة أبعد مِن مُجرد مشهد لامرأة ضعيفة تحت وطأة شبح، وهو ما جعل اللوحة مثيرة للجدل منذ طرحها. هل الشبح الرابض على صدرها؟ فالشبح الموجود في اللوحة هو: إنكيوبس (Incubus) أو (Mare)، وهو في الميثولوجيا شيطان مُذكر يربض ليلا على صدر النساء ليمارس معهم الجنس. بالتالي، فإن مشهد المرأة التي تظهر في اللوحة دون حول ولا قوة يفترض أنها تتعرض للاغتصاب وليس مجرد امرأة تُعاني كابوسا.

   

undefined

   

وحسب الميثولوجيا الأوروبية، فإن إنكيوبس الشيطان المُذكر يأتي إلى الناس راكبًا فرسًا ذا وجهٍ مُخيف، بالتالي فإن رأس الحصان الذي يظهر في خلفية اللوحة ويطلُّ على مشهد الاغتصاب يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الرابض على صدر المرأة هو إنكيوبس وليس أي روح شريرة أخرى.

  

undefined

 

رأيٌ آخر يرى أنَّ المرأة في اللوحة هي آنا لاندهولت، امرأة أوروبية قابلها فوسيلي في زيورخ أثناء رحلاته بين لندن وروما، وهي ابنة أخ العالم والفيلسوف السويسري يوهان كاسبر لافاتر. أحبّها فوسيلي حُبّا جما، وكان يكتب صراحة في مذكراته عن علاقته الجنسية معها.

 

لكن فوسيلي رُفض طلبه بالزواج منها، وتزوجت هي بعد ذلك بشهور، ويُعتقد أن المرأة النائمة في اللوحة هي لاندهولت، وأن الشيطان الذي يغتصبها هو فوسيلي نفسه كنوع من رد الاعتبار أو التعويض عن حُب ضائع. ويقوم هذا التفسير على أسس منطقية، وهي أن ظهر اللوحة مرسوم عليه بورتريه شخصي للاندهولت، وهذا بالتحديد ما جعل "كابوس" فوسيلي مطروحا بشكل دائم على موائد عالم النفس التحليلي طوال القرن العشرين بسبب محتواها شديد الرعب المُغرق في الأساطير والتي يمكن تناولها كمدخل لفهم النفس البشرية على حد تعبير يونج.

المصدر : الجزيرة