شعار قسم ميدان

هوس "لا كاسا دي بابل".. لماذا نشاهد جميع حلقات المسلسل في يوم واحد؟

أطلقت شبكة "نتفليكس" العالمية (Netflix) في الثالث من سبتمبر/أيلول الجاري الموسم الخامس المُنتظَر بشدة من مسلسلها الإسباني الشهير "لا كاسا دي بابل" (La casa de papel)، أو "البروفيسور" كما روَّجت له الشبكة في منطقة الشرق الأوسط، ومنذ الساعات الأولى لإطلاقه بدأت سلسلة من التعليقات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تراوحت بين المديح والانتقاد، إذ جاء الجزء الأول من الموسم مُخيِّبا لآمال البعض. ولكن متى وكيف تمكَّن هؤلاء المشاهدون من مشاهدة خمس حلقات متتالية من العرض نفسه دون ملل في وقت قياسي؟

money heist part 5

الغزو الناعم

قد لا يبدو هذا السلوك غريبا، بل إن هناك احتمالا لا بأس به أنك تمارسه بنفسك ربما أسبوعيا أو حتى يوميا، وفقا لطبيعة شخصيتك ووقت فراغك.

من الصعب تتبُّع بداية هذه الظاهرة الفريدة من نوعها، فثقافة "المشاهدة بالموعد" (Appointment viewing)، التي تعني الالتزام بموعد البرنامج كما تُذيعه القناة وعدم قدرتك على التحكُّم به، ظلَّت مسيطرة على أنماط مشاهدة برامج التلفاز منذ اختراعه وحتى ظهور شرائط الفيديو وأقراص الـ "DVD"، التي منحت المشاهدين خيارا أكثر مرونة يُمكِّنهم من مشاهدة أفلامهم المفضلة في وقت لاحق أكثر مناسبة لهم من وقت عرضها على شاشة التلفزيون.

ربما لم تتوقَّع "نتفليكس" أن تكون أحد الأسباب الرئيسية لتغيير خارطة إنتاج ومشاهدة البرامج والمسلسلات حول العالم، ربما للأبد. فرغم أن وجودها كان يقتصر على 40 دولة فقط عام 2013، فإنها حقَّقت قفزات سريعة في الانتشار، فبحلول يناير/كانون الثاني من عام 2016، وصلت "نتفليكس" إلى شاشات 130 دولة حول العالم من ضمنها بعض الدول العربية مثل مصر (1)، أما عن الوقت الحالي، فإنها تحتل بالفعل شاشات 97% من دول العالم المستقلة، وتأتي في المركز الأول عالميا قبل "أمازون برايم" (Amazon prime) و"هولو" (Hulu) و"ديزني" (Disney) وغيرها من شركات بث الفيديو المنافسة.

نجحت "نتفليكس" خصوصا في التغلغل في مجتمعات ذات ثقافات شديدة التباين، ليس فقط بفضل إنتاجها لمحتوى متنوع بالعديد من اللغات، ولكن لأنها تحرص أيضا على الاستعانة بمخرجين وفِرَق تمثيل من داخل البلد، حتى يخرُج المحتوى للنور مُتشرِّبا بثقافة ورؤية أبناء البلد ذاتهم. نرى هذا بوضوح في مسلسل "ما وراء الطبيعة"، أول مسلسل مصري من إنتاج "نتفليكس". قد يكون من الممتع مشاهدة عدة حلقات من مسلسل بلغة مختلفة عن لغتك الأم، ولكن الأكثر متعة حتما هو مشاهدة موسم كامل من مسلسل جيد بلغتك الأصلية وأنت جالس في دفء بيتك.

ما وراء الطبيعة نتفلكس

المشاهدة الشرهة

رغم وجود عدة تعريفات لاصطلاح (Binge watching) الذي يعني "المشاهدة الشرهة"، فإن هناك تعريفا تستخدمه معظم الدراسات المهتمة بهذا النطاق، وهو "مشاهدة عدة حلقات من مسلسل تلفزيوني في جلسة واحدة"، وهناك التعريف الذي وضعته "نتفليكس"، التي من الممكن اعتبارها العامل الأكثر أهمية في هذا السلوك من الأساس. ربما تختلف التعريفات، لكنها جميعا تدور حول المدة الزمنية التي يستغرقها هذا السلوك ومدى تكراره بالنسبة للفرد. (2)

لم يمضِ على دراسة سلوك المشاهدة الشرهة عقد من الزمن بعد، مما يخبرك أنه نطاق حديث للغاية، إذ بدأت دراسته منذ عام 2013، وهو العام نفسه الذي أنتجت فيه "نتفليكس" أول مسلسلاتها "هاوس أوف كاردز" (House of cards) الذي قوبل بالكثير من الاستحسان وحقَّق نجاحا ساحقا. توصَّل تقرير مؤسسة "هاريس إنتراكتيف" (Harris Interactive) الذي أجرته بالنيابة عن "نتفليكس" في ديسبمر/كانون الأول 2013، على 1500 مواطن أميركي يافع يشاهدون البرامج التلفزيونية مرة على الأقل أسبوعيا، إلى أن سلوك المشاهدة الشرهة شائع للغاية في هذه الفئة، حيث إن 61% يمارسونها بانتظام، بل ينتابهم شعور جيد حيال الأمر دون الإحساس بالذنب، كما أن المشاركين الأصغر سِنًّا، بالتحديد مَن تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 29 عاما، كانوا الأكثر قابلية لممارسة المشاهدة الشرهة مقارنة بالفئات العمرية الأكبر.

اللغز وراء العيون

من أجل فهم الدوافع المتشابكة وراء إدمان البعض -وخاصة الشباب- للمشاهدة الشرهة، أجرت الباحثتان يولانتا ستاروسا (Jolanta Starosta) من جامعة ياغيلونيا، وبيرناديتا إزيدورتشيك (Bernadetta Izydorczyk) من جامعة سيليزيا للتكنولوجيا ببولندا، مراجعة منهجية لـ28 دراسة منشورة بين عامَيْ 2013-2019، من بينها ورقتان بحثيتان من تونس والإمارات العربية المتحدة، لفهم سلوك المشاهدة الشرهة ودوافعه وربما مخاطره. توصَّلت الباحثتان إلى محورين رئيسيين لفهم هذه الظاهرة، أولهما مرتبط بكون هذا نشاطا ممتعا تتخلَّله مشاعر إيجابية وقد يكون وسيلة لقضاء أوقات الفراغ، فيما يُركِّز المحور الآخر على سلبيات فرط المشاهدة الشرهة وأعراض السلوك الإدماني. (3)

مشاهدة التلفاز

تحمل نتائج مراجعة هذه الدراسات بعض الأخبار السيئة، فيبدو أن هناك سمات نفسية مشتركة بين المشاهدين الشرهين وبين مدمني الإنترنت وألعاب الفيديو، ونتحدَّث هنا عن الحالات المتطرِّفة، إذ يشتركون في كونهم أشخاصا يميلون للعصابية ويمتلكون قدرا أقل من القدرة على التواصل، كما أن الاستعانة بالمشاهدة الشرهة بوصفها وسيلة للتأقلم أو الهروب من المشكلات الحياتية اليومية هو أيضا سلوك شائع من السلوكيات الإدمانية.

إن كنت تشعر بحاجة مُلِحَّة إلى المشاهدة، وتفعل ذلك دون تفكير في العواقب، بل وتشعر بالإشباع الفوري بعدها، فقد تكون مُعرَّضا لتصبح مدمنا إلكترونيا، وهو ليس اضطرابا نفسيا بالمعنى المفهوم، لكنه حالة شبيهة غير مَرَضية، بالإضافة إلى أن الإفراط في المشاهدة الشرهة يصاحبه أعراض تُشبه، ولكن لا تساوي، أعراض الإدمان الفعلي، مثل فقدان السيطرة والشعور بالذنب والانسحاب من العلاقات الاجتماعية والإصابة بمشكلات صحية، بالإضافة إلى إهمال مسؤولياتك وفقدان القدرة على الاستمتاع بأي شيء آخر.

يبدو أيضا أن هذا السلوك المثير للجدل يرتبط ارتباطا وثيقا بسماتك وخبراتك الشخصية، لذا ستجد أنك تخوض التجربة بشكل مختلف عن الآخرين، كما أنها قد لا تؤثر بك كما تؤثر بصديق لك. في الدراسة المنشورة في دورية "سوشيال ساينسز" (Social sciences) عام 2019، يوضِّح الباحثان كيلي ميريل (Kelly Merrill) وبريدجيت روبينكينج (Bridget Rubenking) تأثير بعض سمات الشخصية، مثل التنظيم الذاتي والتحكُّم الذاتي، وبعض المشاعر مثل الشعور بالندم، ومكافأة الذات والاستمتاع بالمشاهدة، وسلوك التسويف، على ميل الفرد للانغماس في المشاهدة الشرهة، بعد أن وضعوا عدة افتراضات وحاولوا تأكيدها أو نفيها باستخدام استبانة ملأها 651 طالبا لقياس تكرار السلوك ومدته الزمنية. (4)

مشاهدة التلفاز

تُبيِّن النتائج أنه كلما تناقصت قدرة الفرد على التحكُّم في أفكاره ومشاعره، والتأقلم مع متطلبات ومشكلات الحياة اليومية، انزلق أكثر إلى فخ الإفراط في المشاهدة، أي إنه يمكن توقُّع تكرار سلوك المشاهدة الشرهة لدى الأشخاص الذين يملكون قدرة أقل على التنظيم الذاتي وقدرا أقل من الشعور بالندم، بالإضافة إلى الأشخاص الذين يعتبرون مشاهدة حلقات متتالية من المسلسل مكافأة على ما حقَّقوه من إنجاز، أو هؤلاء الذين يستخدمونه وسيلة للهروب من المسؤوليات أو تأجيل الأعمال. على الجانب الآخر، أوضحت الدراسة أن مدة المشاهدة الشرهة -عدد الساعات- كان أكثر شيوعا في الإناث ومُرتبطا بالشعور بالمتعة أثناء المشاهدة.

لفتت الدراسة النظر أيضا إلى أن الأشخاص الذين يملكون قدرا أقل من التحكُّم في الذات عادة ما يكونون أكثر عُرضة للتورُّط في السلوكيات الخطرة التي قد تتعارض مع أهداف أكثر أهمية، لذا يمكننا ببعض الحذر أن نصف المشاهدة الشرهة بالسلوك الخطر، حيث إنها تستهلك وقتا ثمينا من الفرد مما قد يتعارض مع تحقيقه لأهداف أكثر أهمية وضرورة، كما أن كلمة "شرهة" في حد ذاتها تُعطي لهذا السلوك طابعا سلبيا مثل أي سلوك يتسم بالشره.

لا تقع في الفخ

عندما تمر بتجربة جديدة (مشاهدة حلقة من مسلسل) وتستمتع بها، يبدأ مخك في إفراز هرمون الدوبامين (Dopamine)، وهو الهرمون المسؤول عن الإحساس بالمتعة، ويبدو هذا الشعور قريبا من الإحساس بالنشوة الذي يختبره مدمنو المواد المخدرة أو المصابون بشراهة الطعام. قد لا يبدو الأمر سيئا حتى الآن، وربما يبدو آمنا أيضا إلى حدٍّ ما، ولكن هذه الحالة من النشوة لا تستمر طويلا، بل تدفعك دفعا لتعاطي المزيد من المحتوى المُسلّي حتى تحافظ على مستوى عالٍ من هرمون المتعة. (5)

مشاهدة التلفاز

وفقا لنظرية تكييف المتعة (Hedonic adaptation) فإن التعرُّض المستمر لمؤثر ممتع لفترة طويلة لا بد أن يتبعه انحسار تدريجي للمتعة، لأن العقل البشري يسعى للعودة دائما إلى مستوى السعادة الطبيعي بعد كل حدث كبير، أي إن السعادة الغامرة بالنجاح أو الزواج لا تستمر طويلا، وبالمثل الحزن الشديد لفقد عزيز أو خسارة أموال لا يستمر للأبد. لذا فالخبر السيئ هنا أن استمتاعك بالمشاهدة الشرهة لن يستمر طويلا على أي حال، ولكنك قد لا تسلم من آثاره السلبية الأخرى على صحتك وعلاقاتك الاجتماعية.

في النهاية، قد يبدو أنك واقع تحت قبضة المحتوى المُسلّي المُتجدِّد والمتوفر بسهولة عند أطراف أصابعك، وقد يبدو الاستسلام للذة المشاهدة الشرهة أكثر سهولة من مواجهة الحياة اليومية، وأكثر متعة بالطبع من القيام بمهمة روتينية. ولكن كالعادة، الإفراط في أي شيء لا ينتهي نهاية جيدة أبدا، والتوازن بين العمل والحركة والمتعة والراحة هو الحل الأمثل للوصول إلى وضع صحي يُحقِّق لك الرضا عن الذات وعن الحياة. جرِّب الاستمتاع باللعب مع أفراد عائلتك أو التحدُّث مع أصدقائك وأغلق هذه الشاشة قليلا.

——————————————————————————————————————–

المصادر

  1.  Netflix announces it’s now live in 130 new countries including Egypt
  2. Understanding the Phenomenon of Binge-Watching—A Systematic Review
  3. المصدر السابق
  4. Go Long or Go Often: Influences on Binge Watching Frequency and Duration among College Students
  5. Binge Watching TV series: The attractive and the addictive.
المصدر : الجزيرة