شعار قسم ميدان

جيش الموتى "Army of the Dead".. لماذا نحب أفلام الزومبي؟

صك الشاعر "روبرت سوثي" لفظ زومبي لأول مرة في كتابه "تاريخ البرازيل" منذ حوالي 200 سنة(2)، لم يكن حينئذ يعرف أن هذه الكلمة ستحوي -فيما بعد- أشرس مضامين الرعب، وأنها ستتحول إلى استعارة عن الموتى الأحياء والجثث المتحركة في الأفلام، تلك التي تستيقظ من الموت فور سريان مفعول السحر الأسود فيها، أو ربما بسبب فيروس في مستشفى أو إشعاع أو أي ظرف غامض، المهم أنها تحل علينا كالليل الحالك في أسوأ أيامه!

 

خلال الثلث الأخير من شهر مايو/أيار 2021، بدأت منصة نيتفلكس في بث فيلم "جيش الموتى (Army of the Dead)"، من كتابة وإخراج "زاك سنايدر"، الذي أسس أسلوبه الخاص باعتماد المؤثرات البصرية مع الحركة البطيئة في أفلامه، وسط تكهنات عن إتباعه بجزء ثان قادم. في الفيلم، نتعرض لمصالحة عاطفية بين أب وابنته، تأتي في سياق "الثيمات التقليدية" لأفلام الزومبي(2).

لكن ما هو غير تقليدي تماما، كان مقاربة "سنايدر" للموتى الأحياء، فهم ليسوا نتاجا لمؤسسة طبية أنتجت فيروسا فقدت السيطرة عليه، ولكنهم فيما يبدو نتاجا لتجارب عسكرية خرجت عن إطارها، طوّر سنايدر بسبب تلك السردية صنفا من الزومبي دعاه "ألفا"، يتسم بالذكاء والتنظيم والإدارة على عكس أبطال الزومبي المعروفين، كما أنه يولّي الزعامة لملكة لها معاونون. وفي سابقة لم تحدث قبلا، امتلك هؤلاء الموتى الأحياء حيوانات زومبي مثلهم(3). من ثم فإننا لسنا أمام مجرد وحوش، بل منظومة هيراركية بها قيادة متدرجة تعطي تعليماتها عبر لغة تتمثل في ترددات متنوعة للصراخ في قطيع يحمل صفات الزومبي التي نعرفها(4).

 

في أثناء ذلك كله، يوكل رجل أعمال مهمة إلى مجموعة أشخاص تتلخص في الاستيلاء على ثروة من المال. تتوفر النقود في خزنة تتموضع في ملهى بمدينة "لاس فيغاس" المحتلة من قبل الزومبي. ذهب البعض إلى أن الفيلم يفتقر إلى الإبداع، فالشخصيات فيه أحادية البعد لا يوليها "سنايدر" تركيزه(5)، في الوقت الذي يلقي فيه تعليمات أقرب ما تكون إلى السياسة مثلما يفعل في المشهد الذي يصوب فيه جندي جهاز استشعار الحرارة صوب فتاة، وحينما يلحظ عليها أمارات الغضب والاحتجاج يعلق أن أولى علامات الإصابة بفيروس هي التذمر والتصرف خارج عرف المجتمع. وفي مشهد منفصل، يذاع فيه قرار رئيس الولايات المتحدة بإلقاء قنبلة نووية على فيغاس بدافع من المرح، وكأنه يشير إلى طريقة تفكير عابثة لا تدرك جسامة الموقف يتمتع بها صناع القرار.

 

الغريب في الأمر أن أفلام الزومبي -كانت جيدة أو سيئة- عادة ما تلقى اهتمام الجمهور، وللبحث عن أسباب ذلك دعنا نرجع إلى بداية الحكاية وجذوتها، وهنا سنصل إلى الساحل الذهبي في غرب أفريقيا، حيث تقع بوابة اللاعودة، منذ نحو قرنين من الزمن كانت تلك هي المحطة الأخيرة للأسرى ذوي البشرة الداكنة في بلادهم، وسط الأمواج المتلاطمة وهدير الرياح وصدى القيود الحديدية التي كبّلتهم، بينما يلقي بعضهم نظرة أخيرة على موطنه قبل العبور.

حملت أمواج المحيط سفنهم المتوجة إلى بلد يسمى "هايتي" يقع في الثلث الغربي من جزيرة هسبانيولا(6). يتزاحم داخل القارب عشرات من البشر المعذبين، اقتادهم تجار الرقيق الأوروبيون بالقوة إلى المستعمرة الفرنسية للعمل في مزارع قصب السكر بعدما جُردوا من أسمائهم، وحُرموا من العلاج الطبي ومن التعليم وممارسة شعائرهم الدينية، وذاقوا من العنف أشكالا ممنهجة. بالطبع تاقوا إلى الحرية، فتراءى لهم خلاصهم في وضع حد للحياة، انتحر عدد كبير منهم، بينما أحجم أكثرهم عن التوجه نحو حافة الموت.

 

بالنسبة إلى هؤلاء الذين بقوا فقد تملكهم الخوف مما يؤمنون به في عقيدتهم من أن الإقدام على الانتحار من شأنه أن يحقق لهم أسوأ كوابيسهم، وهو بقاؤهم عبيدا، لا يتوقفون عن العمل، إلى الأبد. حالة الزومبي من تلك الوجهة هي النتيجة المنطقية للعبودية التي يكون فيها الإنسان دون إرادة أو اسم، ومحاصرا في دائرة لا تنتهي من "الموت الحيّ". أدرك الأوروبيون هذا الأمر، فكانت تلك المخاوف العقائدية هي إحدى الطرق التي استخدمها المستعمرون للسيطرة على العبيد الأفارقة(7).

 

بعد أعوام مديدة نالت "هايتي" حريتها بعد ثورة عام 1804. عُدّ ذلك حدثا تاريخيّا فارقا، ومؤثرا على المستوى المحلي والعالمي، وقدر المؤرخون أن تلك الثورة تمثل أقوى تأكيد خلال التاريخ البشري لاستحقاق الإنسان حريته. ولكن في المقابل، اعتبرت الإمبراطوريات الأوروبية ما حدث آنذاك وصمة وإهانة لها، لذا فإنها لجأت إلى شيطنة ثورة العبيد ووصمها(8)، مسخّرة وسائل الإعلام والسينما لترويج تلك الصورة. رُبطت كلمة "زومبي" بالقائد البرازيلي المسلم الثائر "جانجا زومبا"، واستمر نشر التقارير عن أكل لحوم البشر والتضحيات البشرية والطقوس الخطرة في هايتي طوال القرن التاسع عشر.

عمل فني بعنوان: الزومبي في حقل قصب السكر في هايتي

 

بعد زمن، نال من الجزيرة مستعمر جديد، هذه المرة كانت الولايات المتحدة. نظر المحتلون الأميركيون بعين الريبة إلى ديانة السكان الحقيقية (الفودو) أو ما يطلق عليه السحر الأسود، يظهر هذا في زيارة قام بها الصحفي والرحالة الأمريكي "ويليام سيبروك" إلى هايتي(9)، كان هدفه منها كتابة تقرير عن الاحتلال الأميركي للجزيرة، وعوضا عن ذلك فإنه وجد نفسه منقادا إلى الفودو وبدلا من كتابة تقريره المنتظر، ألّف كتابا أسماه "الجزيرة المسحورة"، ناقلا بذلك افتتانه بالفودو إلى الأمريكيين.

 

لقي الكتاب رواجا لا سيما فصلا حمل عنوان "موتى يعملون في حقل القصب"(10)، قدّم فيه "سيبروك" تعريفا للزومبي كجثة الإنسان بلا روحه، تُؤخذ من القبر فتهب لها الشعوذة مظهرا يشبه الحياة. الزومبي بذلك هو تمثيل لشعب هايتي الذي يتحكم به مشعوذ يدعى "بوكور" ويسخره لخدمة مصلحته والقيام بأعمال وضيعة. ترسّخ ذلك المفهوم للخيال الشعبي، وبعد ثلاثة أعوام فقط كان قد وجد طريقه إلى هوليود. في تلك الفترة كان كلا الفيلمين "دراكولا" و"فرانكشتاين" قد حققا نجاحا ساحقا، وكان التوقيت مثاليا لتقديم وحش جديد إلى السينما.

 

صدر "الزومبي الأبيض" عام 1932 كأول أفلام الموتى الأحياء، متأثرا بكتاب الجزيرة المسحورة، وأيضا بمسرحية كانت تُعرض في برودواي لـ"كينيث ويب" تسمّى "الزومبي". يصور الفيلم مالك مزرعة ثري يتواطأ مع مشعوذ، يلتمس منه تحويل المرأة التي يحبها وعلى وشك الزواج برجل آخر إلى زومبي.

استقبل الجمهور الفيلم حينذاك بفتور، لكنه أسس لاتجاه لم تحد عنه أفلام الموتى الأحياء، وهو: التابع والسيد. وخلال هذه الحقبة ارتبطت الإشارات المبكرة إلى الزومبي في الولايات المتحدة ارتباطا وثيقا بالعبودية والتقاليد الأفريقية. وفي سابقة لم تحدث قبل ذلك، ظهرت الكلمة مطبوعة في صحيفة أمريكية في قصة قصيرة بعنوان "الرسام المجهول". (11)

 

تصور القصة شابا أفريقيا مملوكا لرسام إسباني يُدعى "بارتولومي إستيبان موريللو". يؤكد الشاب أن "زومبي" قد ظهر في الأستوديو الفني ليلا للعمل على لوحات المتدربين، فيما يشكك الجميع في كلمات الشاب، ويرفض الرسام وجود الزومبي باعتباره أسطورة أفريقية. ضربت هذه القصة الخيالية على وتر حساس لدى الجمهور الأمريكي، ونُشرت نسخ مختلفة منها في الصحف المحلية في جميع أنحاء العالم. بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان الزومبي بالنسبة للكثيرين "مرتبطا بمخلوق من أصل أفريقي يقدم خدماته عن طيب خاطر للرجل الأبيض".

 

لاحقا، قام المخرج "جورج روميرو" عام 1968 بتقديم فيلم "ليلة الموتى الأحياء" الذي يعد علامة فارقة في تاريخ هذا النوع من الأفلام (12). ألغى الفيلم مفهوم الأسياد والعبيد، وتخلى عن ثيمة السيطرة من الأساس، وجعل الموتى الأحياء يتصرفون بغريزتهم ويجوبون الأرض بحثا عن الأحياء ليلتهموهم. يموتون بطلقة في الرأس أو بالحرق، لكن عقرة منهم أو خدشا بسيطا يكفي لقتلك خلال وقت قصير، قبل العودة للحياة ومطاردة الأشخاص السالمين، سماهم "روميرو" بـ"الغيلان" أخذا برواية ريتشارد ماثيسون "أنا أسطورة".

في الجزء الثاني من ثلاثيته، حوّل روميرو موتاه الأحياء من مجرد مسوخ بدائية إلى وعاء ذي دلالة محتملة، إذ استخدم الزومبي لانتقاد الاستهلاكية. في الفيلم يذهب الموتى الأحياء ليلا إلى مركز التسوق، ويتحركون بألفة في المكان. قضى "روميرو" أيضا على خيالات العنصرية التي رافقت الموتى الأحياء، بإقصائه السحر الأسود بوصفه مسببا للحالة، ليحل محله تفشي فيروس (من صنع الإنسان) ينشط دماغ الموتى، أو إشعاع ربما مصدره الفضاء الخارجي.

 

الغريب أن الزومبي ليسوا بكائنات مستعصية أو معقدة، فوجودهم مدفوع بأبسط الاحتياجات، كما أنهم لا يخالجهم أدنى قلق بشأن سلامتهم، ولا رغبة لديهم في الحب والشعور بالانتماء، أو الحاجة لتقدير ذواتهم والسعي نحو ذلك على أية حال. يصيغ "سيغموند فرويد" ذلك بقوله: "يمثل الزومبي الغرائز اللاواعية الموروثة بيولوجيا والتي يقودها الدافع والرغبة في الرضا الفوري والعدوان"(13). سلوكيا، يتحرك الزومبي بدافع الجوع والشراهة، ونتيجة لذلك، فإنهم ينخرطون في سلوك الاستهلاك.

 

لذلك فإن أحد الأسباب المحتملة للإعجاب بأفلام الزومبي هو أن الزومبي هم نحن، هذه المسوخ لا تأتي من الأساطير والقصص الخيالية(14)، بل تُولد من مخاوف اجتماعية وثقافية. وحش فرانكشتاين على سبيل المثال يمثل الخوف من العلم ومحاولة الإنسان لعب دور الإله وتحديد المصير. تأتي الوحوش دائما من مكان كامن من النفس لتعكس أقدم وأهم المخاوف التي عرفها البشر منذ الأول: الموت(15). محاولة فهم الخوف وتجسيده ما هي إذن إلا جهد بشري يائس، يسعى من خلاله الإنسان لفرض سيطرته على عالم تعمّه الفوضى.

 

من جانب آخر، فإن الأمر يتعلق بالبقاء على قيد الحياة. عبر مئات الآلاف من السنوات، كان هدفنا بوصفنا بشرا هو التكيف مع الضغوط البيئية، مع وعينا المفرط بالتهديدات والأخطار التي تحيط بنا. ببساطة، كان أكثر البشر قدرة على اكتشاف الأخطار الموجودة في بيئتهم والاستجابة لها بكفاءة هم الأكثر فرصة للبقاء على قيد الحياة والتكاثر، ومن ثم فقد أورثونا الخوف مع جيناتهم. في هذا السياق، ترتبط ثلاثة جوانب من قصص الزومبي بذلك التاريخ التطوري: الخوف من الافتراس، والمرض، وبقاء الأصلح. لكن ألا يُفترض -بسبب ذلك- أن نفعل العكس، أي أن نهرب من أفلام الزومبي بسبب مخاوفنا التي تجسدها؟

يجادل الباحثون أننا "نريد التعامل مع الموت والعدوى دون المرور بهما. من خلال المشاهدة نمر بذلك القلق والحزن، وعندما ينتهي العرض نعود إلى حياتنا الاعتيادية"(16). يرجع البعض هذه الوظيفة النفسية للسينما والتلفزيون إلى الإغريق، الذين كانت لديهم قناعة بأن هذه هي الطريقة المثلى للحفاظ على استقرار المجتمع، باختبار كل هذه التهديدات بشكل غير مباشر من خلال الخيال.

 

يدعم "دومينيك سيبيير" المتخصص في سينما هوليود الكلاسيكية والأستاذ الفخري في جامعة غرب باريس "نانتير لاديفونس" ذلك التفسير، مؤكدين أن متابعتك لمشاهد تمثيلية للموت أثناء جلوسك على كرسي في قاعة سينما أو على أريكة منزلك يتيح لك اختبار شعور الاستئناس بالموت والانتصار عليه، نظرا لأن "مواجهة الموت بشكل متكرر (في أفلام الرعب) تقتل الموت في حد ذاته.

 

يبرهن سيبير أيضا على أن الزومبي أفضل من البشر، فهم يتعلمون سريعا كيفية التعاون معا، لا يلجؤون أبدا إلى الخداع والحيلة مثلما نرى في فيلم "جيش الموتى"، إنهم يحاولون -فحسب- تحقيق هدفهم الوحيد المتمثل في إنهاء حياة الإنسان. وعلى عكس العديد من البشر، فإن الزومبي يكونون ببساطة على سجيتهم، من تلك الوجهة فإن نهاية العالم في أفلام الزومبي تعلمنا أنه لا ينبغي الخوف من الموتى الأحياء قدر البشر الآخرين. (17)

 

سؤال الزومبي -إذن- إنساني في المقام الأول، هل يمكن الوثوق بالأشخاص الآخرين الذين يقابلهم الإنسان أثناء محاولته البقاء على قيد الحياة؟ هل نتعامل حقا مع بعضنا بعضا على تنوعاتنا واختلافاتنا بطريقة تختلف عن تعامل الزومبي؟ حتى لو لم يتحول الإنسان إلى مسخ من الزاوية البيولوجية، فإنه قد يكون محملا بإرث العنصرية والطبقية والنزعة الاستهلاكية، ومن تلك الوجهة قد يكون مسخا أيضا، لكن فقط من نوع آخر!

———————————————————–

المصادر

  1. Zombies: The Real Story of the Undead.
  2. ‘Army of the Dead’ Review: Zack Snyder’s Zombies in Vegas Heist Thriller Is an Epic Meat-and-Potatoes Undead Flick
  3. Army of the Dead: Time Loop Theory Explained
  4. Army of the Dead: Robot Zombie Mystery Explained
  5. Army of the Dead movie review (2021)
  6. Where do zombies come from?
  7. Top Ten Origins: Zombies: The Undead Shuffle
  8. Article Figures of terror: The “zombie” and the Haitian Revolution
  9. Our endless appetite for zombies is because we’re looking at ourselves
  10. من أين أتى الزومبي؟
  11. Zoinks! Tracing The History Of ‘Zombie’ From Haiti To The CDC
  12. The Tragic, Forgotten History of Zombies
  13. The Psychology of Zombies: Why are Zombies so Infectious?
  14. Why are zombies still so popular?
  15. Zombies: Fine and Decomposing Art
  16. 9 Reasons We Have an Undying Interest in the Undead
  17. The Tragic, Forgotten History of Zombies
المصدر : الجزيرة