"نار من نار".. عن أي حرب لبنانية نتكلم؟
تحكي رواية "البيت الأخير" للراوئي اللبناني ربيع جابر عن الأيام الأخيرة في حياة المخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي، وعن الصداقة المعقّدة التي تجمعه بـ"ك"، شريكه السابق في السكن ورفيقه السابق في النضال. يقترح "ك" على مارون فيلماً مقتبساً من رواية "الظل والصدى" للروائي اللبناني الراحل يوسف حبشي الأشقر. يعجب مارون بالفكرة في البداية، لكنّه يجري فيها تغييرات تنسف فكرة الفيلم الأساسية، ويجري بينهما هذا الحوار:
– "ك": "الفيلم كما تفكّر فيه فيلم سياسي. أنا اقترحت فيلماً عن يوسف واسكندر، أنت تريده عن يوسف وخليل. تريد فيلماً عن الأجيال، عن الآباء والبنين، حسناً اتصل بالسيد تورجينيف واطلب منه أن يكتب لك السيناريو".
– مارون: "لكن…".
– "ك": "اسمع يا مارون، أنا لا أحسن الكذب، وأنت تعرفني. الفيلم الذي تفكّر فيه هو فيلم مغامرات بوليسية. أنت تريد يوسف أن يعود إلى لبنان كي يبحث عن قتلة والده خليل لينتقم منهم. حسناً، فهمنا. وبعد ذلك تريده أن يغفر لهم. هل هذه فكرتك؟".
– مارون: "هذه فكرتي".
– "ك": "وماذا يبقى من القصة الأولى؟".
– مارون: "الأشخاص. طبعاً اسكندر نلغيه، لأنّنا لا نستطيع أن نجد تمويلاً لفيلم فلسفي أبطاله من لبنان…".
تمر جملة "لا نستطيع أن نجد تمويلاً لفيلم فلسفي أبطاله من لبنان" بشكل عابر في الرواية الصادرة في العام 1996، لكنّها تمثّل جزءاً أساسياً من الفيلم الروائي الثاني للمخرج اللبناني جورج الهاشم "نار من نار"، والذي عرض مؤخّراً في الصالات اللبنانية.
يبدأ الفيلم خلال العقد الأوّل من الألفية، مع عودة المخرج اللبناني المقيم في باريس أندريه (وجدي معوّض) لتصوير فيلمٍ فرنسي التمويل، يمثّل سيرة ذاتية له بعنوان «نار». يحكي "نار" عن حياته بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 باسم محمد (رامي نيحاوي) وعن علاقته بعشيقته أميرة (في الفيلم نادين) والتي تؤدّي دورها الممثلة الفرنسية كاميل موران (عديلة بنديمراد)، وهي في الآن نفسه زوجة صديقه وليد (فادي أبي سمرا)، الذي يظهر في الفيلم باسم إيلي (رودريغ سليمان).
خلال العرض الأوّل للفيلم في معهد العالم العربي في باريس يظهر وليد فجأة ويلتقي بصديقه أندريه. هذا اللقاء الأوّل منذ أكثر من عقدين يحمل معه مواجهات ومكاشفات كثيرة، تقلب الصورة وتغيّر كلّ شيء. "الخريطة ليست بسيطة"، كما يصفها الناقد علي وجيه (1). يتنقّل الفيلم بين الحاضر والماضي، ومن الفيلم إلى فيلم داخل الفيلم. ممّا "يمعن في توريط المتفرّج ضمن لعبة جنونيّة من الواقع الحقيقي والآخر المتخيّل/ المشتهى. يتحدّاه للتفريق بينهما. يدعوه إلى تفكيك كلّ منهما إلى سيرته الأولى، تمهيداً لتركيبهما كقطع البازل" (2).
لا يكتفي أندريه بذلك، بل يعمد إلى تصوير إيلي بأسوء شكل ممكن: شخصية قلقة بسبب الحرب، غير قادرة على اتّخاذ أي قرار. لا يعير اهتماماً لزوجته نادين، وفوق ذلك يخونها مع إحدى طالباته الجامعيات. قبل أن يصل إلى ذروة "دناءته" حين يترك مسلّحين من ميليشيات مسيحية يخطفون صديقه محمد الذي كان معه في السيارة، دون أن يحاول فعل شيء لإنقاذه.
لاحقاً يدعوه أندريه لاحتفالٍ يقيمه فريق العمل بمناسبة العرض الأوّل للفيلم. وليد الذي يمانع في البداية، يعود فيلبّي الدعوة تحت ضغط أندريه. لكن وبمجرد دخوله إلى البيت حيث يقام الحفل، تبدأ النار الداخلية الكامنة بين الشخصيتين بالظهور.
يهاجم وليد فيلم صديقه علناً، يصفه بالسيء والمليء بالكليشيات. أندريه الذي يعرف ذلك يتقبّل الأمر، لكن الحاضرين ومعظمهم من الفرنسيين يكرهون وليد الذي يبدي عدم اكتراث بجهدهم المبذول خلال التصوير. تتطوّر الأحداث إلى أن يختلي الاثنان ببعضهما البعض في منزل أندريه حيث تجري المكاشفة الحقيقية. لم يصوّر أندريه ما جرى فعلاً، لكنّه صوّر ما كان يتمناه. في "نار" صنع أندريه عالماً موازياً، وهو ما يشبّهه جورج الهاشم بـ"التعدي على الخلق".
إذاً تتكشّف الحقائق بالتدريج، وليد كان سينمائياً وكاتباً ناجحاً وعلاقته بزوجته مميّزة، وهو من يتبنى أندريه ويسكنه في بيته. يولّد ذلك في أندريه مزيجاً من الحقد تجاه صديقه والرغبة بزوجته، دون أن يلغي مشاعر الصداقة العميقة، أو بحسب الهاشم في مقابلة إذاعية: "كيف نقدر على الحفاظ على الصداقة مع الانجراف إلى جموح الحب الذي يتحوّل إلى خيانة؟" (4).
لا يكتفي أندريه بتزوير الماضي، و"سرقة حياة وليد"، كما يقول خالد صاغية (5)، بل يعمد إلى سرقة النيغاتيف الذي تظهر فيه أميرة وهي تبوح لوليد بحبّها. ورغم كلّ ذلك، ظلّت النار تأكل أندريه من الداخل لمعرفته بأنّ كلّ ذلك تزييف.
لا تقف المكاشفة هنا، بل تمتد لتبيّن مقدار الحب الذي يكنّه أندريه لوليد، حين يقول له نفس الجملة التي قالتها أميرة لزوجها قبل زمن طويل: "بحبّك، بخاف عليك قد ما بحبّك". تنكسر الحدود، وتعبّر الشخصيات عن مشاعرها دون أقنعة، لكنّ ذلك لا يؤدي إلى خلاص من أيّ نوع. "انتهت اللعبة، وما بقي من الحرب هو نارها التي ما زالت تحرق البطلَيْن كما المتفرّجين عليهما على الشاشة الكبيرة والمتسائلين: هل تحرقنا هذه النار أم أنّنا نتفرّج عليها؟" (6).
الأمر نفسه بالنسبة لمثلث العلاقات، والذي كان المخرج الفرنسي فرونسوا تروفو أوّل من جعلها محوراً لفيلم سينمائي في عمله "جول وجيم"، والذي استوحى منه برناردو بيرتولوتشي لاحقاً في فيلمه "الحالمون". وهو إلى ذلك حضر في العديد من الأفلام مثل "ذهب مع الريح" و"كازابلانكا" وغيرها. لكنّ الضلع الثالث للمثلث في فيلم الهاشم كان أميرة، التي كمّلت الضلعين الأساسيين أندريه ووليد.
انطلاقاً من هذا الرأي، أنجز الفيلم بتمويل لبناني كامل (إنتاج جورج الهاشم وحسين غريب)، تعبيراً عمّا يسمّيه الهاشم في المقابلة نفسها "موقفاً أخلاقياً". الطريف في الأمر أنّ الهاشم صوّر جزءاً كبيراً من الفيلم في باريس وتكوّن فريق العمل من جنسيات مختلفة، إذ يحضر إلى جانب اللبنانيين المسرحي الكندي اللبناني الأصل وجدي معوّض والممثلة الجزائرية عديلة بنديمراد، إضافة إلى مدير التصوير اليوناني أندرياس سينانوس، الذي اشتهر بتعاونه الطويل مع المخرج اليوناني الراحل ثيو أنغيلوبولوس، والمؤلف الموسيقي اللبناني الفرنسي زاد ملتقى.
لكنّ كلّ ذلك جرى بناءً على رؤية جورج الهاشم نفسه وبقرارٍ منه، وليس نتيجة لضغوط مرتبطة بالتمويل. تبدو هذه الخيارات منطقية وغير مفتعلة في سياق الفيلم، ممّا يُحسب للهاشم الذي يُظهر اتّساقاً بين ما يقوله في عمله وما فعله في أرض الواقع.
يبقى أشهر هذه الأفلام "خارج الحياة" الذي حصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان عام 1991. وهو يروي قصة اختطاف صحافي فرنسي على يد جماعة إسلامية شيعية خلال الحرب وما تعرض له من صعاب خلال هذه الفترة. أما فيلمه الأخير بعنوان "زوايا"، والذي لم يكتمل بسبب موته الغامض عن ثلاثة وأربعين عاماً فيتحدّث عن عودة طبيب لبناني مقيمٍ في فرنسا للبحث عن قتلة والده خلال الحرب.
وإن كان بغدادي لم يُذكر بأيّ شكلٍ من الأشكال في الفيلم، إلّا أنّ الشكر الخاص الموجه في النهاية إلى أرملته ثريا خوري (الشخصية الرئيسية في فيلم بغدادي "حروب صغيرة"، والتي أدّت عدّة مشاهد في "نار من نار" حذفت خلال التوليف) يشير بشكل أو بآخر إلى استعانة جورج الهاشم بشيءٍ من سيرة بغدادي.
عُرض الفيلم في صالات السينما خلال الشهر الفائت في بيروت، وفي حين اعتبره الكثيرون عملاً مميّزاً، رأى البعض أنّ الفيلم أشبه بالمتاهة وصنع ليخفي تعثّر المخرج في تأليف عمله (9). هذا التباين يحصل دائماً عند مشاهدة أيّ عملٍ فني، فكيف إذا كنا أمام فيلم قيل إنّه"جسد غريب في سيرة السينما اللبنانية" (10). من هنا يمكن الانطلاق للقول إنّ "نار من نار" الذي عرض لأوّل مرة ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان دبي السينمائي في دورته الثالثة عشرمن الأفلام اللبنانية القليلة جدّاً التي يمكن تنصيفها كأعمالٍ تنتمي لسينما المؤلّف فعلاً.