كيف تبيع روحك الرقمية.. هل ستكون البيانات هي النفط الجديد؟

لا بد أنك بدأت تُدرِك مؤخرا أنّنا لسنا فقط عملاء لشركات مثل فيسبوك وغوغل، بل نحن أقرب ما يكون لوقودهم المُحترق، أو على الأقل فإن "بياناتنا" هي ما يُمثِّل ذلك، بعدما أصبحنا نتعامل كل أسبوع تقريبا مع كشف جديد عن عمليات الاختراق والتسريبات واستغلال معلوماتنا، من نداءات متزايدة لضبط عمل هذه الشركات وحماية المستهلكين في الولايات المتحدة وأوروبا. قد تبدو كلمة "المستهلك" مبالغا فيها بعض الشيء؛ لأن مستهلكنا هنا هو المُنتَج أيضا.

حسنا، لفهم مدى عمق الأمر دعنا نبدأ بافتراض أنّكِ مستخدمة نَشِطة لموقع فيسبوك، تلتقطين الكثير من الصور الشخصية وتشاركينها مع الأصدقاء، تكتبين يومياتك بعفوية، سخطك العارم على الرجال، حبك العظيم لأحد الممثلين، والتباهي الشديد بافتقارك للمهارات الاجتماعية، ثمّ في أحد الأيام قررتِ كتابة تعليق ساخر في إحدى الصفحات العامة، ولم يعجب التعليق مجموعة من الناس وقرَّروا مهاجمتك على ما افترضتِ أنه مجرد رد "اعتيادي"، وحوَّلوا ما كتبتِه من بيانات عن حياتك على صفحتك الشخصية إلى قنابل مولتوف، عن طريق التشهير أو حتى عبر السعي لجمع بيانات شخصية أكثر خصوصية عنكِ ونشرها للعامة بنية الإيذاء (Doxing).

يتشارك الكثيرون من رواد حفل مُغنية البوب الأميركية تايلور سويفت معكِ السخط نفسه الذي تحملينه الآن، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2018، وأثناء إحدى جولاتها الموسيقية، استخدمت شركة الأمن المُكلَّفة بحمايتها كاميرا للتعرُّف على الوجه تلتقط صورا للجمهور، نُقِلت هذه الصور إلى "مركز قيادة" في مدينة ناشفيل الأميركية (1)، حيث قورنت مع قاعدة بيانات لمئات من ملاحقي النجمة "سويفت" ​​المعروفين (Stalkers).

بعض النظر عن الجدل حول الأمن والانتهاك الفجّ للخصوصية، السؤال الأهم هنا هو: مَن يمتلك حقا صورك على فيسبوك، تلك التي استُخدمت قبل قليل للتقليل من شأنك، أو صور رواد الحفلة الموسيقية؟ وكم من الوقت تظل صورك محفوظة في ملفات هذه الشركات التقنية أو الأمنية؟ وإذا كانت ظلّت لديهم لفترة، فهل يحق لهم استخدامها بشكل آخر بعد فترة؟

epa07002069 Passengers boarding a Scandinavian Airlines flight to Copenhagen use an airport-wide biometric facial recognition terminal at Dulles International Airport in Dulles, Virginia, USA, 06 September 2018. Photos from the terminal are compared with a passengers' visa photo. EPA-EFE/JIM LO SCALZO
(نظام التحقق من التعرف على الوجه في مطار دالاس الدولي)

لا تقف الأمور عند هذا الحد. على سبيل المثال، إذا قرَّرت أن ترسل عينة من لُعابك إلى مختبرات "23andMe"، وهي شركة أميركية لاختبار الحمض النووي وتحليله، فإنك بذلك تشارك بياناتك الجينومية مع الشركة، لكن ما لا تُدركه أنّ شركة "23andMe" تَبيع هذه الإحصاءات والبيانات لشركات الأدوية (2)، على جانب آخر تستخدم الكثير من تطبيقات الهاتف المحمول الموقع الجغرافي لكنها لا تُعلِم المستخدمين أنّ بيانات موقعهم الجغرافي تشتريها شركات استثمارية لتحليلها وتحديد المتاجر التي يذهبون إليها (3).

يعني ذلك أن شركة الحمض النووي وتطبيقات تحديد الموقع، وبالمثل شركة فيسبوك أو الشركة التي تُدير الأمور الأمنية لتايلور سويفت، يمكن أن يصنعوا الكثير من المال من هذه البيانات. إذا شعرت بالغضب أنّ بياناتك تُسوَّق وتُباع دون أن يكون لك حصة، فيؤسفنا إعلامك أنّ كل هذا يجري بموافقتك، تُجمع هذه المعلومات بموافقة جميع المستخدمين، سواء بالحيلة أو الحيلولة، حيث قد تُقسَّم المعلومات القانونية عن عمد بين أجزاء متفرِّقة من اتفاقيات شروط الخدمة، تلك التي تنقر علامة "موافق" أو "قبول" عليها دون أن ترى، أو تُخفى ضمن جزء غير واضح في صفحة التطبيق الذي تستخدمه، فلا تدري أنّك تتنازل سابقا عن أيّ حقوق تخص بياناتك.

سهرة باهظة

الآن تخيَّل أن "سالي" تُقيم سهرة لتناول البيتزا ومشاهدة فيلم مع صديقتها "نورا"، ما البيانات التي ستتنازلان عنها الآن؟ (تأمَّل الشكل المرفق). من المحتمل أن سالي ونورا مجتمعتين قد زوّدتا -يدويا- التطبيقات التي استخدمتاها، مثل أبل وفيسبوك وأمازون ودومينوز بيتزا، بنحو 53 معلومة على الأقل.

في المقابل من ذلك، يُقدَّر عدد كلمات سياسات خصوصية أبل وأمازون وغوغل وفيسبوك ودومينوز مجتمعة إجمالا 76,069 كلمة. يستغرق الأمر أكثر من خمس ساعات لقراءة جميع السياسات إذا رُوجعت بمتوسط ​​سرعة قراءة 250 كلمة في الدقيقة. المعلومات المُشار إليها في هذه القصة ما هي إلا جزء ضئيل من قدرة هذه الشركات على تجميع البيانات استنادا إلى سياسات الخصوصية الخاصة بها (4). وفي النهاية، ستكتشف للمفارقة أن ما جُمِع من بيانات يتخطى سعر فطيرة الببروني واشتراك الفيلم.

 

أعطِني بياناتي.. أطلق يديَّ

يُعتبر تعريف "البيانات الشخصية" من أكبر المشكلات التي تواجه الباحثين القانونيين، وبتحديد أكثر، يتركَّز الكثير من الجدل على ما يعنيه أن تكون هذه المعلومات "شخصية". لنفترض أنّك وضعت صورة على فيسبوك مصحوبة بنص، مَن يمتلك هذه الصورة ونصها المصاحب الآن، أنت أم فيسبوك؟ يدّعي مُزوِّدو الخدمة مثل غوغل وفيسبوك أن تلك البيانات أصبحت ملكا لهم بالفعل.

الأمر أعمق مما يمكن أن تتصوَّر، إذا حلَّلنا ممارسات شركات التكنولوجيا والبيانات التي تجمعها عن عملائها، يُمكننا تحديد أربع طبقات من البيانات. فمثلا، لنأخذ صورة سيلفي وضعتها كلٌّ من سالي ونورا على فيسبوك، هذه الصورة لا تُمثِّل "مجرد صورة"، بل لها أبعاد لا تراها بحسب طبيعة البيانات المأخوذة منها.

  • أولا، هناك البيانات المدخلة (Input Data)، هي جميع البيانات التي يُضيفها الفرد يدويا (مثل: الصورة نفسها، تعليق الصورة، التعليقات، الهاشتاج).
  • وثانيا، هناك البيانات الوصفية في الصورة (Metadata)، مثل بيانات الموقع الجغرافي (GPS) المرفقة بالصورة، والتفاصيل المُتعلِّقة بالكاميرا، والدقة، والمعلومات الأخرى التي تنتقل مع الصورة.
  • ثالثا، لدينا البيانات المرصودة (Observed data)، وهي معلومات عن الطريقة التي يمكن أن تُستخدم بها هذه الصورة. لم تُنشأ هذه البيانات بواسطة فيسبوك، ولا تدخل بواسطة الفرد أيضا، وعلاوة على ذلك من الواضح أيضا أن الشخص لا يستطيع الاطلاع عليها. وأخيرا، البيانات المشتقة (Derived data)، وتعني أن المواقع والتطبيقات مثل فيسبوك وغوغل تستطيع، استنادا إلى جميع فئات البيانات الثلاثة المذكورة سابقا، استنتاج معلومات مختلفة حول المستخدم، مثل: التفضيلات، وأنماط السلوك، والميول ومئات الاستنتاجات حول طبيعة الشخص وهويته.

صورة ميدان

تزعم شركات التقنية أنّ من حقها أن تمتلك النوعين الثالث والرابع من البيانات، وهذا الأمر يُثير حفيظة الكثير من المستخدمين، لذا بدأ المُطوِّرون في استحداث حلول لهذه المشكلة، وكان أبرزها هو نموذج البيانات المتمحور حول المستخدم (user-centric Data model)، وهو يعني أنّ المستخدم وحده هو مَن يمتلك بياناته، على أن تُحفَظ النسخة الرئيسية من البيانات على "سحابة البيانات الشخصية"، الأمر يشبه أن ترفع ملفا ما على حساب "Dropbox" الخاص بك مثلا.

يمدّنا هذا النموذج بعدد من المزايا، أولها بالطبع ملكية البيانات، فهو يعطي فرصة للتحكم فيمن يستطيع الولوج إلى السحابة الشخصية لكل مستخدم. لكن محمد رشاد، مهندس البرمجيات في شركة "نوكيا" (Nokia) يجادلنا أن الأمر قد لا يُحدِث فارقا كبيرا، حيث يقول لـ "ميدان": "إذا كان لكل مستخدم سحابة خاصة يضع عليها بياناته، فلن يختلف الأمر كثيرا. في الأخير، إذا استُخدم هذا النموذج فالأمر سيان، لأن البيانات ستكون على تطبيق آخر (third party application)، حتى ولو كانت الفكرة هنا هي ملكية البيانات، فإن المواقع تستطيع الحصول عليها"، لكن مع تجاوز كل هذا، هل الفكرة سهلة التطبيق عمليا؟

يتابع رشاد لـ "ميدان": "هناك اتجاه فعلي لهذا النمط من الملكية، لكنه ليس سحابيا، يُسمى بـ "edge computing"، أقرب مثال له هو التورنت. فكرة التورنت هي أنّ كل المستخدمين لديهم كل بيانات الملف المراد تحميله، بيانات الويب هنا تكون على أجهزة المستخدمين بدلا من أن تكون لدى شركة بعينها، لكن كل هذا يتعارض مع ما تفعله هذه الشركات وتنفق الملايين لتوفيره: السرعة".

على خط النار

هناك سؤال آخر أثاره القانونيون مرارا وتكرارا يتعلَّق بنطاق الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الفرد على بياناته، وفي أي إطار قانوني يقع نظام ملكية البيانات، هل هو حق ملكية فكرية، أو سر تجاري، أو نوع جديد من نظام الملكية (ما يُسمى بـ "الحق الفريد" (sui generis right))؟! ويبدو أن غالبية الباحثين وافقوا على أن البيانات الشخصية لا تقع في أيٍّ من هذه الفئات (5).

لتبسيط الأمر دعنا نسأل: إذا سرق أحدهم بياناتك ونشرها دون إذنك، صورة لك مثلا، هل تخضع صورك المنشورة علنا لحيازتك؟ أجل، نعلم أنّها صورتك ووجهك وقميصك الأحمر المُخطَّط المُفضَّل، لكن ألا ترى أن بعض المُتبجِّحين على الإنترنت يستخدمون صورا للمشاهير ويقولون إنّها "ملكية عامة" على الرغم من كون هذه الصور شخصية جدا؟ مَن يمتلك هذه الصور حقا؟

عموما، فإن نظام الملكية في كل بلد مختلف، وهناك متطلبات مختلفة مُطبَّقة لاعتبار الشيء "ملكك" وفق قوانين الملكية. على سبيل المثال، في القانون العام البريطاني، يجب استيفاء أربعة متطلبات رئيسية لاعتبار شيء ما "مملوكا" لك: اليقين، والحصرية، والتحكم، وإمكانية التنازل عنه (6).

تُلبِّي البيانات المحفوظة في سحابة البيانات الشخصية للمستخدم تلك المتطلبات: يمكن تحديدها بالتأكيد، كما أنّ الفرد يتمتع بالقدرة على منع الآخرين من الوصول إليها، ويمكن بوضوح ممارسة السيطرة على تلك البيانات، كما يحق لك التنازل عن تلك البيانات أو نقلها إلى أي طرف ثالث (إذا أردت). لكن هل يتوقَّف الأمر فقط على الملكية؟!

يجب أن تُوفِّر "حقوق البيانات" نظاما للرقابة والحماية أكثر شمولا من "الملكية"، لأن الأمر لا ينطبق فقط على نوع واحد من البيانات كما أسلفنا، فهناك البيانات التي يجمعها الآخرون عنك، بعلمك أو بدونه، وهناك الأفكار والاستنتاجات التي توصَّلوا إليها بشأنك. من تلك الوجهة، فإن "ملكية" البيانات تُعَدُّ طريقة مَعيبة وذات نتائج عكسية عندما يتعلَّق الأمر بالتفكير في البيانات، فهي لا تحل المشكلات الموجودة، بل تخلق أخرى جديدة.

لهذه الأسباب، أطلق الاتحاد الأوروبي "قوانين اللائحة العامة لحماية البيانات" (GDPR) بحيث يُوفِّر حماية وحقوقا أكبر للأفراد، يهدف القانون أيضا لتغيير كيفية تعامل الشركات مع معلومات العملاء، مع وضع غرامات كبيرة تصل إلى 500 ألف يورو، وإلحاق الضرر بسُمعة أولئك الذين يخالفون القواعد.

تشمل قائمة الحقوق التي يُقدِّمها القانون العام لحماية البيانات (GDPR) للأفراد كلًّا من: الحق في الحصول على المعلومات، وحق الوصول للمعلومات، والحق في التصحيح، والحق في المسح، والحق في تقييد معالجة البيانات، والحق في نقل البيانات، والحق في الاعتراض، وكذلك الحقوق المُتعلِّقة بآليات صنع القرار والتنميط.

لا يُعَدُّ القانون الأوروبي التجربة الوحيدة في هذا الصدد. ففي إطار مشابه، يفرض قانون خصوصية المستهلك في كاليفورنيا (CCPA) على الشركات أن تمنح المستخدمين في كاليفورنيا بالولايات المتحدة خيار إيقاف بيع معلوماتهم الشخصية. يستخدم الناس قرارات إيقاف البيع لعدة أسباب، إما لأنهم يريدون الخصوصية، وإما لأنّهم لا يريدون لعمالقة التكنولوجيا أن يتربَّحوا ماديا من بياناتهم، لكن ماذا لو قرَّروا استخدامها لغرض تجاري، بمعنى أن يُقرِّروا بأنفسهم بيعها والاستفادة منها؟!

النفط الجديد: البيانات

صورة ميدان

"وساطة البيانات" هي مجال تجاري يُدِرُّ مليارات الدولارات، ويتمثَّل في شركات تجمع المعلومات من النشاط عبر الإنترنت، وخارجه، وتُعيد بيعها لشركات أخرى لأغراض التسويق. كلما زادت معرفة الشركات بالمستهلكين، زادت قدرتها على استهدافهم وزادت فرص نجاحها في تقديم الإعلانات بفاعلية أكبر، لذلك، دائما ما يسعى وسطاء البيانات إلى جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات.

الأمر يصل إلى أعمق مما تتصور، فعلى سبيل المثال، تستغل بعض الشركات تحيزات إدراكية للإنسان كي تبيعه منتجا ما، فإذا كان الواحد منا يُفضِّل تاريخ ميلاده ويتفاءل به أكثر من أي رقم آخر، هنا يمكن أن يكون سعر منتج ما هو 3 دولارات، وعيد ميلادك هو يوم 23 يوليو/تموز، فتعرض الشركة سعرا مختلفا للمنتج، خاصا بك تحديدا، وهو 3.237 دولارا، كي يشبه عيد ميلادك (به 23 و7 الذي هو شهر يوليو/تموز).

يمتد الأمر لأبسط الأشياء، حيث أشار الاقتصادي المعروف بينجامين شيللر ذات مرة إلى أنه إذا فعَّلت شركة "نتفليكس" آليات لتحليل بيانات التوزيع الديموغرافي مقارنة مع تاريخ بحث الجمهور على الإنترنت في خمسة من مواقع تقييم الأفلام مثل "روتين تومايتوز" أو "آي إم دي بي"، فإن أرباحها سترتفع بنسبة 14.6%، إنه رقم هائل بوضع حجم الشركة في النظر.

حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات، هناك أكثر من 4000 شركة وسيطة للبيانات حول العالم. "Acxiom"، إحدى أكبر شركات المجال، لديها 23 ألف خادم يجمع ويُحلِّل بيانات 500 مليون مستهلك حول العالم، بمتوسط ثلاثة آلاف نقطة بيانات لكل شخص. تذكَّر أننا نتحدث هنا عن شركة واحدة فقط ضمن آلاف الشركات.

وعلى الرغم من اعتباره مجالا جديدا نسبيا، فإن وسطاء البيانات لديهم بالفعل كمٌّ هائل من البيانات حول قطاع كبير من السكان حول العالم. في الواقع، فإن 80% من حسابات البريد الإلكتروني في الولايات المتحدة فقط مُسجَّلة في شركة "Towerdata"، و38% من معلومات رواتب الموظفين الأميركيين متاحة على "Equifax"، علاوة على ذلك، تحتوي قواعد البيانات مثل "CampaignGrid" و"ProPublica" على معلومات سياسية، بما في ذلك الانتماء الحزبي والمساهمات في الحملات الانتخابية، لـ 80% من الناخبين الأميركيين المسجلين.

هناك العديد من الشركات وأرباب الأعمال ممن هم على استعداد لدفع أموال طائلة مقابل هذه البيانات. على سبيل المثال، يبلغ متوسط سعر حساب البريد الإلكتروني الواحد 89 دولارا للعلامة التجارية التي تشتريه، مع نمو السعر بمرور الوقت (8)، لذلك لا داعي للغرابة حين نعلم أن الحجم السنوي لتجارة وساطة البيانات بات يتعدى 200 مليار دولار، ولا يوجد أيّ علامات تدل على أنه سيصبح أقل ربحية.

تعمل الشركات المختلفة بطرق أكثر اختلافا، لكنها عموما تبيع المعلومات في شكل جداول تضع المستخدمين في فئات محددة. تُقسَّم هذه القوائم حسب الاهتمامات والخصائص، مثل "عشاق اللياقة البدنية" أو "الآباء الجدد" أو "المدخنين الشرهين"، وبالطبع تبعث بعض هذه النوعيات من الجداول على التساؤل حيال شرعية هذا المجال، فقد باعت إحدى الشركات مثلا جداول بمعلومات حول 1000 شخص يعانون من حالات مرضية، مثل فقدان الشهية وتعاطي المخدرات والاكتئاب واضطرابات ما بعد الاغتصاب، مقابل 79 دولارا (9).

كيف تبيع روحك الرقمية؟

datacoup

تعمل شركات مثل "Datacoup" على التواصل مع الجمهور مباشرة وشراء بياناته، لأن معلوماتك -كشخص واحد- أكثر دقة وتفصيلا من البيانات العامة والمُملة ومنخفضة الجودة المتوفرة في أي مكان آخر. تختلف الأسعار من منصة إلى أخرى حسب نوعية المعلومات، هل معلوماتك جاهزة لإسالتها إلى أموال؟ قد تكون جالسا على منجم ذهب محتمل، لكن الأمر قد يكون مرهقا بعض الشيء، فهو ليس بهذه البساطة الظاهرة، حيث يجب أن تكون بيانات عملاء هذه الشركات موثوقة؛ لأن قيمتها تأتي من دقتها العالية وموثوقية مصادرها.

على جانب آخر، يجب أن تكون البيانات ذات صلة بأعمال الشركة التي تشتريها، بالطبع سيختلف الأمر من شركة إلى أخرى، ويجب أن تكون بياناتك مُقسَّمة في فئات ذات صلة لجعلها أكثر فائدة، يمكن مثلا أن تجمع تقاريرك الطبية على مدار السنوات ثم تبيعها لشركات الأدوية، بدلا من مجرد عرضها بشكل غير منظم وغامض. يريد وسيط البيانات معرفة ما يشتريه، لذا فإن التقسيم سيجعل بياناتك أكثر قابلية للتسويق، لكن لا بد أنك تسأل الآن: كم يمكنك أن تجني من المال مقابل كل ذلك؟

بعض الشركات مثل "Datacoup" كانت تدفع للمستهلكين 8 دولارات شهريا للوصول إلى حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وبيانات معاملات بطاقات الائتمان في فترة تجريبية، لكن هذا المشروع توقَّف قبل فترة، (10). ولكن بالنسبة للمبتدئين في هذا النطاق عموما، فمن المحتمل أن يكون توزيع الأرباح ضئيلا، يبلغ متوسط العائد السنوي لكل مستخدم على فيسبوك على مستوى العالم نحو 25 دولارا، وفي الولايات المتحدة وكندا على وجه التحديد قد يصل إلى نحو 130 دولارا أميركيا.

يُعلِّق رشاد على تلك النقطة لـ "ميدان" قائلا: "العائد المادي قليل لأن المجال يُعَدُّ جديدا فحسب"، مُضيفا: "لكننا نحتاج إلى نموذج اقتصادي مختلف لضبط حصة المستخدم، لأنّ ما نريده لتنجح هذه الفكرة هو الاقتصاد التشاركي، وهذا من الصعب التعامل به مع شركات الإعلانات، فمثلا، لا تستطيعين أن تُطالبي قناة "سي بي سي" بالدفع لكِ لمشاهدة إعلان سمن جنة الذي يتخلَّل المسلسل المُشَاهَد".

مونوبولي البيانات

في النهاية، إننا نعيش الآن داخل حرب عالمية ثالثة تدور بين القوانين التي تُطوَّر يوميا بهدف حماية بيانات الناس مثل "GDPR" أو "CCPA" وبين الشركات نفسها، وهناك نوعان من هذه الشركات، شركات تتضمَّن علاقات الطرف الثالث مثل "acxiom"، التي تعمد إلى شراء بياناتك الشخصية من طرف وسيط لا تعرفه ثم العمل على تحليلها بعد تحديد ملفات تعريف الارتباط في المتصفح الخاص بك (كوكيز)، وشركات تستخدم علاقات الطرف الأول وتجمع البيانات وتُوظِّفها بنفسها مثل فيسبوك.

وإليك سبب كون فيسبوك في وضع أفضل بالنسبة لقوانين المعلومات مثل "CCPA" أو "GDPR": أنت مَن أعطيتهم بياناتك. إن أول شيء تفعله عند شراء جهاز جديد هو تسجيل الدخول إلى فيسبوك أو إنستغرام أو واتساب، يطلب التطبيق اسمك ورقم هاتفك وعنوانك أو موقعك الجغرافي بوضوح وصراحة. تُفضِّل قواعد الخصوصية في لائحة كاليفورنيا وأوروبا علاقات الطرف الأول (First party) هذه، لكنها تتعامل مع البيانات الواردة من مكان وسيط، المعروفة باسم بيانات الطرف الثالث كالتي تجمعها "Acxiom"، بمزيد من الشك.

تُعَدُّ قوانين حماية خصوصية المستهلك الجديدة بمنزلة ضربة قوية للشركات التي تُتاجر ببيانات الجمهور. بعد وقت قصير من دخول اللائحة العامة لحماية البيانات حيّز التنفيذ، أعلنت شركات مثل "Drawbridge" أنها ستغادر السوق الأوروبية، ثم أعلنت أنها ستترك مجال الإعلانات تماما، لاحقا، أغلق فيسبوك نفسه برنامج فئات الشركاء (12) الذي استخدم آلية تعتمد على وسطاء البيانات مثل "Acxiom".

لكن على الرغم من ذلك فإن العمالقة، فيسبوك وغوغل، ما زالوا قادرين على تجنُّب ضربات نشطاء وقوانين الخصوصية، ببساطة لأنهم يجبرونك على علاقات الطرف الأول ما دمت مدمنا لتطبيقاتهم، لم تؤثر القوانين الجديدة إلا في الخصوم الصغار لفيسبوك وغوغل، ونحن نعرف أن كلًّا منهما يواجه حاليا مشكلات في الآلية التي يستخدم بها البيانات، وكان الكونغرس الأميركي بالفعل قد أخضع مؤسسي هذه الشركات للاستجواب للأسباب نفسها.

يبدو لنا أن البيانات ليست النفط الجديد بالمعنى المفهوم، النفط يُطرَح في الأسواق ويمكن لأي أحد شراء برميل واحد منه، أو مليون. دائما ما تكون هناك شركات متنافسة، بينما البيانات لن تكون كذلك أبدا، لأن أكبر مستودعات البيانات، فيسبوك وغوغل، لا تريدها أن تكون كذلك، وهذه حرب سياسية وقانونية أخرى قد ندخلها يوما ما، أو لا بد أن ندخلها!

———————————————————————————

المصادر

  1. Why Taylor Swift Is Using Facial Recognition at Concerts
  2. 23andMe’s Pharma Deals Have Been the Plan All Along
  3. Every moment of every day, mobile phone apps collect detailed location data.
  4. How Pizza Night Can Cost More in Data Than Dollars
  5. Personal Data Ownership
  6. (وفقا لرأي Mummery LJ في حالة Fairstar [2013] EWCA Civ 886 (19 يوليو 2013)).
  7. A Vault for Taking Charge of Your Online Life
  8. How much is your email address worth?
  9. Data Broker Was Selling Lists Of Rape Victims, Alcoholics, and ‘Erectile Dysfunction Sufferers’
  10. Could Californians get paid for data they share with Facebook, Google and others?
  11. I Sold My Data for Crypto. Here’s How Much I Made
  12. Facebook cuts ties to data brokers in blow to targeted ads
المصدر : الجزيرة