هيلا سيلاسي.. إمبراطور حكم إثيوبيا 60 عاما
هيلا سيلاسي زعيم وسياسي إثيوبي من مواليد عام 1892، ومن أبرز الشخصيات الأفريقية في القرن العشرين. حكم بلاده وصيا على العرش، ثم إمبراطورا لنحو 60 عاما، ويُنسب إليه تحديث المجتمع وإرساء الدولة المركزية بشكلها الراهن، ويُوجّه إليه اللوم في أحداث القمع والمجاعات والاضطرابات التي شهدتها بلاده خلال حكمه وبعده.
المولد والنشأة
ولد هيلا سيلاسي (وكان اسمه عند مولده تافاري ماكونين، لكنه غيره عندما أصبح إمبراطورا) في 23 يوليو/تموز 1892، بمدينة إيغارسا غورا التي تبعد نحو 18 ميلا عن مدينة هرر شرق إثيوبيا.
تعدّ أسرته من نبلاء قومية الأمهرة، حيث كان من أحفاد ساهيلا سيلاسي حاكم مملكة شيوا، وكان والده راس ماكونين ابن عم الإمبراطور منليك الثاني، الذي عينه كبير مستشاريه وحاكما لمنطقة هرر.
أما والدته ياشيمبيت علي فكانت من قومية الأورومو، وتوفيت بعد عامين من ميلاده.
الدراسة والتكوين
كان والد سيلاسي حريصا على أن يتلقى ابنه تعليما جيدا، فتلقى تعليمه الأول على أيدي رهبان إثيوبيين، فتعلم اللغة الأمهرية، ودرس اللغة الجعزية المستعملة في الطقوس الدينية بالكنيسة الإثيوبية، وتعلم كذلك اللغة الفرنسية على يد طبيب من المارتينيك كان مديرا لمستشفى هرر، قبل أن ينتقل للدراسة في مدرسة يديرها رهبان كاثوليكيون فرنسيون في المنطقة.
وحين خرج والد سيلاسي لقتال الإيطاليين في الحرب الإيطالية الإثيوبية الأولى عام 1895، عهد به إلى الأسقف الفرنسي آبا آندرياس، قائلا: "إذا مت فكن أباه، إني أعطيك إياه والباقي على الرب".
ثم تلقى تعليمه على يد الراهب الإثيوبي آبا صامويل، الذي تأثر به سيلاسي كثيرا في طفولته وأثنى عليه في مذكراته، وكان قد عايشه طوال 10 سنوات وشاهد موته بعد غرق زورق لم ينج منه إلا الإمبراطور المستقبلي وشخص آخر.
وقد أظهر الفتى سيلاسي سليل ملوك الحبشة نباهة في مقتبل عمره وجّهت له الأنظار في البلاط الملكي، فعُهد له بمسؤوليات تقليدية تبعا لذلك، منها تنصيبه حاكما لإحدى البلدات وهو في ريعان صباه، ثم تلقى التكوين السياسي التقليدي الذي توفره أعراف البلاط لأبناء سلالتها.
التجربة السياسية
بعد وفاة منليك الثاني عام 1913، تولى الحكم حفيده ليج ياسو، لكن هذا الإمبراطور واجهته اتهامات باعتناق الإسلام مما أضعف سلطته، فبادر سيلاسي إلى تزعم القوى المسيحية المعارضة له، ونجح في خلعه سنة 1916، ونصب زوديتو ابنة منليك الثاني في منصب الإمبراطورة، وأصبح سيلاسي وصيا ووريثا للعرش.
وابتداء من عام 1920، تمكن سيلاسي من تعزيز السلطة المركزية للدولة وجمع السلطات تدريجيا في يديه، وأسهمت إجراءاته في تحسين أوضاع الشعب وزيادة أعداد المتعلمين. فقد أنشأ المدارس وقوّى أجهزة الشرطة وألغى الضرائب الإقطاعية وقلّص امتيازات الطبقات التقليدية.
نجح الأمير في تجسيد آمال الشباب الإثيوبي بأفكاره وخطواته التي عُدت تقدمية، فتمكن من ضمّ بلاده إلى عصبة الأمم عام 1923، وألغى العبودية، وزار عواصم عالمية في ممارسة لم تعهدها بلاده.
وبعد وفاة الإمبراطورة زوديتو، نُصب رسميا إمبراطورا في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1930، واتخذ لنفسه اللقب الإمبراطوري "هيلا سيلاسي" ومعناه "قوة الثالوث"، أما لقبه الرسمي فكان "الأسد القاهر من سبط يهوذا، صاحب الجلالة الإمبراطوري ملك الملوك سيد السادة المصطفى من الله".
وفور اعتلائه العرش عام 1931، بادر إلى وضع أول دستور مكتوب للبلاد يكرس صلاحيات واسعة تحت يديه.
مقاومة الغزو "الفاشي"
لم ينعم سيلاسي بالعرش طويلا، فقد توجّب عليه التصدي للغزو الإيطالي الذي بدأ عام 1935. ويصف في خطابه الشهير أمام عصبة الأمم كيف حاول بكل السبل تجنب المواجهة مع إيطاليا وتحمل "استفزازات النظام الفاشي"، بيد أنه لم يلبث أن اضطر إلى مغادرة البلاد بعد أن قرر مجلس الوزراء والأمراء ضرورة خروجه إلى المنفى مع اجتياح إيطاليا البلاد، فخرج مع عائلته عبر جيبوتي ثم إلى القدس، قبيل أيام من دخول إيطاليا وحلفائها أديس أبابا وإعلان موسوليني ضمها.
وفي هذه الحقبة، اشتهر بالخطاب الذي ألقاه أمام منظمة عصبة الأمم في جنيف في 30 يونيو/حزيران 1936 مدافعا عن حق بلاده، وطالبا العون في مواجهة الغزو الذي شنه نظام موسوليني، ومثّل الخطاب مرافعة أيقونية عن حقوق الشعوب الضعيفة في المساواة والحماية أمام أطماع الدول القوية.
انتُقد خطاب سيلاسي بسبب الاعتقاد الذي كان سائدا لدى بعض الدول القوية حينها من كون الوضع في أوروبا "يفرض مهما كان الثمن الحصول على رضا إيطاليا"، مما يعني التخلي عن استقلال إثيوبيا أمام أطماع الحكومة الإيطالية، فخاطب سيلاسي المجتمعين قائلا "إذا اعتقدت حكومة قوية أنها تستطيع تدمير شعب ضعيف بلا رادع، فإنه قد حان لهذا الشعب أن ينادي عصبة الأمم لكي تعبّر عن مواقفها بكل حرية، وإن الله والتاريخ سيذكران حكمكم".
خلال سنوات منفاه، فضلت بريطانيا في البداية الحذر في التعامل معه رغم إقامته على أراضيها، وذلك خوفا من أن يدفع دعمه إيطاليا نحو النظام النازي في ألمانيا. ولكن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية واتضاح خطوط التحالفات، حصل على دعم قوي من بريطانيا وعاد إلى السودان، حيث كوّن جيشا واجتاح إلى جانب القوات البريطانية إثيوبيا عام 1941.
تحديث المجتمع
استأنف سيلاسي بعد عودته من جديد إلى إثيوبيا سياساته الداخلية التي تمثلت في تنفيذ إصلاحات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي وتحديث المجتمع ونشر التعليم، وبالتوازي واصل انتزاع السلطات من الطبقات النافذة التقليدية وتركيز السلطة بين يديه ليحكم وحده، وضرب بعض خصومه ببعض، وعزز من سلطته بوضعه دستورا جديدا عام 1955 يوسع صلاحياته التي كانت واسعة بالفعل وفق الدستور السابق.
ومع مطلع الستينيات من القرن الماضي بدأت بوادر التململ من سياساته الداخلية تظهر على السطح، فقد بات تباطؤ وتيرة الإصلاحات ملموسا وازدادت أعداد المتعلمين في المجتمع، فيما ظل دور الصحافة والبرلمان شكليا في نظام يحكم فيه الإمبراطور قبضته على كل شيء.
وضمن هذا السياق تلقى عرش الإمبراطور أولى الهزات مع محاولة انقلاب، وذلك بعد صدامات مع الانقلابيين الذين سيطروا بالفعل على العاصمة أديس أبابا، لكن هذه المحاولة أفشلت في ديسمبر/كانون الأول 1960.
الوحدة الأفريقية
شكلت الوحدة الأفريقية أحد أهم أركان سياسة الإمبراطور، ومنحته جانبا من تأثيره المعنوي الملموس في القارة السمراء، وهكذا كان من كبار دعاة الوحدة الأفريقية، وكان يُنظر له في أفريقيا على نطاق واسع باعتباره رمزا من رموز العزة الأفريقية وإحدى أيقونات الاستقلال، حيث حكم بلدا لم يخضع لاستعمار مباشر باستثناء 5 سنوات دخلت فيها إيطاليا البلاد (1936-1941)، ولم تستطع ترك أثر استعماري بعيد المدى كما في بقية بلدان المنطقة، بسبب المقاومة النشطة.
بعدما شهدت تلك الفترة من خميسنيات وستينيات القرن الماضي موجات تحرر البلدان الأفريقية من نير الاستعمار، استطاع سيلاسي تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية (التي تحولت في 2002 إلى الاتحاد الأفريقي) وإعداد ميثاقها التأسيسي، وترأسها مرتين، واستضاف سنة 1963 في قمتها الأولى 32 بلدا أفريقيا، ثم جعل أديس أبابا مقر المنظمة الدائم.
ولم يكن دعم استقلال البلدان الأفريقية وحريتها إلا وجها واحدا من سياسة إمبراطور لم يسلم من التناقضات، فلم يسلم جيرانه من أطماعه التوسعية، بعدما ضمّ إريتريا في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1962 محولا إياها إلى ولاية إثيوبية، بعد إلغاء الوضع الفدرالي الذي كان يجمعها بإثيوبيا، وفجّر بذلك صراعا مريرا، لتستقل إريتريا لاحقا عام 1993.
في مواجهة الاضطرابات
شهدت البلاد في عهد سيلاسي مجاعات حادة، ولا سيما في الأقاليم التي كانت تشهد حركات تمرد على حكمه، فقد قُمع تمرد في منطقة وولو في شمال شرق البلاد، وصودرت مواشي السكان ومُنعت تجارة الملح، كما صودرت الأراضي بعد قمع ثورة في إقليم تيغراي.
وشهدت المنطقتان مجاعات في بداية عقد السبعينيات من القرن العشرين، أدت إلى وفاة ما بين 40 ألفا و80 ألفا من السكان، وحاول النظام التعتيم على الأوضاع، لكن انتشار أخبار المجاعة كان من العوامل التي عززت دوافع المناهضين لحكمه.
شهدت البلاد سلسلة اضطرابات واحتجاجات من الطلاب والجنود والعمال طوال أشهر هيأت الظروف لانقلاب قادة المجلس العسكري الإداري المؤقت ذي التوجه الماركسي والمدعوم من الاتحاد السوفياتي، والذي عرف اختصارا بـ "ديرغ" في 12 سبتمبر/أيلول 1974، وبذلك أسدل الستار على نحو 60 عاما من حكم الرجل الذي كان "طاغية في الداخل يُنظر إليه من الخارج على أنه بطل للحرية"، وفق تعبير المؤرخ الإنجليزي توماس باكنغهام.
وبعد الإطاحة به، تعرضت العائلة المالكة للملاحقة وأُعدم بعض أفرادها بالرصاص، فيما تفرق الناجون من القتل بين المنافي والسجون، وقد احتُجزت 11 سيدة من العائلة طوال 15 عاما، وباشر الانقلابيون إجراءات جذرية لتفكيك نظامه والتنكيل بأنصاره.
أساطير ومعتقدات شعبية
أحاطت هالة من الأساطير بشخصية "ملك الملوك"، حيث يُعتقد وفقا للمرويات التقليدية في إثيوبيا انتماؤه لذرية سليمان بن داود عليه السلام وزوجه ملكة سبأ المعروفة لدى العرب باسم بلقيس، كما تدّعي أسطورة شعبية أن راهبا أخبر أباه بعد أن عانت زوجته من إسقاط الحمل مرارا بأنه "سيولد له ابن بصحة جيدة، وسيعيش ويبني مجدا عظيما في البلاد، ثم يدمر بيديه كل ما بناه ويترك البلاد في خراب".
لكن أكثر الأساطير مبالغة هو ما تعتقده طائفة الراستفاريين أنه "مسيح مخلص"، أي أنهم يؤمنون به إلها مبعوثا لتحرير السود في العالم، وهي طائفة يتركز أتباعها في جامايكا، ومنهم المغني الشهير بوب مارلي الذي ساعد شخصيا في إنقاذ بعض أفراد عائلة الإمبراطور من القمع والملاحقة.
الإقامة الجبرية والوفاة
أعلن عن وفاته وفق الرواية الرسمية "لأسباب طبيعية" في 27 أغسطس/آب 1975 في أديس أبابا، بعد أقل من عام من الإقامة الإجبارية في قصره إثر الإطاحة به، لكن ظهرت لاحقا أدلة على أنه قُتل خنقا في سريره بناء على أوامر المجلس العسكري الحاكم.
عُثر على بقايا رفاته عام 1992 مدفونة بالقصر الملكي ونُقلت إلى إحدى الكنائس، ثم أقيمت له جنازة دينية بحضور أفراد من عائلته عام 2000، ودُفن في كنيسة الثالوث المقدس (التي بناها تخليدا لهزيمة الاستعمار الإيطالي) في أديس أبابا إلى جانب زوجته الإمبراطورة منين أسفاو.