حرب البلقان الأولى.. عندما فقدت الدولة العثمانية معظم أراضيها في أوروبا
اندلعت حرب البلقان الأولى في أكتوبر/تشرين الأول 1912، بين الدولة العثمانية واتحاد البلقان المكوّن من بلغاريا وصربيا واليونان والجبل الأسود بدعم من روسيا، وانتهت في 30 مايو/أيار 1913، بتوقيع معاهدة لندن.
أدّت الحرب إلى هزيمة الدولة العثمانية وسقوط أكثر من 125 ألف مقاتل من الجيش العثماني، و40 ألف مقاتل من جيش البلقان، وخسارة الدولة العثمانية معظم أراضيها في أوروبا، وإعلان قيام الدولة الألبانية.
أسباب حرب البلقان الأولى
من أهم أسباب حرب البلقان الأولى الضعف العسكري والسياسي الذي أحاط بالدولة العثمانية، مما أعطى دول البلقان فرصة توحيد الجهود ومواجهة الأتراك الذين وصلوا إلى المنطقة منذ أكثر من 500 عام، واسترجاع ممالك البلقان القديمة.
يضاف إلى ذلك الدور الكبير الذي لعبته الدول الكبرى في إشعال نار الحرب وتأجيج الفتنة لتحقيق منافعها، ولا سيما المملكة النمساوية المجرية وروسيا، إذ كانت تطمح هذه الدول إلى السيطرة على المضائق المائية وضم الدول الصغيرة إلى حكمها.
وكان العذر الذي قدمته هذه الدول لبدء الحرب هو أن الدولة العثمانية لم تطبق البند رقم 23 من معاهدة برلين، والذي يقضي بتنفيذ النظام الأساسي الذي وُضع لجزيرة كريت، وتنفيذ أنظمة أخرى مشابهة لكل الأراضي التركية التي تقع في أوروبا، ومن بينها بلاد البلقان التي استقلت اسما فحسب، وبقيت تتبع للدولة العثمانية.
بداية حرب البلقان
بدأت حرب البلقان الأولى بعد أن أرسلت حكومات صوفيا وبلغراد وأثينا بلاغًا بالحرب إلى الخارجية العثمانية من خلال معتمديها يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 1912، يحمّل الدولة العثمانية السبب في هذه الحرب.
البلاغ اتهم الدولة العثمانية بالاعتداء على البواخر اليونانية والاستيلاء عليها وعلى الذخائر والمعدات الحربية التي كانت مرسلة إلى الصرب، والاعتداء أيضا على الحدود البلغارية والصربية، وهو ما دفعهم إلى إعلان الحرب.
بدأت دول البلقان الأربع المدعومة روسيًا بمهاجمة الدولة العثمانية المدعومة نمساويًا من عدة اتجاهات، بهدف محاصرة الأخيرة والسيطرة عليها.
معارك حرب البلقان
واجه الجيش العثماني الجيوش الزاحفة من عدة محاور، وقد حدثت معارك متعددة على جبهات مختلفة، من أهمها:
سقوط أدرنة
تقع مدينة أدرنة عند ملتقى نهري مريج وطونجه شمالًا، ونهر أودرا شرقًا، وقد أحاطها العثمانيون بـ26 حصنًا صغيرًا أيام الحرب الروسية العثمانية، ثم أنشؤوا لها حصونا ذات أبراج صغيرة في الجهات الشرقية والشمالية والغربية، وحفروا حولها سلسلة من الخنادق، وأنشؤوا جملة من المواقع الدفاعية ذات المنعة الكبيرة.
في بداية الحرب، هجم الجيش البلغاري على أدرنة فوجد مقاومة شديدة، وأيقن أنها لا تؤخذ إلا بالحصار، فحاصرها في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 1912، وبدأ شن هجمات مدفعية ليلية عليها.
انضم الجيش الصربي الثاني إلى الحصار بعد مدة، وبعد 5 أشهر من الحصار سقطت المدينة في أيديهم يوم 26 مارس/آذار 1913، وأُسر جنود الحامية العثمانية، وغُنمت مدافعهم ومؤونتهم، واستسلم قائد القلعة محمد شكرو باشا، وتعرضت المدينة بعد ذلك لحملات نهب استمرت عدة أيام.
معارك الجيش الصربي
واجه الجيش الصربي الجيش العثماني على مسافة كيلومترات قليلة شمالي مدينة كومانوفو يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 1912، أي بعد إعلان الحرب بيومين، واستمرت المعارك بينهما عدة أيام.
وقعت المعركة الفاصلة يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1912، وانتهت بتراجع الجيش العثماني، وبخسائر بشرية بلغت 10 آلاف بين قتيل وجريح، بالإضافة إلى الخسائر المادية.
بدأ تقدّم الجيش الصربي تجاه المدن تباعا، فسيطر على مناستر، وألبانيا، وإيبك، وميتروفيتزا، ومدن أخرى إلى أن بلغ السواحل.
معارك الجيش اليوناني
واجه الجيش اليوناني الجيش العثماني في عدة معارك، أولها معركة ألاصونا، حيث سقطت المدينة من دون مقاومة يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 1912، تبعتها سرفنجه يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1912.
اتجه بعدها الجيش اليوناني إلى ينيجه واردار حيث واجه الجيش العثماني على مدى يومين لينسحب الأخير مخلفًا خسارة في جنوده قدرت بألفي مقاتل، و500 أسير، وهو ما اضطر قائد الجيش العثماني إلى تسليم سلانيك خوفا عليها من إراقة الدماء والقتل، ولا سيما أن الإمدادات البحرية القادمة للعثمانيين قد سيطر عليها الأسطول اليوناني.
كذلك سيطر الجيش اليوناني على كريبوفو وبريفيزا، وقيافه، والطريق الممتد بين يانيه وسهل أرطه.
استمرت المواجهات بين الجيش اليوناني والجيش العثماني الذي ظل يتراجع رويدا رويدا حتى احتمى بمدينة يانيه بعد سقوط مواقع عديدة بأيدي اليونانيين، وعندما أدرك العثمانيون عدم جدوى القتال لضعف جيشهم، أرسلوا رسولا إلى الجيش اليوناني لإعلان استسلامهم، وطلب الكف عن القتال، فاشترط اليونانيون تسليم السلاح، وقبل العثمانيون ذلك.
معارك الجبلين
واجه جيش الجبل الأسود الجيش العثماني في عدة مواقع، واستطاع السيطرة على مرتفعات القائمة غربي برانا يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 1912، ثم وصل إلى برانا وسيطر عليها. وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول 1912، سيطر على بلافا. وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 1912، احتل مدينة إيبك من دون مقاومة، ثم سيطر على دياكو، ودرين، وأرض المردة، ثم بحيرة أشقودره.
بعد ذلك حاصر جيش الجبل الأسود مدينة أشقودره في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1912، واستمر الحصار حتى 23 أبريل/نيسان 1913، إذ تم تسليم المدينة بسبب الجوع ونفاد الذخيرة والتعب الذي حل بالحامية العسكرية والأهالي.
الحرب البحرية
وعلى الصعيد البحري، هزم الأسطول اليوناني الأسطولَ العثماني، على الرغم من أن البوارج العثمانية أكثر من اليونانية، إلا أن الأسطول العثماني كان أقل كفاءة وسرعة وتجانسًا، وهو ما أدى إلى هزيمته وسيطرة الأسطول اليوناني على المجال البحري في المنطقة.
نهاية حرب البلقان
انتهت الحرب يوم 23 مايو/أيار 1913 بتوقيع "معاهدة لندن"، بعد تنازل الدولة العثمانية عن جميع الأراضي الواقعة غرب خط إينوس ميدا لدول اتحاد البلقان، كما أعلنت المعاهدة قيام دولة ألبانيا المستقلة.
خسائر حرب البلقان
عدت حرب البلقان كارثة كبرى، خسر خلالها العثمانيون أكثر من 80% من أراضيهم في أوروبا، وبدأ التدفق الكبير لنحو 2.5 مليون مسلم من تلك الأماكن إلى داخل الأراضي التي ما تزال تحت السيطرة العثمانية، واتهم رئيس الأركان ناظن باشا بمسؤوليته عن الهزيمة.
وأدّت الحرب إلى سقوط أكثر من 125 ألف مقاتل من الجيش العثماني، و40 ألف مقاتل من جيش البلقان.
النتائج السياسية لحرب البلقان
انعكست نتائج الحرب على الدولة العثمانية داخليًا، فهب المصلحون لتدارك ما يمكن تداركه، وأنشؤوا الأحزاب السياسية الإصلاحية من مختلف التيارات، وقد اجتمعت هذه الأحزاب في العاصمة الفرنسية في يونيو/حزيران عام 1913، ووضعت بنود اتفاق إصلاحي تدعو فيه إلى إصلاح التعليم والأوقاف، والعسكر، والمناصب السياسية، وغيرها.
أما خارجيًا، فتغيرت سياسة بعض الدول كألمانيا التي سعت إلى زيادة عدد المقاتلين في جيشها، لأن ميزان القوى العالمية قد تغير، وأعادت فرنسا الخدمة 3 سنوات في جيشها، وزادت روسيا جيشها كذلك، وعززت النمسا قواتها أيضًا.
وظلت الخلافات البلغارية مع صربيا بشأن تقسيم شمال مقدونيا، ومع اليونان على جنوب مقدونيا، وهو ما دفع بلغاريا لتسوية الخلافات بالقوة ومهاجمة كل من اليونان وصربيا، ونشوب حرب البلقان الثانية نهاية العام نفسه.