ميخائيل غورباتشوف.. آخر رئيس للاتحاد السوفياتي
ميخائيل غورباتشوف آخر رئيس لدولة الاتحاد السوفياتي، انخرط وهو شاب في صفوف الحزب الشيوعي، وترقى في مسؤولياته حتى ترأسه وقاد الدولة. شهد عهده محاولات إصلاحية أدى فشلها إلى استقالته في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991 وتفكك الاتحاد، وتوفي في 30 أغسطس/آب 2022 عن عمر ناهز 91 عاما.
المولد والنشأة
وُلد ميخائيل سيرجيفيتش أندريا غورباتشوف يوم 2 مارس/آذار 1931 في قرية بريفولنوي بمقاطعة ستافروبول جنوبي روسيا (كانت آنذاك تسمى الاتحاد السوفياتي)، لعائلة روسية أوكرانية فقيرة تعمل في الفلاحة.
تزوج من رايسا غورباتشوفا وأنجب منها طفلا واحدا.
الدراسة والتكوين
أكمل غورباتشوف مراحل تعليمه النظامي الأولية، وحصل على شهادة الثانوية عام 1950 بتفوق نال به الميدالية الفضية، وفي ذلك العام التحق بكلية الحقوق في جامعة موسكو لدراسة القانون فتخرج فيها بامتياز 1955. كما نال عام 1967 شهادة في الاقتصاد الزراعي من "مدرسة الكادر الحزبي" بمقاطعته (ستافروبول).
الوظائف والمسؤوليات
تولى غورباتشوف العديد من المسؤوليات التنظيمية في الحزب الشيوعي الحاكم (الحزب الوحيد في الدولة)، كان أولها توليه -إثر تخرجه في الجامعة- وظيفة في مكتب المدعي العام الإقليمي بمنطقة ستافروبول. ثم ترقى في المناصب الحزبية حتى أصبح وزيرا للزراعة (1979)، ثم رئيسا للبلاد (1985).
التجربة السياسية
دخل غورباتشوف المشهد السياسي السوفياتي من بوابة الحزب الشيوعي الحاكم الذي التحق به أثناء دراسته الجامعية عام 1952، قبلها انضم إلى كومسومول (رابطة الشباب الشيوعي) في عام 1946.
وفي عام 1956 أصبح مساعدا لمدير الدعاية الحزبية في منطقته بجنوبي البلاد، ثم أمينا عاما لرابطة الشبيبة الشيوعية (الكومسومول)، وفيها ترقى سياسيا حتى أصبح نائبا لرئيس اللجنة الإقليمية للحزب عام 1970، ثم رئيسا للجنة في 1978.
في 1971 نال غورباتشوف عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التي تحدد سياسات البلاد، واستدعي في 1979 إلى العاصمة موسكو ليكون أمينا للحزب مسؤولا عن الشؤون الزراعية (وزيرا للزراعة)، للاستفادة من خبرته التي اكتسبها من توليه فترة طويلة مسؤولية "منظم الإنتاج الزراعي" في ستافروبول.
أصبح عام 1980 عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي (الهيئة الرئيسية التي تضع سياسات الحزب الحاكم)، وحين تولى صديقه رئيس جهاز المخابرات السوفياتية (KGB) يوري أندروبوف رئاسة اللجنة المركزية للحزب (منصب يعادل رئاسة الدولة) في 1982 أمر بترقيته، وأسند إليه وضع سياسة البلاد في المجال الاقتصادي.
لم يعمر أندروبوف طويلا في السلطة فتوفي في فبراير/شباط 1984، وحل محله قسطنطين تشيرنينكو لكنه أيضا توفي سريعا في مارس/آذار 1985.
وبعد وفاة تشيرنينكو اختارت اللجنة المركزية غورباتشوف رئيسا للحزب وبالتالي تولى سدة الحكم، لكنه وجد البلاد تئن تحت وطأة عقود من الركود الاقتصادي، بسبب التراجع المستمر لمعدلات النمو والفاعلية الإنتاجية، وتكاليف الحرب الباردة، وبرامج سباق التسلح مع الأميركيين، وخسائر الاستنزاف الحربي
جراء التورط في المستنقع الأفغاني، وأزمة الحريات في الدولة.
حاول غورباتشوف أن يحدث تحولات في سياسة البلاد الداخلية والخارجية، فأعلن انتهاجه سياسة "الغلاسنوس" أي العلانية والشفافية في إدارة البلاد، وقدم خطة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية سماها "البريسترويكا" (إعادة البناء).
تضمنت سياساتُه الإصلاحية الداخلية في خطوطها العريضة الاهتمامَ بالديمقراطية وحقوق الإنسان، والتحول إلى اقتصاد السوق، وإلغاء احتكار الحزب الشيوعي للسلطة وحظر التعددية الحزبية، وزيادة استقلالية المؤسسات المحلية، وإطلاق سراح مئات السجناء السياسيين.
وعلى مستوى السياسة الخارجية، عمل غورباتشوف على إبعاد علاقات بلاده الدولية عن العسكرة، وسعى لتحسين روابطه مع الدول الغربية الرأسمالية والحد من التسلح. فبدءا من ديسمبر/كانون الأول 1987 وقعت موسكو وواشنطن عدة اتفاقيات للتخلص من الصواريخ النووية المتوسطة المدى في البلدين. كما خفضت موسكو قواتها التقليدية بأوروبا الشرقية.
وخلال 1988-1989 أمر بسحب جميع القوات التي شاركت في الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979 لمساندة الحكومة الشيوعية فيها، واكتمل ذلك الانسحاب في فبراير/شباط 1989. وفي 7 ديسمبر/كانون الأول 1988 ألقى غورباتشوف كلمة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك أعلن فيها نهاية الحرب الباردة.
لم يستطع غورباتشوف تطبيق خططه الإصلاحية كما ينبغي، فإضافة إلى كارثة مفاعل تشيرنوبل النووي في 26 أبريل/نيسان 1986، واجهته بدءا من عام 1989 مشكلات اقتصادية كبيرة في الإنتاج والتوزيع، واضطرابات قومية في مختلف الجمهوريات السوفياتية، وأحداث عالمية حاسمة مثل انهيار جدار برلين وخروج دول أوروبا الشرقية من العباءة الشيوعية.
وفي 1989 انتخِب في عهده أول برلمان ديمقراطي للاتحاد السوفياتي، وأنشئ منصب جديد هو "رئيس جمهوريات الاتحاد السوفياتي" لمعالجة النزوع القومي في الجمهوريات السوفياتية إلى الاستقلال، فانتخب البرلمانُ يوم 15 مارس/آذار 1990 غورباتشوف ليكون أول رئيس منتخب للاتحاد السوفياتي، وجمع معه رئاسة الحكومة الفدرالية ورئاسة الحزب الشيوعي.
وفي 17 مارس/آذار 1991 قرر غورباتشوف إجراء استفتاء شعبي عام حول الإبقاء على الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية واحدة، وأسفر الاستفتاء عن موافقة ما يزيد على 75% من المشاركين فيه على بقاء الدولة الاتحادية.
لكن مشاكل البلاد المختلفة فاقمت النقمة على سياسات غورباتشوف من أوساط داخلية عديدة، تصدرها قادة في الحزب والدولة شكلوا "لجنة الدولة للطوارئ" ونفذوا انقلابا عسكريا يوم 19 أغسطس/آب 1991، بحجة إنقاذ البلاد من الانهيار متهمين غورباتشوف بـ"فقدان الأهلية لقيادة البلاد"، لكن رئيس جمهورية روسيا الاتحادية بوريس يلتسن تصدى للانقلابيين فاعتقلوا جميعا.
عاد غورباتشوف يوم 22 أغسطس/آب 1991 إلى رئاسة البلاد، وفي اليوم الموالي قدم استقالته من رئاسة الحزب الشيوعي ممهدا الطريق لقرار أصدره البرلمان بحله. وفي ديسمبر/كانون الأول 1991 أعلنت كل من روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء استقلالها عن الاتحاد السوفياتي وتشكيل "رابطة الدول المستقلة".
وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 1991 التقى غورباتشوف ورئيس جمهورية روسيا يلتسين واتفقا على حل الاتحاد السوفياتي، رغم كون ذلك من اختصاص "مجلس السوفيات الأعلى" (أعلى هيئة تشريعية سوفياتية). وفي 25 ديسمبر/كانون الأول 1991 أعلن غورباتشوف استقالته من رئاسة الدولة، فكان ذلك إيذانا بتفكك الاتحاد السوفياتي فعليا ودخوله ذمة التاريخ.
أنشأ غورباتشوف في يناير/كانون الثاني 1992 "المؤسسة الاجتماعية الدولية للدراسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية" التي تعرف اختصارا بـ"مؤسسة غورباتشوف"، وهي مؤسسة بحثية صار لها دور نشيط في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية الروسية.
شارك منذ عام 1993 في أفلام وثائقية وظهر مرات في دعايات إعلانية تجارية لمطاعم وشركات أزياء، وذلك للحصول على أموال لتسيير مؤسسته.
في عام 1996، ترشح غورباتشوف لمنصب رئيس روسيا، لكنه حصل على أقل من 1٪ من الأصوات، ومع ذلك، ظل نشطًا في الحياة العامة، كمتحدث وكعضو في العديد من مراكز الفكر العالمية والروسية.
أعلن غوباتشوف ثلاث مرات عن إنشاء أحزاب سياسية أعوام 2001 (الحزب الديمقراطي الإجتماعي الروسي) و2007 (تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين)، و2008 (الحزب الديمقراطي المستقل الروسي) لكن دون جدوى.
في عام 2006، تعاون غورباتشوف مع الملياردير الروسي والنائب السابق ألكسندر ليبيديف لشراء أسهم نصف صحيفة نوفايا غازيتا المستقلة، المعروفة باستعدادها لتحدي سياسات الكرملين.
أيد غورباتشوف السياسات التي اتخذها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال فترة رئاسته الأولى (2000-2008)، لكنه اتهمه بعد ذلك -وخاصة منذ عام 2011- بـ"النكوص عن طريق الديمقراطية وحكم القانون".
وقال غورباتشوف إنه في عهد بوتين "جرى تهميش الناس حتى أصبحوا مثل بيادق الشطرنج"، وإن الحزب الموالي له ولرئيس وزرائه ديمتري ميدفيديف "ليس سوى نسخة سيئة عن الحزب الشيوعي السوفياتي"، منتقدا "إعادة البلاد إلى زمن حزب الدولة الواحد".
ورغم تسببه في انهيار الاتحاد السوفياتي، يعد غورباتشوف أحد رجال الدولة المقدرين لدى الكثير من الروس، وقد أقيم في قاعة خاصة قرب الكرملين معرض خاص لصوره الأرشيفية التي توثق مسيرته السياسية. وعلى المستوى الخارجي، يصفه الإعلام الغربي بأنه "رجل الديمقراطية الأول في روسيا".
في عام 2014، أيد غورباتشوف ضم روسيا لشبه جزيرة القرم خلال أزمة أوكرانيا.
المؤلفات
ألف غورباتشوف عدة كتب، من بينها: "وقت للسلام" (عام 1985)، "البريسترويكا: أفكار جديدة من أجل بلدنا والعالم" (1987)، "انقلاب أغسطس.. الحقائق والعبر" (1991)، "المذكرات" (1996)، "في بلدي والعالم" (1999).
الجوائز والأوسمة
مُنح غورباتشوف في 15 أكتوبر/تشرين الأول 1990 جائزة نوبل للسلام وذلك لـ"دوره القيادي في إحلال السلام الذي تتمتع به اليوم أجزاء هامة من المجتمع الدولي"، وفق ما قالته آنذاك لجنة الجائزة.
وفي 2004 نال "جائزة غرامي" (Grammy Award) الأميركية الموسيقية عن فئة الأطفال، لمشاركته بمقاطع من صوته في تسجيل ألبوم "الكلمات المنطوقة". كما حصل عام 2008 على "وسام الحرية" الأميركي لـ"دوره الشجاع" في إنهاء الحرب الباردة.