التعديات على الأملاك البحرية العامة في لبنان.. كيف تعكس عوائق استعادة الأموال المنهوبة؟

تبلغ الإيرادات السنوية لإشغال الأملاك البحرية نحو 15 مليار ليرة لبنانية أي ما يوازي نحو 10 ملايين دولار، بحسب شمس الدين.

الأملاك البحرية العامة تعكس تداعيات السطو الممنهج على الشاطئ منذ أيام الحرب الأهلية وفق مراقبين (الجزيرة)

تغزو شواطئ لبنان من الشمال حتى الجنوب مئات المنشآت التي يندرج معظمها تحت خانة "التعديات غير القانونية"، ورغم حصول بعضها على مراسيم تشريعية من وزارة الأشغال، فإنها توصف بالمشبوهة، وفق خبراء، نتيجة إقرارها بقوة "التنفيعات السياسية".

ومنذ عقود، صار ملف "الأملاك البحرية العامة" واحدًا من أبرز الملفات التي تعكس حجم الهدر والفساد، برأي كثيرين، لأنه من جهة يعدّ إرثا من عمليات "السطو الممنهجة" في الحرب الأهلية (1975-1989)، ومن جهة أخرى يشكل نافذة لاسترداد ملايين الدولارات المهدورة في البلاد.

تعديات بالأرقام

يعود الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين إلى نص القانون الذي يحدد نطاق الأملاك العامة البحرية بآخر نقطة يصل إليها الموج في الشتاء وشطوط الرمل والحصى، وبالتالي "لا يجوز بيع هذه الأملاك، ويمكن فقط تأجيرها بضوابط وشروط محددة، كأن يكون المستأجر يملك عقارًا متاخما للأملاك العامة البحرية".

وخلال الحرب الأهلية صدرت تراخيص تسمح بإشغال مساحات واسعة من دون مرسوم، فاعتبرت غير قانونية، وفق شمس الدين، و"حتى الذين حصلوا على مراسيم قانونية سجلوا مخالفات على أنواعها، كتوسيع مجالهم إلى مساحات غير مشمولة بالترخيص".

ويلفت الباحث في حديث للجزيرة نت، إلى أن مساحة الإشغالات العامة البحرية في لبنان تبلغ 4 ملايين و897 ألفا و302 متر مربع، من بينها مليونان و365 ألفا و938 مترا مربعا مرخصا، تشغلها 73 مؤسسة، مقابل مليونين و531 ألفا و364 مترا مربعا غير مرخصة، وتشغلها 987 مؤسسة. ليصبح مجموع المنشآت التي تشغل الأملاك البحرية 1060 مؤسسة، نحو 7% مرخصة و93% منها غير مرخصة.

وتبلغ الإيرادات السنوية لإشغال الأملاك البحرية نحو 15 مليار ليرة لبنانية (نحو 10 ملايين دولار وفق سعر الصرف الرسمي [1507])، بحسب شمس الدين، الذي يعتبر أن هذا المبلغ زهيد جدًا لأن تخمينات الأملاك البحرية كانت متدنية، إذ يدفع المستأجر للدولة نسبة 0.5% من قيمة المساحة المشغلة فقط، وليس 5% أو 10% كما توجب قوانين السوق، "أي ثمة غبن بحق الدولة لصالح أصحاب النفوذ والسلطة الذين سيطروا على الأملاك البحرية".

أما الإيرادات الفعلية لقيمة تشغيل هذه المساحات البحرية فـ"يجب ألا تقل سنويًا عن 120 مليون دولار".

ويذكّر شمس الدين بالقانون رقم 64 الصادر عام 2017، والذي يوجب تعديل واستحداث ضرائب ورسوم لمعالجة الإشغال غير القانوني للأملاك البحرية بدءًا من العام 1994، لكنه بدا قاصرًا، وفق رأيه، لاعتبارات عدّة:

  • أولًا، التعديات لا تحتاج قانونيًا لمعالجة وإنما إلى إزالتها فورًا، خصوصا وأن معظم المؤسسات السياحية على طول الشاطئ لم تحترم القوانين المرعية، فشيدت الحواجز وعزلت الأملاك البحرية المستثمرة لتمنع وصول المواطنين المجاني إلى الشاطئ الرملي.
  • ثانيا، السلطات الرسمية علقت مهل معالجة هذه التعديات بعد انتهائها في أكتوبر/تشرين الأول 2019، ولم تضع حدا لأصحاب التعديات الذين لم يقدموا ملفات معالجة بشأنها، مما دفع معظم المؤسسات لتجاهل قرار معالجة مخالفتها.
  • ثالثا، تسوية غرامات هذه التعديات على الأملاك البحرية، يجب أن تكون من تاريخ إشغالها قبل 1994، "لأنها تعود إلى خزينة الدولة -إذا أعادت تسوية التخمينات أيضًا- بما لا يقل عن ملياري دولار أميركي".

قوانين البرلمان

ومنذ عامين من بدء الانهيار الاقتصادي غير المسبوق (من خريف 2019)، تصاعدت المطالبات الشعبية باسترجاع ما يسمى "الأموال المنهوبة"، لا سيما بعد اتخاذ المصارف التجارية إجراءات استثنائية أدت لحجز أموال المودعين بالعملات الصعبة، كما خسرت العملة الوطنية أكثر من 85% من قيمتها نتيجة قفز سعر صرف الدولار الواحد إلى معدلات قياسية، من 1507 ليرات لأكثر من 13 ألف ليرة مؤخرًا.

وفي مارس/آذار 2021، أقر البرلمان اللبناني بعد ضغوط كثيرة "قانون استعادة الأموال المتأتية من الفساد"، استنادًا إلى الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وهنا، يوضح إيلي الفرزلي نائب رئيس مجلس النواب أن البرلمان قام بواجبه كاملا على مستوى قابلية تطبيق قانون استعادة الأموال المنهوبة محليًا، ووفر الظروف الموضوعية له، والمشكلة -وفقه- تكمن في قوانين الدول المعنية التي هُرّبت الأموال إليها، ولكل منها ظروف وحيثيات إجرائية ومصرفية.

وقال الفرزلي للجزيرة نت إن "البرلمان أوجد المرجعيات القضائية التي تنظر في ملف الأموال المنهوبة، على أن ترفع السرية المصرفية عن كل شخص يجري الادعاء القضائي عليه بناءً على الاتهامات الموجهة إليه".

ويوضح الفرزلي أن تشكيل هيئة وطنية لمكافحة الفساد هو مهمة الحكومة وليس البرلمان، وأن الأخير عمل على إقرار القوانين المتعلقة بالقضايا الإصلاحية، "كما يعمل على إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية".

 

تقنين الفساد

تعتبر الأكاديمية والباحثة في القوانين المصرفية والمالية سابين الكيك أن المراسيم الصادرة في ملف الأملاك البحرية تعكس أزمة "تقنين" الفساد في لبنان، والتي تعيق بالتالي استرداد الأموال المتأتية عنه.

وتنطلق الباحثة -في حديث للجزيرة نت- من مفهوم الفساد المرتبط بالأموال العامة، والتي تعود ملكيتها للصالح العام أو لمؤسسات الدولة، ويشمل كل الجرائم المتعلقة بالموظفين العامين، وفق القانون 175/220، أو من استغلوا نفوذهم وتجاوزوا حدود صلاحياتهم للاستفادة من الأموال العامة، عبر المناقصات والاتفاقيات وغيرها من النوافذ.

وتشير الكيك إلى أن جرائم الفساد بلبنان تأتي عن طريق الإثراء غير المشروع والرشاوى، وهي لا تعني بالضرورة بلوغ صاحبها المنفعة المباشرة التي يسعى إليها، "لأن المنفعة قد تكون غير فورية، بل لاحقة أو مؤجلة، خصوصًا وأن الجريمة تبدأ بلحظة السعي لتحقيقها".

وتذكر الكيك أن الفساد الفعلي لم يشمل خزينة الدولة بالليرة اللبنانية فحسب، وإنما أتى أيضًا عبر سندات الخزينة بالعملات الأجنبية المعروفة باليوروبوند.

عوائق استرداد الأموال

وتصف الكيك قانون "استعادة الأموال المنهوبة" بالهجين، نظرًا لارتباطه بهيئة مكافحة الفساد التي لم تشكّل بعد، ولا يوفر كامل شروط رفع السرية المصرفية، فيصبح عالقًا عندها.

وتضيف الكيك أسبابا أخرى تعيق تنفيذ القانون، منها:

  • أولا، استعادة الأموال المنهوبة ترتبط بصدور حكم قضائي مبرم يجرم الشخصية أو الجهة التي توجه إليها تهمة النهب من المال العام، ويحتاج إثباتها لمسار قضائي طويل لم يسبق إنجازه بأي من الملفات التي تحوم حولها شبهات الفساد في لبنان.
  • ثانيًا، لا يمكن استعادة الأموال المنهوبة من دون دعم الملفات ببراهين قضائية وافية ومقنعة للدول في الخارج.
  • ثالثا، حتى لو تشكلت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تترصدها عقبات كبيرة، إذ يترأسها قاضٍ، وتضم 6 أعضاء، اثنان منهم يجب أن يكونا على لائحة قضاة الشرف لدى مجلس القضاء الأعلى، ويختارهما وزير العدل، وعضو آخر يجب أن يكون متخصصا بالإدارة يرشحه وزير الشؤون الإدارية، وعضو خبير بالشؤون المصرفية تسميه هيئة الرقابة على المصارف، مما يعني، وفق الباحثة، أن تركيبة هذه الهيئة تشوبها تدخلات سياسية، الأمر الذي يثير الشكوك حول مدى شفافية عملها.
  • رابعًا، تكمن المشكلة في طبيعة القانون لاستهدافه الأموال المتأتية عن الجرائم الفردية، انطلاقًا من مفهوم الموظف العادي، بدل مساءلة رأس الهرم في السلطات والقائمين على أجهزتها الرقابية.

لذا، ترى الكيك أن ثمة استحالة في تطبيق قانون استعادة الأموال المنهوبة راهنًا، في وقت لم تُحدد فيه قيمة الأموال التي يراد استردادها.

أما المعبر الإلزامي لاسترداد الأموال المنهوبة، وفق رؤية الباحثة، فيبدأ بالتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان ووزارة المالية، ومن خلالهما يظهر مسار حركة الأموال عبر كشوفات حسابية تتضمن موازنات أكثر من عقدين، و"إلا سيبقى القانون حبرًا على ورق".

المصدر : الجزيرة